بين القصّة القصيرة جدّا والقصّة الوجيزة.. هل من فارق؟

إلهام بوصفارة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

بقلم: الباحثة إلهام بوصفارة

.مقدمة

انطلقت فكرة الأدب الوجيز من جملة تصوّرات نظريّة ومنطلقات فكريّة جديدة، أرساها منذ 2016 أعضاء ملتقى الأدب الوجيز بلبنان وعلى رأسهم الشاعر الرّاحل أمين الذيب الذي سعى إلى حشد التصوّرات والأعمال التّطبيقيّة في سبيل تشييد حركة فكريّة أدبيّة تجاوزيّة متماسكة ومتجانسة، تؤمن بأنّ الأدب كائن حيّ نام ومتطوّر لا يهدأ، ولا بدّ من أدب جديد يساير حركة عصره ونسقه المتسارع، ومن رؤية متجدّدة للأدب العربي وقضاياه حتّى ننتشله من أزمة الجمود والرّتابة والعزوف عنه في مجتمع طغت عليه وسائل الاتّصال الحديثة وأتاحت له المعرفة بسهولة.

وإيمانا بحيويّة التجديد جاءت فكرة الأدب الوجيز مشروعا تجاوزيّا لأنّها ترتكز على مُنطلقات فكريّة تؤسّس نوعًا أدبيًّا جديدًا، يقوم على مقوّمات فنّية تجعل منه جنسا مستقلّا. وحين نقول بالجدّة فنحن لا نقصد القطع مع القديم، بل تطويره واستكماله وإحيائه بما يتناسب مع العصر الرّاهن. فمن المهمّ جدّا أن نبحث في جانب التكامل بين جميع الفنون وجمال التعالق بينها دون أن نقع في المقارنة أو المفاضلة العبثيّة بينها. إذن ما القديم والجديد في هذه الحركة؟

  1. في معنى الوجيز قديما

إنّ الأدب قديم قدم الإنسان، وليس مجالنا في هذا المقال أن نعرض مفهوم الأدب وتاريخه ووظائفه منذ أن عرف الإنسان سحر الكلمة. وإنّما الجديد في مصطلح الأدب الوجيز هو صفة “الوجازة”. وإن وقفنا عند صفة “الوجيز” فهذه الصفة مطلوبة منذ القديم، وقد تعدّدت التسميات التي أطلقها النقاد العرب القدامى على الوجيز ومنها القصير، المختزل، المختصر… على غرار الحكم والأمثال والخبر والوصايا القصيرة… واعتبروها أشكالا وجيزة، ولم يقصّر النقاد القدامى في إيفائها حقّها من البحث والدّرس والتنظير. لكنّها لم ترتق إلى مستوى الجنس الذي يستقلّ بمكوّناته وعناصره عن الأجناس الأخرى.

والمتأمّل في المعنى البلاغي للوجيز يجد له من التعريفات ما يؤكّد أنّه القصير أو القليل من الكلام، فوجز الشخص الكلام أي قصّره وقلّله، على حدّ عبارة الجاحظ: فخير الكلام ما قلّ ودلّ، يغنيك قليله عن كثيره. ومن هنا نثير تساؤلات: هل الإيجاز يقتصر على معطى الكمّ أم يتعدّى ذلك إلى خصائص أخرى؟ وكيف للإيجاز أن ينتج معاني وفيرة انطلاقا من عدد وجيز من الألفاظ؟ إذن ما هي المبادئ التي يجب أن يقوم عليها الأدب الوجيز ليشكّل هويّة تجاوزيّة ومفهوما جديدا للوجازة؟ ومن أين يكتسب الأدب الوجيز أدبيته وجماليّته وشرعيّته النقديّة باعتباره جنسا؟ من الإيجاز؟ من المعنى؟ من الصور؟ من اللغة؟ مشاكل عديدة يجب أن نتطارحها انطلاقا من نماذج من النصوص القصصيّة القصيرة جدّا.

2ـ الوجازة في مفهومها الجديد،

من المفاهيم الحديثة المتطوّرة في الأدب هو مفهوم البلاغة الذي خرج من دائرة الحدود الصارمة التي وضعها القدماء ليصبح مبحثها في تفاعل الذات الكاتبة مع موضوعها. فللكاتب قدرة على إعادة تشكيل هذه العلاقة من جديد. ولم تعد العلاقة بين طرفي الاستعارة مثلا قائمة على الإبدال بل قائمة على التبادل والتفاعل والتأثر ما يخلق معاني جديدة. بل تجاوزت الاستعارات المجال اللّغوي وصارت عرفانيّا هي التي نحيا بها وتخترق ممارساتنا الحياتية اليوميّة، ونفهم بها ذواتنا وعالمنا كما ذهب إلى ذلك لايكوف وجونسون في كتابهما الاستعارات التي نحيا بها.

والصور البلاغيّة بأنواعها سواء أ قامت على التشبيه أم الاستعارة أم الكناية باتت تدلّ على حذق الكاتب في إخراج المعاني وتقديم رؤى جديدة للعلاقات داخل العالم، والبلاغة باتت أمرا يتجاوز اللّفظ إلى الخطاب حيث تنبهر حين تتيح اللّغة إجراء تلك الصورة الجماليّة التي تعيّن الأنا الذي يحاول التأثير في السامع وحمله على الانتباه إلى رؤيته المختلفة إلى العالم من خلال البلاغة والترميز الذي يكون محمّلا بعمق التجربة الإنسانيّة والنظرة الوجوديّة.

