د. رضا عطية
يبدو الشاعر المصري محمود فهمي صوتًا مميزًا في شعر العامية المصرية، العقدين الأخيرين، حيث أصدر خمسة دواوين في العامية كان أحدثها “مزيكا بتشبه لي”، والمتابع لما قدَّمه الشاعر عبر هذه الدواوين، نجد يمتاز بشخصية إبداعية لها بصمتها الممثلة في أسلوبه التعبيري الذي يقدِّم معادلة خاصة في صناعته الشعرية تجمع بين التدفق الإيقاعي المعتمد على الجمل القصيرة والثراء الموسيقي المؤسس على أناقة قوافيه، وأيضًا معانيه الواضحة والعميقة، وصوره البسيطة التي تتراكب في أنساق مترابطة، بما يلائم الحالة النفسية لموضوع النص الشعري.
في ديوان “مزيكا بتشبه لي” المكوَّن من 37 قصيدة قصيدة أو مقطع شعري لا يحمل أي منها عنوان الديوان، لتبدو هذه المقاطع بمثابة “مزيكا” منسابة تتشابه فيما يربطها من موضوعات تتركز في تداعيات الحنين الذاتي لأشيائها الحميمة وزمانها المنقضي وأماكن صباها وبهجتها ورفاق عهد جميل ولى.
يجسَّد ديوان “مزيكا بتشبه لي” مأساة الذات في واقع يضاعف اغتراباتها وتبدو في حالة انفصام عنه، كما في قصيدة “ضِل”:
(أنا الرصيف اللي اتنسى/ فـ شارع بعيد/ أنا ضل سور المدرسه/ المتروك وحيد/ وانا اللي ف عيون المسا/ بردان شريد/ إيديا بتضم المطر/ مش لاقيه إيد/ بهتانه ف عيوني الصور/ والليل مخيف/ أنا الخيال اللي اتنسى/ فوق الرصيف)
تعيش الذات حالة تماهٍ وتوحُّد مع أشياء ارتبطت بها في طفولتها وصباها، لكن الغالب عليها في تمثلها لنفسها شعورها بأنَّها “ضل”، أي كينونة شبحية، حضور باهت، “خيال اتنسى”، ذات تشعر بالهامشية، كرصيف منسي في “شارع بعيد”، في إحساس بإقصاء العالم لها، يثقله شعور آخر بافتقاد الآخر: (إيديا بتضم المطر/ مش لاقيه إيد) في ظل إحساس ببرودة العالم لافتقاد الذات حرارة المشاعر التي يمكن أن يشاركها بها الآخر. ثمة تداعٍ منهمر للصور والتشبيهات التي تتعدد وتتنوع في تمثيل الذات لاغترابها، فتأتي بنية الصور شجرية، تتدلى منها عناقيد المشبَّه به. وإذا كانت القصيدة قد بدأت بتمثل الذات نفسها بكونها رصيفًا منسيًّا، فإنَّها تختتم بكونها خيالاً/ شبحًا منسيًّا فوق الرصيف: (أنا الخيال اللي اتنسى/ فوق الرصيف) في أسلوب أقرب إلى الدائرية، ما يرمز إلى دائرية أقدار الذات وإحساسها بأنَّها تمضي في عالمها وحياتها فيما يشبه الدائرة القدرية، دوامة من الاغترابات تدور في دائرتها الذات.
