محمد إبراهيم قنديل
تجشأتْ الأرضُ شبعًا ورضا فألقتْ مِنْ جوفها نخلاتٍ وقفتْ متفرقةً على مسافةٍ كانت بعيدةً عن القرية ..
خوفٌ راسخٌ ظلَّ منه بقيةٌ في نفوسِ أهل القريةِ منعهم من إزهاق الأرواح التي تسكن هذه النخلات٬ لكنه لم يمنعهم من خنقها بالبيوت المبنية بالطوب الجيري الأبيض (البلوك)٬ بيوتُ البلوكِ كوَنَتْ (عِزبة ) يفصلها عن البلد بعضُ الفدادين التي تتآكَلُ بسرعة شهورٍ بعد أنْ كان الأمرُ يقتصرُ على (أوضتين متعرشين هنا أوهناك كل كام سنة) النخلاتُ ظلَتْ واقفةً تطلُّ في شموخٍ وسخريةٍ أو ربما تساؤلٍ على تلك الكائنات السرطانية القبيحة التي تتكاثر تحت قدميها ٬ وكلما همَّ واحدٌ من الأجيال الصغيرةأنْ يقطعَ نخلةً همَسَتْ رائحةٌ قادمةٌ مِن غرفةٍ منزويةٍ في آخِرِ البيتِ تترجاهُ ألاَّ يفعل ( طول ما انا عايش يا ابني ) ٬ لكنَّ لكلِّ شيءٍ بداية ..
وكانت البدايةُ منشاراً أحمقَ امتدَّ ذاتَ ظهيرةٍ بعيدةٍ إلى النخلةِ التي تجاورُ الحائطَ القِبْلِيَّ لبيت خالد محمد الذي لا يذكرُ أحدٌ اسمَ عائلةٍ لهُ ٬ سقَطَت النخلةُ وتوقفَتْ الحياةُ في القريةِ كلِّها لحظتها ٬ ثم عادتْ عجلةُ الزمنِ إلى الدورانِ بطيئةً في الغيطانِ وبين جدران البيوتِ المتوجسةِ شرا .
ــ ” الأرواح لا تغفر أبداً … سلامٌ قولاً مِنْ ربٍّ رحيم ٬ ربنا يجعل كلامنا خفيف عليهم ” هكذا كان أبي يتحادثُ مع الرجالِ ضاغطاً على يدي ومتشبثاً بها كأنه يحميني من شُؤمِ ما يحكيه ونحنُ عائدون في موكبِ المغربيةِ يسوقُ كلُّ فلاحٍ مواشيَهُ أمامهُ تعرف طريقَها إلى البيوت ٬ العباراتُ تكتسي بالاستنكارِ الذي لم يصِلْ إلى حَدِّ اللومِ على المجرم ٬ بقدر ما هو عتابٌ على ذلك الخوف (العتيق الجاهل) الذي يحمدون للقـدَرِ أنَّهم لم يكونوا في مواجهتِه ٬ وشيءٌ ما بداخلِ الجميع يترقبُ ما سيحلُّ بـ (خالد محمد الذي لا اسم لعائلته)
وبَعْدَ عِشاءِ ليلةٍ لا مكانَ لها في الزمن ٬ قامت القيامةُ ..
أصواتُ الجميعِ يهرولونَ في الشوارع ٬ وميكروفون الجامع يرفعُ إنذاراً لم أتبينْه ٬ قفزَ أبي مِنْ أمامِ التليفزيون ٬
أمي ـ وكأنها تعرفُ كل شيءٍ مسبقاًـ رمَتْ له الجردلَ فالتقطهُ بمهارةِ بنَّاءٍ يلتقطُ قالبَ الطوبِ مِن صَبِيِّهِ بِيَدٍ واحدة٬ وإحدى قدمَيْه في الشبشب والقدمُ الأخرَى تبحثُ عن الفردة الأخرى٬ وخرجَ من الباب كالبرق٬ أمي ــ وهي تتمتم طالبةً السَّتْر ــ لبسَتْ جلباباً على جلبابها ألقت طرحةً على رأسها، التقطت الباستيللا الألومنيوم وخرجتْ ٬ تبينتُ متأخراً ما يصرخُ به ميكروفون الجامع: (حريقة في العزبة يا ولاد ٬ حريقة في العزبة يا ولاد) أخواتي البناتُ كنَّ يقفنَ على سطح الدار يصفنَ حزمةَ دخانٍ تسرحُ في الليلِ ٬ لم ترضَ خضرةُ أنْ تَـمُدَّ يدها لأقطعَ المسافةَ الفاصلةَ بين السلم الخشبي والسطح ٬ ضربتُ برجلي في الأرضِ وتمرَّغْتُ بجسدي