والبلاغة باتت أمرا يتجاوز اللّفظ إلى الخطاب حيث تنبهر حين تتيح اللّغة إجراء تلك الصورة الجماليّة للتأثير في السامع وحمله على الانتباه إلى رؤيته المختلفة إلى العالم من خلال البلاغة والترميز الذي يكون محمّلا بعمق التجربة الإنسانيّة والنظرة الوجوديّة. ومن منظور أنّ الكلام الوجيز هو البليغ، أو أنّ البلاغة في الإيجاز، تغيّر مفهوم الوجازة بتغيّر التصوّر البلاغي الحديث. وبناء على ذلك كلّ نصّ أدبيّ هو “نسيج استعاريّ تؤلّف خيوطه بنى ذهنيّة متآلفة، طبقات من الموادّ القديمة والجديدة ترسّبت في الذاكرة منذ عقود وتظلّ قابعة هناك حتّى تستدعيها بناء الخطابات” (محمد بازي، البنى الاستعاريّة نحو بلاغة موسّعة، الرّباط دار الأمان، 2017، ص120)

فالوجازة تشترط حالة معرفيّة مُكثّفة وقوّة فكريّة وفلسفيّة تطبع المجتمع وآدابه. ومن هنا يقرّ النقاد بصعوبة الكتابة في هذا الجنس، وكأنّما هي خُلاصة مُكثّفةٌ لتجربة الكاتب، وكثافتها دليل بلوغٍ معرفيٍّ يُتقن التّواصل بين الواجز والحياة، بأقلّ الكلمات وأوسع المعاني. وحال الواجز في كتابة الوجيز كحال من يحاول خزن شظايا كبيرة في ثقب صغير. وحال القارئ للوجيز كمن يحاول إخراج الشظايا من ذات الثقب.

وقد نظّم ملتقى الأدب الوجيز ببيروت سنة 2019 مؤتمرا دوليّا تحت عنوان “الأدب الوجيز هويّة تجاوزيّة جديدة”، بحضور عددٍ من الأدباء والنّقّاد من البلدان العربيّة وعلى رأسهم أدونيس، لمناقشة على مدى يومين المسائل الفكريّة التنظيريّة، وقد اتّفق المؤتمرون في بيانهم الختامي على مفهوم جديد للوجازة بوصفها قولًا إبداعيّا قصيرا مكثّفًا ينفتح على تأويلاتٍ عديدةٍ انطلاقا من طاقة المفردة والتكثيف غير الملغز والتشظّي والقفل الصّادم تحقيقا للدّهشة.

إنّ الوجازة إذن ليست مجرّد اقتصاد لغويّ تماهيا مع روح العصر الجديد بقدر ما هي وجه من وجوه التجدّد الفكري الإنساني ونظرة جديدة لخصائص الأدب ووظيفته. والوجازة في مفهومها الحديث لا تشترط القصر فحسب بل التكثيف والتلميح باعتماد طاقة المفردة. تلك شروط الوجازة الحقيقية القائمة على طاقة المفردة الواحدة كيف تتفجّر منها عيون من المعاني والدلالات التي يمكن أن تحيلك على مباحث عديدة وتأويلات لا حدّ لها.

إنّ معظم كتاباتنا هي إعادة صياغة لما سبق وكأنّنا مفصولون عن حركة العصر ومفاهيمه وقيمه الجديدة. ونحن نرى أنّه من واجبنا في هذه المرحلة التي بلغ فيها النّقّاد حالة من الركون إلى المفاهيم النّقديّة الثابتة حرصا على القديم ورفضا لكلّ جديد يمكن أن يخلخل راحة تمكّنهم من السّائد، أن نعيد إحياء الحركة النقدية الفاعلة التي من شأنها أن تعيد النّاقد إلى موقعه الحقيقي في حركة الأدب.

ومتى نمعن النّظر في معنى الوجيز من خلال التصّور البلاغي الحديث، نكاد نجزم أنّ صفة الوجيز لا يمكن أن تقتصر على معنى التقليل والاختصار بل لا بدّ من اشتراط سمات أخرى لتناسب ما طرأ على البلاغة من تنظيرات حديثة.

وقد شكّل هذا المؤتمر بلبنان قاعدة انطلاقٍ للأدب الوجيز من خلال المرتكزات النقديّة الّتي طُرحت في المؤتمر والانطلاق من خلالها لتأسيس ملتقيات للأدب الوجيز في البلدان العربيّة والمساهمة في تركيز جهاز نقدي خاصّ بهذا الأدب. وقد أقرّ فريق الأدب الوجيز ببيروت بوجود جنسين في الأدب الوجيز: الومضة في الشعر، والقصّة الوجيزة في السرد، ثمّ انكبَّ على توضيح سمات الومضة ثمّ تأصيل مصطلح القصّة الوجيزة بديلا عن القصّة القصيرة جدّا. وقد حدّدوا لها سماتها النّوعية الخاصّة: تنامي الحدث – الشخصيّة الأحاديّة – قوّة اللّفظ– الجمل القصيرة – البناء المتشظيّ – ثمّ الإدهاش في الخاتمة أو ما يسمّى “بالصّدم”. ولا مفرّ من التساؤل: كيف يقرّون بسمات خاصّة للقصّة الوجيزة ويربون بها إلى مرتبة الجنس المغاير الذي ينهل من الوجازة في مفهومها الحديث، ثم بجرّة قلم يساوونها بالقصّة القصيرة جدّا ويعتبرونها رديفا لها؟

