“تسابيح النسيان”.. أنشودة الحياة بين “كان” و”سأكون” !

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ها أنا ذا أعود من جديد الى النص النثرىّ البديع "تسابيح النسيان " بعد أن كتبتُ عنه منذ فترة ما يشبه التنويه ، وهأنذا أعترف فى البداية أننى انحزتُ الى فكرة أن أقدّم النص الى القارئ بطريقة غير تقليدية لأنه فعلاً نص غير تقليدى ، لا بل إننى فكرت أن أكتب ما يشبه النص الموازى الذى يقدّم مفاتيح وإشارات دون أن يحللّ أويقوم بالتفكيك التفصيلى ، ولكنى عدتُ شاعراً بالذنب لأن النص يستحق أيضاً مقالاً إضافياً تفسيرياً مباشراً . مأزق الناقد فى أنه يقوم بعمل هو تقريباً عكس ما يقوم به المبدع ، فإذا كان الأخير يبنى ويركّب، فإن الأول يفكّك ويفتّت ، هو أيضاً أقرب الى المرشد السياحى الذى عليه أن يشرح ويفسر مغانى ومناطق الجمال فى أعمال هى أقرب ماتكون الى المدن ، ولكنه أيضاً وبالأساس قارئ ومتذوق يريدُ أن يصنع نصّاً موازياً يقول ولا يقول ، يريدُ أن يضبط نغمته على نغمة النص ، يحلم بأن يقول من نفس المقام، ومن نفس السلّم الموسيقى ، كيف يغنى "ناجى "مثلاً من مقام الصبا فأكتب أنا من مقام الحُجاز ؟ ، كيف يستخدم "ناجى "مائة لون وأكتب أنا بالأبيض والأسود ؟ كيف أشرح النص دون أن أقوم بتسطيحه ؟ أظن أن الحل هو أن يكتب الناقد أكثر من مرة وبطريقتين  مختلفتين لكى لايفوته شئ فى أعمال هى كثيفة بطبيعتها .

"تسابيح النسيان " عمل مختلف تماماً عن روايات "محمد ناجى" وإن كان يسأل أيضا نفس الأسئلة ، لم يكن "ناجى" عاجزاً عن أن يكتب أفكاره وأسئلته فى صورة رواية تقليدية، أو حتى غير تقليدية . اتفقنا من قبل على أنه لاتوجد مشكلات تقنية عند هذا الروائى الذى ينتمى بالقطع الى كُتّاب الطبقة الأولى ، بل إنه يستطيع أن يأخذ من كل مذهب أدبى مايريد وبالقدر المنضبط بحيث تأتلف كل التناقضات فى لوحة واحدة من واقعية خشنة الى رومانسية عذبة ومن سخرية لاذعة الى مأساوية مرهقة ، ومن الأساطير الى الحكايات الشعبية ، أظن أنه لو ولد قبل عصر الرواية لكان راوية يمسك رباباً ليحكى ويعيد ويزيد . لم يكن يعجزه أيضا أن يكتب قصيدة شعرية صريحة لأن لغة روايات "ناجى" ترقى الى مرتبة الشعر، خاصة فى وصف مشاهده الأسطورية ، ولكنه اختار ألا يكتب رواية، وألا يكتب قصيدة طويلة ، لقد وصفتُ "تسابيح النسيان " بأنها "مونولوج نثرى " ، والآن سأشرح لك ما أردت قوله : هناك حالة من الإمتلاء العقلى بالأساس هو الذى دفع الى تأمل الحياة من زاوية ناجى الأثيرة : "الذاكرة" ، الرواية (طويلة أو قصيرة ) لن تسعف هذا "الإمتلاء" الذى يكاد ينفجر فى شكل أفكار صريحة مباشرة كأن تقول مثلا : العمر يا أصدقائى ليس بالسنوات وإنما بأبواب الرجاء والأمل المفتوحة . روائياً يستطيع "ناجى" أن يبتكر شخصية ثم يجسمها الى شخصيات ويستدعى الواقع والأسطورة والأغنية الشعبية والمواويل لقول هذا المعنى السابق المباشر بطريقة ماكرة، ولكن هناك مشكلتين : الأولى هى أن الفكرة فى "تسابيح النسيان" ليست موجة واحدة بسيطة، ولكنها موجات هائلة مضطرمة وكأنها انفجار من الشهادات ، ليست نغمة وتنويعات ولكنها نغمات ومئات التنويعات . المشكلة الثانية أن اللاعب الماهر الذى يتخفى وراء الراوى فى روايات "ناجى" لن يستطيع أن يصمد أمام "ناجى" نفسه الذى يريد أن يقول : " فلتكن هدنة من لعبة تحريك الشخوص والعرائس ، أريد ان أكون أنا وأن أتحدث بلسانى أنا " . لاحلّ هنا إلا بهذا الحديث مباشرة عن الذات لأنه أقصر طريق، ولكن "ناجى" فنان حتى النخاع ، ولذلك اختار لهذا المونولوج النثرى التأملى لغة شعرية كثيفة ثم قام بتمزيق السطور الى ما يشبه أبيات مشطورة مما أحدث الجدل الشهير حول ماهية "تسابيح النسيان " : هل هى شعر أم نثر ؟ فى رأيى انها نثر لسبب بسيط هو أنها كتبت "بمنطق الفكر الخالص المتأمل" ، ولكن "ناجى" لم يجد لغة تحمل كثافة الأفكار إلا هذه اللغة التى اعتادها أيضا فى رواياته . وهكذا وجد "ناجى" المعادلة ربما لاشعورياً : أفكار مجرّدة لا تهبط الى مباشرة المقال الأدبى البسيط بفضل اللغة الشعرية وبعص الصور والتراكيب، ورحلة فى الذاكرة الشخصية دون أن تنفصل الى شخوص رواية مسقلة ، كان المونولوج النثرى كثيف العبارة حلاً مثاليا لروائى كبير قرّر أن يتأمل مباشرة عبر ذاته بعد أن عاش سنوات وهو يتأمل عبر شخصيات اخترعها وكان نجاحه الأكبر فى أن يجعلها تبدو وكأنها مستقلة عن مبدعها . بدا لى أن "الفكر" أقوى من "العاطفة" فامتنع الشعر الخالص ، وظهر لى أن "الذات الصارخة " أقوى من اللاعب المحترف فامتنعت الرواية.