يميناً وشمالاً دون جدوى ٬ جريتُ إلى الشارع أتْبَعُ الكلوبات التي تخرج من البيوت مسرعةً ٬ تنكفئُ على وجوهها أحياناً فتضحكُ أخواتي فوق السطح ٬ مَرَّ بي موتورُ رشِّ المبيدات ٬ يُستعانُ به في هذه المواقف ٬ يُوضعُ على شطِّ ترعةٍ قريبةٍ من الحريق فيُمْلأُ بالماءِ الذي يندفعُ خيطاً رفيعاً يَصُدُّ شيطانَ النارِ ويقرأ آيةَ الكرسيِّ كما يفعلُ العجائزُ والشيوخُ من حولي ٬ وقفتُ في جانبٍ خائفٍ ــ لم يتحملْ ظلمة الغيطان حول العزبة فاستعان بضوءٍ قادمٍ من شُبَّاكِ أحد البيوت ــ أرقبُ الجنونَ الذي يتصاعد ٬ الجنونُ الذي يتحركُ به الجميعُ لا يقلُّ عن الجنون الذي تتحركُ به النار كأنه سباق ٬ حضرَ المزيدُ من المواتيرِ وتزايد صوتُ طقطقةِ النارِ في القش والدريس والحطب التي تُعَرِّشُ على العروق الخشب مانحةً حَامِيَّة (وقوداً ) يؤججُ النارَ التي تنطفئُ في مكانٍ لتسرحَ في مكانٍ آخَرَ ٬ لمحتُ في لسانِ النار الصاعدِ إلى السماءِ وجهاً يصرخُ كأنهُ يستجلبُ اللعناتِ على القريةِ وأهلها، وينفخُ فيها فتندلِع :
ـ “كأنهُ وَحْي . ” هكذا قالت العجوزُ بجانبي ناظرةً إلى السماء ٬ بعدَ كل المحاولات الممكنة للسيطرةِ على الحريق حُوصِرَ أخيراً ٬لم يجرؤْ أحدٌ أنْ يتساءَلَ عن جِذْرِ النارِ وكيف اشتعَلَتْ ٬ انطفأتْ النارُ آخذةً في طريقِها رَجُلَيْن انزَلقا فانكسَرَا وبعضَ النساءِ أغميَ عليهنَّ ٬ الوجوهُ في الأرضِ والأجسادُ غارقةٌ في الماءِ والصمت ٬ رجعتُ إلى البيت من طريق النخلاتِ ٬ كانت وحدها تقف وسط الحطامِ الباقي من العزبةِ يركَعُ تحتَ أقدامِها ٬ الهلَعُ والدموعُ قربانٌ دفعَهُ أصحابُ البيوتِ المحترقة والمواشي المربوطة في الشوارعِ بعدَ أنْ كانت الشيءَ الوحيدَ الذي تركتْهُ النيران .
ذات يومٍ ليس بعيداً عن الحريقِ تجمَّعَ الناسُ حولَ النخلاتِ وقد استقدموا شهابياً مِنْ فلاَّحي الجبل وساكنيه ٬ لم أستطع الاقترابَ منه لكنَّ كلمةً واحدةً كانتْ تتناقلُها الألسنةُ والآذان : ( السوس ) … السوسُ سرَحَ في جُمَّارها ٬ لم تمضِ أيامٌ حتى وقعَت النخلاتُ على غير عادةِ النخلِ في الموت والذي يأخذُ سنين ..
نِمْنا ليلةَ موتِها بعيدينَ عن كلِّ البلادِ كأنَّ الأرضَ تنبذنا ٬استيقظْنا وقد تشابهَتْ الملامحُ وتلاشتْ خطوطُ العُمْرِ عن الوجوه ٬ عاد الآباءُ والأمهاتُ والجدودُ والجدَّاتُ شباباً ٬ لمحتُ أبي واقفاً مع أختي الكبرى التي تبدو في نفسِ عُمرهِ تقريباً يصرخُ وهي واقفةٌ أمامه في تحَـدٍّ يزيدُ مِنْ غضَبِه ٬ وسرى الخبَرُ عن الزمنِ الذي غادَرَ القريةَ حين ماتت النخلاتُ و عن اللعنةِ التي أصابت الجميعَ فلم يعُدْ أحدٌ يذكرُ اسمَ عائلتِه كخالد محمد الذي نطحهُ ثوره الهائج فجاءه لُطْف ، يسيرُ في الشوارع ليلاً ونهارا عريان ممصوصًا قذرا .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي وقاص مصري