3 ـ بين القصّة القصيرة جدّا والقصّة الوجيزة

القصّة الوجيزة، مصطلح أطلقه ملتقى الأدب الوجيز بلبنان، اختصارًا للتسمية الشّائعة “القصة القصيرة جدًّا”، وتعويضا لمصطلح لم تتقبّله الذّائقة الأدبيّة العربيّة وهو “الققجيّة”، فاقترح أعضاء الملتقى مصطلحا جديدا يخرج من عباءة المصطلحات المُقتبسة، وهو “الوجيزة” إيمانا بثراء لغتنا العربيّة وقدرتها على التعبير عن فكرنا النقدي الحديث. وهو مصطلح عربيّ أصيل بعيد عن التأثر بالترجمة الحرفيّة للفكر الغربيّ، من وجُز الكلامُ وجزا ووجازة أي قلّ في بلاغة، وهو مصطلح مطروح للنقاش والحوار بين النّقاد المجدّدين.

إنّ بعض الدّارسين يرفضون الاعتراف بالقصّة القصيرة جدّا أو ما يطلق عليها بالققجيّة جنسا مستقلّا، باعتبارها سليلة الأقصوصة أو القصّة القصيرة، ولا تختلف عنها في المقوّمات الفنّيّة المتمثّلة في البنية الحدثيّة ومظاهر التكثيف والتركيز، العقدة، مركزيّة الحدث أو الشخصيّة، أساليب القصّ وتقنيات الحذف والإسقاط، وحدة الانطباع، أنواع النّهايات أو لحظات الكشف والتّنوير، لغة القصّ الموجزة.

فالقصّة القصيرة أخذت مداها طوال قرن مضى على أيدي مئات من كتّابها لتثبت شكلها وتكوينها، وقد اكتملت في اعتقادنا المحاولات النّقديّة لتحديد العناصر الفنيّة اللّازمة في بنائها. ولكنّنا نلاحظ، أنّ التكثيف والإيجاز وتقنيات الحذف خصائص فنّيّة مشروطة في القصّة القصيرة من قبل ولا تختصّ بها القصّة القصيرة جدّا. إذن فيم تختلف القصّة القصيرة جدّا عن القصّة القصيرة إذا اشتركتا في نفس المقوّمات الأساسيّة؟ ما الذي يدفع بعض النّقاّد إلى تمييز القصّة القصيرة جدّا عن الأقصوصة واعتبارها جنسا مغايرا؟

إنّ النقد التجاوزي يسترشد بنقّاده ويتطوّر بفعل المراس والحجاج. لذا أفضى بنا التمرّس بالنصوص القصصيّة القصيرة جدّا إلى القول بأنّه لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تكون القصّة الوجيزة مرادفة للقصّة القصيرة جدّا، ولعلّ صيغة التصغير “قصيصة” كما تشير إليها مرارا أستاذة الأدب آمنة الرّميلي، أقرب وأقنع لتُرادف مصطلح القصّة القصيرة جدّا، من مصطلح قصّة وجيزة، رغم أنّ مصطلح قصيصة لا يرادف القصّة الوجيزة لأنّه لا يحمل في ذاته السمات التي خصصنا بها القصّة الوجيزة من إيحاء وتكثيف عالٍ وتشظٍّ وقفلٍ صادم، بل لا يتعدّى معناها حدود الإشارة إلى الكمّ القليل فحسب، فلا فرق بين القصيصة وبين الأقصوصة سوى في الحجم وعدد الأسطر. وبالتّالي فالقصّة القصيرة جدّا أو القصيصة، إن تبنّينا هذا المصطلح تصغيرا للقصّة القصيرة، لا تمثّل جنسا جديدا بل هي من جنس الأقصوصة لاشتراكها معها في نفس المقوّمات العامّة.

وفي المقابل لا ننكر أنّ القصّة الوجيزة سليلة الأقصوصة والقصّة القصيرة جدّا، خرجت من صلبها، وتلبّست بأركانها، لكنّ تحقيق الوجازة بمفهومها الحديث في عمليّة القصّ لا يخلو من تعقيد. فالقصّة الوجيزة لم تبتعد عن تبنّي العناصر الفنّية اللّازمة في بناء القصّة: الحدث والحبكة، الشخصيّات، المكان، الزمان، إلى جانب القصر، ولكن تُوظّف كلّها بدرجة أعلى من التكثيف والتلميح والإيحاء دون إلغاز في بنية حدثيّة متشظّية، مع قفل صادم يهيمن عليه المسكوت عنه. هذه أجواء الوجازة في المعمار القصصيّ الوجيز. وهي عمليّة ممتعة تلزمها مرونة وتدبّر وصبر كبير عند طرفي العمليّة الإبداعيّة.Haut du formulaireBas du formulaire