أما فيما يتعلق بتحويل السطور الى ما يشبه الأبيات المشطروة فقد اعتبرته بعد أكثر من قراءة بمثابة استراحة تخدم منطق التأمل أكثر مما تخدم شكل الشعر ، هو أيضا تصرّف موفق يشبه عندى أن تزيد المسافة بينك وبين اللوحة الفنية فتراها أوضح وأعمق ، ولكن هذا التصرّف لايلغى أى تصرّف آخر يؤكد تماسك المونولوج الواضح لدرجة أننى وصلت الى حلول متطرفة وغريبة كأن يُنشر النص نفسه بنفس العبارات ولكن بدون تشطير ، وإنما على شكل كتلة واحدة من الجمل المتجاورة على نفسْ واحد ( بدون علامات ترقيم أو عناوين ) على طريقة تيار الوعى عند “جيمس جويس “مثلاً . أردتُ فقط أن أبرهن على أننا أمام طوفان من الأفكار المجردة التى صيغت باسلوب ولغة شعرية كثيفة ، هذا هو جوهر “تسابيح النسيان ” . ليست المسألة إذن صراع بين شعر ونثر ولا حتى فى التساؤل الساذج :منْ أرقى ومنْ أدنى ؟ ، ولكنها مسألة ماذا تقول وكيف تريد أن تقول بأفضل وسيلة . المسألة فى أن يذوب الشكل والمضمون فى بناء متماسك ، وفى كل الأحوال لا اللغة الشعرية تعطى النصّ ( أى نص ) صك الجودة التلقائى ، ولا اللغة السردية العادية تقلل من شأن النصوص ، المسألة فى الإختيار والمناسبة بين الشكل والمضمون .

ولكن الكتابة عملية شديدة التعقيد ، والتفسير سابق الذكر يستهدف فقط التحليل والشرح ، فلمّا خرج نص “تسابيح النسيان ” اكتشفنا أن “ناجى” المفكر لم يستطع ( ولن يستطيع ) أن يزيح “ناجى” الروائى أو “ناجى” الشاعر ، وإنما امتزج الثلاثة معاً وهذا سرّ سحر هذا النص الفريد ، صحيح أن عجلة القيادة كانت فى يد “ناجى” المفكر المتأمل المهموم بالأسئلة الكبرى، ولكنه لم يستطع أبداً الإنفراد بالسرد . ظلّ باقياً من “ناجى” الشاعر هذه القدرة على تبسيط وتجميل الصياغة بشكل فنى . يريد مثلاً “ناجى” المفكر أن يقول شيئا عن “الموت ” فيقوم ناجى الشاعر بتحويل الكلمة المباشرة الى ” السقوط فى آخر العمر خلف المدار ” . المفكر يريد أن يصف العدم فيقول الشاعر “فلنطلق عليه كلمة العتمة” وهكذا ، أما “ناجى” الروائى فيقوم بهندسة البناء كله على طريقة تآلف المتناقضات وتعدد الوجوه كما فى كل روايات “ناجى” ، هو أيضا الذى يعطى لكل حزمة من الأفكار والتأملات عنواناً دالاً ،ثم هو أيضا الذى يستدعى التسليم والتسلّم من فكرة الى أخرى  والإنتهاء بالدائرة المفتوحة المعتادة حيث “لا عدم طالما أن هناك ذاكرة “، ولذلك قلت إن بناء “تسابيح النسيان ” أشبه بأبواب تفتح على حجرات متداخلة : بابٌ يفتح على مريض فيقودنا الى باب يفتح على عاشق فمتأمّل فأسئلة باتساع الوجود فنهاية الرحلة ثم ينفتح العدم من جديد على نغم يبقى فى أوتار الرباب فتنفتح الدائرة من جديد . الروائى هو ايضا الذى يستدعى نموذج “ناجى” المفضّل : المرأة متعددة الوجوه وكأنها الحياة نفسها ، فى التسابيح امرأة من لحم ودم نكاد نراها ولكنها سرعان ما تختلط بالحياة ، كلتاهما ( المرأة والحياة ) امتزجت تجربة “ناجى” معهما بالألم واللذة وكأنهما وجهان لعملة واحدة ، وكلتاهما غامضتان لا نصل أبدا الى “السرّ” معهما ، وهى فكرة تتردد كثيرا فى روايات “ناجى” وفى شخصياته النسائية  من “نازك” الى “مباهج” الى “كاترين” الإفتراضية ، وكلاهما يتعلق بهما الإنسان وكأن عشق المرأة وعشق الحياة صنوان : ( وأحُطّ على كبدى فى ختام الطواف لأنبش فيه خرائط عشقك ) .