ونتيجة الاغتراب في الواقع الآني ثمة ارتداد إلى الوراء ونوستالجيا غالبة على الذات وحنين عارم إلى زمن الماضي، كما في قصيدة بعنوان “إستغماية”:
(شدوني م المتاهات/ ودوني جوه الأمس/ خلوني أرجع طيف/ لاخوف عليه ولا بأس/ ردوني تاني خيال/ على رصيف عين شمس/ على رصيف مبلول/ بالمطره والحواديت/ على سطوح مفروش/ بالشمس والكتاكيت/ على جدار مسنود/ بانده واقول خلاويص/ كل العيال بتهيص/ تنده تقول لسه/ أهى خلصت القصه/ وانا لسه باندههم/ بعدوا بعيد خالص/ مابقتش باسمعهم/ وسمعت صوت عصافير/ جايز نهار شقشق/ فتّحت عيني لقيت/ كل الجدار شقَق/ حتى الطريق فاضي/ يا بهجة الماضي/ أنا تهت ليه عنك؟)
يداخل الذات رغبة في الانسحاب من عالمها الآني لإحساسها بمتاهيته، والنكوص إلى الماضي، تحتمي به؛ لتستعيد زمن اللهو واللعب الطفولي، لكن المفارقة التي يستعملها الصوت الشعري متمثلة في لعبة الـ”إستغماية”، في أنَّ الرفاق قد بعدوا بينما ماتزال الذات في لعبتها الطفولية الأولى، وبراءة تطلُّعها إلى الآخر ومناداتها له، ومع سماع الذات صوت العصافير بما تحمله من معاني البراءة والرقة ورهافة التكوين وتطلعها لأن يكون ذلك إيذانًا بمولد نهار جديد بما يعنيه النهار من رموز الأمل وتجديد الحياة غير أن ماتعاينه الذات شروخًا في الجدار، فيعمل التقارب الصوتي بين (شقشق) في تصوُّر الذات لطلوع النهار، و(شقَق) في فداحة ما تعاينة من خيبة رجائها بانشقاق الجدار وشروخه على تمثيل المفارقة المعبِّرة عن خيبة أمل الذات بين ظنها المتفائل وواقعها الصادم، وهو ما يفضي بها إلى الانتهاء بالتساؤل الحائر: (يا بهجة الماضي/ أنا تهت ليه عنك؟) في اختتام للقصيدة بدائرية للمعني أيضًا، حيث “توهة” الذات عن بهجة ماضيها، بما يتصل بمفتتح القصيدة عن استغاثة الذات لتخليصها من متاهاتها.
ونتيجة وطأة ما تحمله الذات من هموم وذكريات أليمة تتجه لمحاولة التخلُّص من ركام مشاعرها السلبية، كما في قصيدة “أي حاجة قديمة للبيع”:
(يا عم يا بتاع البيكيا/ أنا عندي حلم قديم خالص/ ماعرفش أنا فين ضيعته/ جايز في ركن بعيد شيلته/ أو تاه في كراكيب الماضي/ ضيعت وقت على الفاضي/ والحلم فاتت/ صلاحيته/ صلاحيته عدى عليها زمان/ زمانه عجز ع الآخر/ زمانه صدى من الركنه/ أو مات في دواليب النسيان/ أنا عندي غير الحلم كمان/ أباجورة بايظة مابتنورش/ وكرسي بامبو من الغالي/ عليه زمان كنت اتمرجح/ أروح مع الحواديت واسرح/ واسيب مع الحلم خيالي/ وعندي سجادة قديمة/ ورودها دبلت ع الآخر/ من مدة نسيتها الخطوات/ ماعادش بيعدي عليها/ غير ضل واحد يشبه لي/ عندي كمان متهيألي/ فوق الدولاب ساعة قديمة/ تملي كانت بتأخر/ استنى ع الحلم هادوَّر/ خده ووياه الكراكيب/ خدهم ومش عايز حاجة)
لقد تساوى لدى الذات أحلامها القديمة وأشياؤها القديمة، فتعتريها الرغبة في التخلُّص منها والتخلي عنها لبائع المُخلَّفات، “البيكيا”، في شعور عدمي بفقدان الحلم صلاحيته، ومع تخليها عن الحلم تتخلى الذات عن أشيائها الخاصة، كالـ”أباجورة” التي عطلت عن العمل، بما ترمز إليه الأباجورة من وسيلة الإنارة الناعمة الأثر، فكأنَّ الذات فقدات طاقات الاستنارة الرومانسية لديها، وكذلك تتخلى الذات عن الكرسي الذي كانت تتأرجح عليه في انطلاقاتها الحالمة، ما يؤكِّد تخليها عن الرغبة الطفولية اللاهية في الحلم، وتتخلى أيضًا عن سجادة قديمة ذبلت ورودها في شعور بذبول الحياة وافتقادها الحيوية، وترتبط هذه السجادة بمشي “ضل” شبيه للذات عليها، لم يعد يمشي بعد، فيبدو هذا الظل، هو الذات القرين، الذات الحالمة، وتتخلى كذلك عن ساعة قديمة كانت تتأخر عن الزمن الحقيقي، في شعور بانفصام الذات عن الزمن، أنَّ الزمن لم يكن أبدًا لها ولم تكن الذات لتتوافق معه. في شعر محمود فهمي تفجير لشعرية الأشياء التي تقوم الذات بإحالات لمشاعرها النفسية بإسقاطها عليها.