ولعلّ الوجيزة تختلف عن “القصّة القصيرة جدّا”، في طاقة لفظها وتعدّد إمكانات تأويلها، لأنّ الواجز يفجّر ذهن القارئ بالتفاصيل انطلاقا من مفردة، فترتسم القصّة بحيثياتها وفق فهم القارئ وثقافته. وتطلب متلقّين منتجين يتدبّرون بالمخيّلة المسكوت عنه ويكشفون المحتجب انطلاقا من مفردة مكثّفة. فللقصّة الوجيزة ألاعيبُها وخدعها السردية وتيماتها الدلاليّة والفنّيّة. وسنتبيّن ذلك من خلال ما سيأتي من نماذج مختارة من القصّ.

وردّا على ما مال إليه ملتقى الوجيز بلبنان في اعتبار القصّة الوجيزة مرادفة للقصّة القصيرة جدّا وقد حدّوها بـ 50 كلمة كحدّ أقصى، يكفيني أن أطرح تساؤلا أجناسيّا مشروعا قد يدعو إلى مراجعة ما نظّروا له وتعديله: ما جنس النصوص القصيرة جدّا التي قلّت عن الخمسين كلمة أو فاقتها بقليل ولا تستجيب لشروط الوجازة الحديثة؟ هل نردّها إلى الأقصوصة أم نعترف بها قصصا قصيرة جدّا فقط، كنوع من أنواع الأقصوصة، أم نجد لها تجنيسا مغايرا للقصّة الوجيزة؟ أم نلغي شرعيّتها القصصيّة والجماليّة إذا خالفت شروط الوجيز؟

ومتى تتبّعنا النصوص الإبداعيّة المكتوبة في هذا النوع من القصّ، أوقعتنا هذه التنظيرات والسمات الخاصّة بالقصّة الوجيزة في مشكل أجناسيّ مربك، لا مخرج منه إلّا بالعودة إلى ما استقرّ من ضوابط فنّيّة للأجناس القديمة المعروفة وما اتّفق فيه النّقاد حول فنّ الأقصوصة.

ودون أن نخوض في الفوارق الدّقيقة بين الجنس والنوع الأدبي حتّى لا ترهقنا متاهة إقامة الفواصل والحدود لأنّ غايتنا هي تمييز هذه الأجناس وبيان خصائصها وهذا يدخل في صميم الدّراسة الأدبيّة. وسنعتبر كلّ مجموعة متماثلة من النصوص تجمعها قواسم مشتركة جنسا من الأجناس الأدبيّة.  فما وجدناه لا يخرج عن عناصرها الأساسيّة الثابتة وينحرف عن جنسها في بعض الخصائص اعتبرناه نوعا منها لا جنسا مستقلّا. ولن يخرج عن جنسها سوى من خالفها في الخصائص العامّة وأثبته قانون التجنيس.

فالقصّة القصيرة جدّا سليلة الأقصوصة، وهي من أنواعها ولا تمثّل جنسا مستقلّا للأسباب التي أسلفنا ذكرها في هذا المقال، باعتبار النّوع أخصّ من الجنس يشهد ضربا من الانحراف عن الجنس والاختلاف عنه. ولكن إن كانت القصّة القصيرة جدّا سليلة الأقصوصة فهل تندرج ضمن الأدب الوجيز أم لا؟ لعلّ الجواب يطالعنا عند تحليل النّماذج المختارة.

4 ـ هل القصّة الوجيزة جنس جديد؟

يعدّ قانون التجنيس الأدبي من أنجع الإستراتيجيَّات التي تمكّننا من التعرُّف هل أنّ فنًّا أدبيًّا ما يستحِقُّ أن يحمل مصطلح “الجنس الأدبي”. وفي هذا القصد سنحاول أن نُخضِع القصة القصيرة جدًّا والقصّة الوجيزة للمِحَكِّ الاختباري كي نرى ما ستؤول إليه النتائج:

‌. قانون المماثلة والاختلاف: يبرز أوجه المماثلة والاشتراك بين النصوص الأدبية، وهذا القانون يشترط في الجنس الأدبي أن يتوافر على مجموعة من القواعد والمقاييس الخاصة ما يُشكِّل عناصر ثابتة ومميزة لهذا الجنس. والقصّة القصيرة جدًّا تتوافر على مجموعة من الخصائص التي تشترك فيها مع الأقصوصة وقد ذكرناها سالفا، إذن وفق هذا القانون القصّة القصيرة جدّا لا تختلف عن القصّة القصيرة. فلا نجد فيها سمات مهمّة تجعلها مميَّزةً عن باقي القصص القصيرة. في حين أنّ القصص الوجيزة تتوفّر فيها قواسم مشتركة جامعة ومختلفة عن القصّة القصيرة والقصيرة جدّا على غرار تشظّي الأحداث، اتّساع طاقة المفردة، الإيحاء بالحذف، القفل الصّادم…