لم يزل الروائى يمارس لعبته أيضا فى العنوان الماكر ، المونولوج عن الذاكرة المتأملة فى أسئلة الوجود وفى حيرة الإنسان وغربته بين “كان ” و”سأكون ” ، بين إرادة خلقته ، وإرادة يريد هو أن يخلقها ، بين عدم ينتظره ، وحلم بالخلود يمكن أن يحققه بالذكرى ، ولكن العنوان يتحدث عن تسابيح للنسيان ، و”التسابيح” تعنى الذكرْ ، فكيف نذكُر النسيان ؟ حتى اللقطة الإفتتاحية تتساءل : “آه أيها النسيان / بأى الألوان ستغطى عيونى فى المشهد الأخير ؟ ” ، ولكن سرعان ما يتحول الحديث الى الذاكرة التى تقاوم العدم ، الى المرأة / الحياة ، الى الأصدقاء الغائبين بالموت ، الى تأملات عن حرب الإنسان ضد الزمن وضد الفناء ، الى أوهام الحرب والمجد المزيف ، الى داء العشق الذى نموت به ، الى الوحشة والإغتراب ، الى قيمة الإنسان وموقعه فى الحياة ، هل هو ينتمى الى الأسمى/ السيد أم أن حياته عبث كونه مطية من هباء .  تختلط ألوان المونولوج (رمادى وأخضر ووردى) ، وتختلط الأصوات ( طبول وكمان ورباب ) ، وتختلط التعبيرات مابين الآه والآه ، تمتزج النشوة بالألم ، وتخرج الحياة من قلب العدم إذ تبدو الذاكرة بديلا للحياة ، ويبدو البشر كما لو كانوا كائنات طافية على سطح نهر الذاكرة العظيمة ، كل منا يخلع رداء جسده ويتحول الى ذاكرة باقية كجزء من ذاكرة الإنسانية ، يصمد منطق “سأكون” أمام منطق “كان” ، تنتصر الذكرى على النسيان فتنفتح دائرة العدم ، تتحول كلمات “جبران” من :” إنما الناس سطورٌ كتبت لكن بماء ” الى : “إنما الناس سطورٌ كتبت لكن بذكريات باقية ” .

على قدْر الرجاء يُقاس العمر من سعيد الرجاء الى قليل الرجاء الى خائب الرجاء ، على قدْر العشق يكون الألم المنقوش على الكبد العليل ، على قدْر الغياب تكون الوحدة ، على قدْر الإجابة تنفتح أبواب الأسئلة ، على قدْر إدراكنا لمعنى “كان” تتشكّل إرادة الحياة / “سأكون ” ، ويبقى مغزى المونولوج الإنسانى والفلسفى :

يا من ذهبت ستعيش فى الذكرى

يا من سقطت خلف المدار ستحيا فى الأوتار

يا من ذهبت ستعود

لن يهزمك النسيان

يا من كان ستكون

سنرتل تسابيحك

بين نغم وعدم .

أجمل ما تشعر به بعد قراءة “تسابيح النسيان ” هو الفخر الشديد بإنسانيتك . منْ غير الإنسان يستطيع أن يحوّل مأزق الوجود الى فن جميل ممتع ومؤثر؟ منْ غير الإنسان يدرك تناقضاته فيصنع منها تراتيل للذكرى ؟ منْ غير الإنسان يحوّل الموت الى أنشودة للحياة مفعمة بالأمل ؟ منْ غير الإنسان يستطيع تثبيت صورة فى إطار فتبقى من الأجداد الى الأحفاد ؟

لنا أن نفخر بأننا حاربنا دوماً بين شُهُب مشتعلة وأبد من الوهج ، ولنا أن نفخر بأن آلامنا تشحذ عقلنا وقلبنا ، ولنا أن نفخر بأننا أحببنا دوماً كلمة “سأكون” .

فطوبى للمُرتّلين .. وطوبى للمُبدعين .

 

 

مقالات من نفس القسم