. قانون التطور: القصة الوجيزة تطوَّرت عن اتجاهين اثنين: أوّلهما يربطها ببعض أشكال السَّرْد القديم الموجودة في التراث العربي كالمثل، والخبر، والنكتة، والْمُلْحة، وما إلى ذلك… وأمّا الاتِّجاهُ الثاني فيجعلها متطوّرة عن القصّة القصيرة والقصيرة جدّا، نظرًا لأنّ بعض الرِّوائيين مثل: جبران خليل جبران، ونجيب محفوظ، كتبوا في الرِّواية، ثم بعد ذلك كتبوا في القصّة القصيرة والقصّة القصيرة جدًّا باعتبارها آخر حلقة، والمتأمّل في قصصهم القصيرة جدّا يلحظ أنّهم كتبوها بنفس خصائص الأقصوصة مع فارق في مستوى الحجم والإيحاء. ومن القصّة القصيرة جدّا انسلّت القصّة الوجيزة، وبهذا يتَّضح أنّ قانون التطوُّر يسري عليها أيضا.

. قانون العدد أو الكمّ: ويتعلّق هذا القانون بالتراكم الكمّي الذي وصلت إليه النصوص المشترِكة في نفس الثوابت، فكلّما كانت دائرة الكمِّ واسعةً، كان لهذه النصوص حظٌّ أكبرُ في أن تكون جنسًا أدبيًّا. وما من منكر لغزارة الإنتاج في هذا النوع من الكتابة بخصائصها الجديدة.

. قانون أفق الانتظار: ويتعلّق هذا القانون بالمتلقِّي خاصة، فالنصُّ الأدبي الذي يُمكنه أن يخيّب أفق انتظار القارئ هو النص القمين بأن يندرج تحت جنس أدبي، ما دام هذا النصُّ يملك هذه الفعالية الكبيرة في إرباك القارئ، والقصّة الوجيزة تُربِك المتلقِّي، وتخيّب أفق انتظاره عن طريق خاصّيات المفارقة والإدهاش في الخاتمة والسخرية المضمرة في فضاء محدود ببعض الكلمات…

. قانون التقسيم: ويقصد بهذا القانون إمكانيّة هذه النصوص التي تُشكِّل جنسًا كبيرًا، أن تتفرَّع بعد ذلك إلى أنواع أخرى تحتها، ففي القصّة الوجيزة يمكن أن نتحدَّث عن القصّة الوامضة، والقصّة الميتاسرديّة… وغيرها.

. قانون الجمال: ويعني هذا القانون أنّه لا يُمكن أن نتحدَّث عن جنس أدبي ما دون تميُّزه بالخصائص الجماليّة، لذلك من غير المعقول خُلوُّ النصّ من هذا القانون، وبهذا يمكن أن نقول: إنّ للقصّة الوجيزة تتميَّز بمجموعة من الخصائص الجمالية والفنية التي تجعلها تتَّسم بالأدبيّة، وفي ذات الوقت تختلف عن جماليّة من سبقها من القصّ.

إذن كلّ هذه القوانين تسري على القصّة الوجيزة دون القصّة القصيرة جدّا أو “القصيصة” ما يجعلها تستقلّ بمكوّناتها وتشكّل جنسا أدبيّا جديدا متطوّرا عن القصّة القصيرة. وما دفع بنا إلى هذا التفريق بين المصطلحين رغم أنّنا في البدء كنّا نراهما رديفين، هو المعاينة، فبالنّظر في مختلف الكتابات القصصيّة القصيرة جدّا خرجنا بقناعة أنّها متنوّعة ومختلفة تكاد تتنافر وتفنّد اشتراكها في نفس السمات العامّة التي تجمعها في نفس الجنس. الأمر الذي جعلنا نتساءل هل كلّ قصّة قصيرة جدّا هي مختلفة عن القصّة القصيرة؟ كيف نعتبرها جنسا مستقلّا وهي لا تختلف عن خصائص الأقصوصة سوى في الحجم، ولا تستجيب لشروط الوجازة في مفهومها الحديث؟ يعني لئن كانت كلّ قصّة وجيزة هي قصّة قصيرة جدّا بالضرورة فهل كلّ قصّة قصيرة جدّا قصّة وجيزة؟

ومن ثمة تتبّعنا نوعا مميّزا من القصص القصيرة جدّا، تلك التي توفّرت فيها سمات الوجازة، وتتلاءم مع المصطلح الذي أطلقه ملتقى الأدب الوجيز بلبنان وهو “القصّة الوجيزة”، باعتبار الوجازة فيها مفهوما جديدا يشترط الإيجاز والتكثيف والرّمز والعمق الفلسفي والتشظّي والصّدم، والإدهاش، رغم أنّ أعضاء الملتقى يصرّحون بأنّهم أطلقوا مصطلح الوجيزة رديفا للقصّة القصيرة جدّا ولا فرق بينهما.

لكنّ اختلاف النّصوص القصيرة جدّا إلى حدّ الالتباس في تجنيسها جعلنا نرفض هذا التّرادف ونتتبّع الظاهرة ولا نطمئنّ لهذا الاختلاف الشديد في التسميات إلى حدّ انفلات المفهوم أو التباسه مع مفاهيم أخرى، ولا سيّما بين نقّاد المشرق الذين يقبلون مصطلح القصّة القصيرة جدّا على مضض، ويلتزمون في مقالاتهم بمصطلح القصّة الوجيزة، ونقّاد المغرب الذين يكادون لا يعترفون بمصطلح “القصّة الوجيزة” ويقابلونه بالصمت والتجاهل. وهذه التسميات كثر تداولها في الفترة الأخيرة بين رافض وداعم إلّا أنّها لم تتبلور مفاهيمها بوضوح لتشكيل نظريّة نقديّة ضابطة لهذا الأدب الوجيز.

وسننطلق من بعض النّماذج من القصص القصيرة جدّا حتّى نخرج بمعاول نقدية ومنهجيّة تضبط خصوصيّات هذا النوع من الكتابة ويميّزه من بقيّة الأجناس لرفع اللّبس بين المصطلحات وانتشال هذه الكتابات الرّائدة من دائرة الفوضى التي تتحرّك فيها أمام غزارة الإنتاج في هذا النوع واستسهاله إلى حدّ الابتذال.. وسنتبيّن من خلال بعض العيّنات شروط الوجيز الحقيقية القائمة على طاقة المفردة الواحدة كيف تتفجّر منها عيون من المعاني والدلالات التي يمكن أن تحيلك على مباحث عديدة وتأويلات لا حدّ لها. فالواجز يومض والمتلقّي يبني ويكتب انطلاقا من مفردة. 

5ـ تحليل أمثلة من السّرد القصصي الوجيز:

سنعمل على الالتفاف حول هذا الاختلاف الاصطلاحي ونسعى جاهدين إلى بيان الفوارق المفهومية بين هذه الكتابات القصيرة جدّا وبين تصوّراتنا في مستوى المصطلح والتجنيس. وقد ننزع نحو الفرز وفق المرتكزات الفكريّة للأدب الوجيز، فإن اعتبرنا ما سبق من الكتابات القديمة أشكالا وجيزة لا أجناسا لأنّها لا تخضع إلى الحدود في نظريّة التجنيس ولا تتوافق مع السمات العامّة للأدب الوجيز، فإنّ ما تراكم من نصوص قصصيّة قصيرة جدّا اليوم يخوّل لنا فرزها وتصنيفها في أجناس أدبيّة وفق خصائصها القاّرة والمشتركة. وهو ما سنعنى به في هذا المقال لبيان الفوارق بين القصّة الوجيزة وغيرها من القصص القصيرة جدّا انطلاقا من نماذج مختارة.

  • القصّة القصيرة جدّا \ القُصيصة:
  1. س-و-س (صالح الدمس \ حكايا الأمير، تونس،دار سحر، 1993)

عندما طلّق أبي أمّي كان يافعا يتسلّق سنته الثلاثين، وككلّ الرّجال كان له شارب أسود… و…

عندماّ طلّقت أمّي كانت مثل كلّ الصّبايا سمراء كالقمح تماما، ليس لها سوى شعرها المجدول كالسنبلة حين تنحني…

وككلّ المطلّقات عادت أمّي إلى…

حين طلّق أبي أمّي كنت صغيرا… آه… آه… لو انتظرا قليلا لما كان الذي كان.

  1. صبر (حكايا الأمير، 1998)

خلف الشبّاك أظلّ كلّ مساء أنتظره، المرفق على الفخذ.. والخدّ على الكفّ.. أنظر إلى الفضاء فيقابلني شبّاك الجار المغلق دائما، لكنّ عينيه أراهما من الشقوق – تتّقدان… فأخاف.. لو يحترق لوح النّوافذ ويفتضح -.. أظلّ أنتظره… يأتي ليلا سكران عادة.. فلا العشاء يأكله ولا القهوة يحتسيها… يدخل صامتا إذ أفتح الباب ويسرع إلى السّرير لينام… أطفئ الضوء وأدخل الفراش إلى جانبه… أعاتبه دوما بصمت.. بهمس أقول له: إلى متى يا حبيبي تأتي هكذا؟ … فلا نتعشّى معا ولا تهتمّ بي… يبقى صامتا وأحيانا يقول لي: اصبري يا حبيبتي.. كلّ شيء سيمرّ.. المرّ سيمرّ.. اصبري يا حبيبتي… ثم ينام.

ها أنا صابرة رغم النّار… فيا ربّ صبّر الجار.

القصّة الأولى كتبها الدمس منذ 1993 علما أنّه بدأ يتعاطى هذا النمط من الكتابة منذ منتصف الثمانينات. وقد جُنّست من القصص القصيرة رغم أنّها كتابة قصصيّة جديدة لم يأنسها قارئ التسعينات وما قبلها، إبراقات سريعة خرجت عن البناء الحكائي التقليدي للأقصوصة متّخذا كاتبها القصر الشديد وأقلّ عدد ممكن من الكلمات (53كلمة) سلاحه في هذا النوع من القصّ. ورغم أنّ الدمس لم يعتمد على دراميّة الحدث بعناصره المألوفة (الحركة، التوتّر، الفعل) والذي تقوم عليه القصّة القصيرة الكلاسيكيّة، فإنّ ذلك لم يؤثّر سلبا في وحدة الانطباع وفي الحبكة الفنّية رغم القصر الشديد.

وبتراكم النصوص في هذا النّوع من القصّ، جاء مصطلح “القصيرة جدّا”، ليس لاختلاف جوهريّ عن خصائص القصّة القصيرة بل لإلحاح الكتّاب على تحقيق عناصر الأقصوصة في أقلّ حجم ممكن.  فالقصّة القصيرة جدّا لا تختلف في خصائصها الفنّيّة عن الأقصوصة أو القصّة القصيرة التي هي قصيرة ليس لأنّها صغيرة الحجم فقط بل لأنّها تعالج الموضوع علاجا خاصّا. فاختار الكاتب أن يعالج موضوع الطلاق وعواقبه الوخيمة على كلّ أفراد الأسرة، على أساس رأسي لا أفقي، بأسلوب قام على العرض، فالنّمو، فالصّراع، وهي العناصر الأساسيّة التي تقوم عليها القصّة القصيرة. وتحقيقا للإيجاز تخيّر في قصّه تقنية الحذف والإسقاط الكلّي لأحداث استغرقت سنوات عديدة، ولا بدّ أن نشير إلى أنّ الحذف والإسقاط خصيصة أسلوبيّة أقرّها الدّارسون في فنّ الأقصوصة. 

وقد تحقّق الحذف والإضمار بالنقاط المتتالية (…) وهي ظاهرة لافتة لا تخلو منها قصّة قصيرة جدّا. هي تقنية للتواصل غير اللّغوي مع القارئ، ودعوة مضمرة إلى ملء مساحات البياض وتأويل الفراغات. فبلاغة الحذف تعني أنّ الكاتب يقول الكثيرَ من خلال ما لا يقوله!

وعلامات الحذف هي أساس الإضمار ولها مهامّ دلاليّة وجماليّة، بل هي ليست مجرّد محطّات تنفّسيّة وإنّما هي من توابع التفكير، ولا يضبط مقاديرها ومواطنها قانون سوى الفكرة المعبّر عنها.

وكما يقول نوفارينا: “الفكرة تنفّس”، فإنّ الحذف هنا تجسيد لانقطاع النفس أثناء تذكّر رحلة المعاناة التي مرّ بها السّارد بعد طلاق والديه وهو صغير، أب تقليديّ متسلّط قاس أوحى إليه بالشارب الأسود، وأمّ ريفيّة بسيطة عاملة كادحة أوحى إليها من خلال “شعر مجدول كالسنبلة” و”تنحني”، فكان ضحيّة انفصالهما وما عاناه من حرمان بأشكاله وضياع معنويّ وألم الوحدة والحزن وغيره من المشاعر السلبيّة جرّاء الطّلاق. والمقصد إشعار القارئ بمدى ألمه عبر الحذف، فهو عمليّة تجسيد للأفكار وتشكيل تعبيريّ للمعنى.

والقصّة القصيرة الثانية أيضا لم تخل من حذف وتقطّع، وتبدو أكثر إسهابا من الأولى (104 كلمة) وهي قابلة للضغط والتكثيف والإيجاز أكثر دون الإخلال بدراميّة الحدث. فهي قصّة عن معاناة الزوجة من الإهمال العاطفي والجسدي الذي قد يوقعها في المحظور، هذا الفراغ العاطفي وهذه الوحدة الحارقة أسباب قد تضعف المرأة وتدفعها إلى محاولة سدّ النّقص أمام غفلة الزوج وسكره وغرقه في الهمّ. لعلّ طبيعة الموضوع يناسبها بعض التفصيل وبعض الأقوال لتعميق الألم عند القارئ. والإسهاب اللّغوي أضعف مستوى التكثيف وأخلّ بجماليّة النص نوعا ما. لكنّ هذه القصّة تبقى قصّة قصيرة جدّا ساعدتها الجمل البرقيّة الموجزة على الإيحاء، ولاءمها الحذف الكثير وإحداث البياضات بين الجمل، لتشويق القارئ وتحفيزه على الإنتاج في ظلّ الخاتمة المفاجئة التي لا تخلو من طرافة وإضحاك.

وهذا الحذف حقيقة مُغر ومثير، له بلاغته، ويصبح فيه القارئ هو المشارك في إتمام الأحداث بالتخييل ورسم الشخصيّات وفق ثقافته وبيئته. وهو مبدأ يقرّ به الأدب الوجيز ويختصّ به، وبناء عليه تعدّ القصّة القصيرة جدّا من أشكال الأدب الوجيز لاعتمادها على عنصر أساسيّ هو القصر الشديد، دون اعتبارها جنسا مستقلّا عن القصّة القصيرة. وهنا من النّجاعة أن يستقرّ رأي النّقّاد حول الحدّ الأقصى من الكلمات للقصّة القصيرة جدّا \ القصيصة حتّى نضمن الفاصل بينها وبين الأقصوصة أو القصّة القصيرة.

  • القصّة الوجيزة،
  1. كنتاكي (بسّام الأشرم \ فلسطين)

يتخطّفون أصابع أرجل ورؤوس دجاج مسلوقة من بين يدي أمّهم… وأب مُطرقا يتأمّل صغاره… يستعيد كلمات صاحب المذبح وهو يُزيح إليه بقدمه ما تراكم من تحته: -هنيئا لكلابك.

  1. في المقهى

كتب قصّةً قصيرةً عن عذراء في معتقل.. تئنّ من تحت أكفّ ضاغطة ورُكب راكعة.. بعينيها تنادي بقايا ملابس من حولها ممزّقة.. سمع لحروف قصّته أنينا فبكى.. تركها بجانب فنجان قهوته.. ومضى.

  1. خطّ أحمر

يرنّ جوّالي -: بسّام…؟؟؟ – نعم أنا بسّام يمّا. – اسمعت أنّك استش.. هدت. – .. تشابه أسماء.. أنا بخير.. حيّ أُرزق يمّا. – يا حبيبي يمّا.. الحمد لله ربّ العالمين. تُعاود الاتّصال -: مُتأكّد أنّك بسّام..؟ – أنا اللّي وضّاتك الصّبح وبُست إيدك وافطرت معك فول يمّا. – صح والله.. يرضى عنك ويفرّج كربك.. حبيبي يمّا. ومازالت تعاود الاتّصال ومازلت أعاود طمأنتها خوفا على صحّتها، عند كلّ اتّصال كان الملَكان يتنحّيان جانبا لأجيبها ثمّ يعاودان مساءلتي.

في البدء نلاحظ في هذه القصص لبسّام الأشرم أنّ الحدث القصصي ركيزة أساسيّة في معمارها النصّيّ. والواجز الواعي بالتقنيات والعارف بالمكوّنات الضرورية للنص السرديّ الوجيز يأتيك بالحدث، ثم يلحقه بسمة القصر الشديد. والأحداث متشظّية تخلّصت من بنائها الثلاثي المعروف، فما عدنا نجد بداية بسماتها المعروفة والمتدرّجة نحو الأزمة فالحلّ، بل يدخل الكاتب في الحدث مباشرة.

ومن الواضح أنّ القاصّ الواجز لا يحتاج إلى التّفاصيل، وقد يكتفي بفعل أو فعلين حسب الحاجة والمقصد. لكنّ الحدث في هذه القصص الوجيزة يتشكّل فكرة أو حالة تمثّل لحظة قصصيّة مفاجئة وخاطفة غالباً ما تكون مقتطعة من الحیاة الیومیّة، ولا تختلف في هذا عن القصّة القصيرة جدّا، على غرار هذه اللّحظة القصصيّة بين أب مطرق يتأمّل صغاره يأكلون بل يتخاطفون فواضل دجاج من أصابع أرجل ورؤوسٍ يجمعها صاحب المذبح، ليقدّمها عادة للكلاب، تسلقها الأمّ لصغارها فتتراءى لهم في لذّة الكنتاكي، أشهر الأكلات الأمريكيّة في العالم. ودجاج الكنتاكي أو كي إف سي KFC كما تُعرف حاليّا بالإنجليزية: اختصارا ‏لدجاج كنتاكي المقلي”، وهي سلسلة مطاعم للوجبات السريعة تختصّ أساساً بالدجاج المقلي.

صورة مكثّفة، مشعّة لتمرير رسالة اجتماعيّة هادفة تشير إلى شدّة الفقر والخصاصة التي يتساوى فيها الإنسان بالحيوان ويزاحمه في أكله. فالكاتب لا يفصّل السرد ولا يسهب في التفسير، بل يتسلّح بالقصر الشّديد ليفجّر ذهن القارئ بالتفاصيل، فترتسم القصّة بحيثيّاتها وفق فهم القارئ وثقافته وبيئته. كمن رمى سطح الماء بحجر صغير فاتّسعت حوله دوائر صغيرة وكبيرة، فكيف يشكّك البعض في قدرة هذا الوجيز على التعبير عن قضايانا وشواغلنا وآلامنا؟ وقد حدث في تونس في فترة غير بعيدة أن عانى الشعب من غلاء الدّجاج وصار الكثير من المعوزين يقتنون أقفاص الدّجاج وأرجلها مدّعين أنّها لكلابهم خجلا واستحياء من بائع الدّجاج، ليعودوا بها إلى بيوتهم تصليها الأمّهات لصغارهن أو يرمينها في الحساء وهنّ يقنعنهم بأنّها أنفع من لحم الدّجاج ومفيدة لتنمية العظام.

ولحظة قصصيّة أخرى لا تقلّ ألما في قصّة “في المقهى”، لحظة اغتصاب عذراء في معتقل وقد انتهكوا جسدها واستباحوا عرضها من أجل فكرة او رأي. لكنّ الفكرة اليوم تُغتصب وتوطأ بالأقدام، وهي قضيّة عبّر عنها توفيق الحكيم في كتابه النقدي “تحت شمس الفكر”، يعبّر عنها بسّام الأشرم في سطرين عجيبين مؤثّرين يُسيلان الحبر والدّمع. ويُحدث بقدرة لغويّة وبلاغيّة قويّة مماهاةً بين القصّة والعذراء إلى حدّ التّقمّص، فحروف قصّتها تتقمّص معاناتها وتئنّ مثلها من فرط الألم وشدّة المعاناة قهرا وظلما، فهل يوجد أبشع منه مشهدا؟ وأشدّ منه قسوة وألما؟ وهذا المثقّف العاقل النّاضج الكفؤ كاتب قصّتها، رغم تأثّره، رغم بكائه وألمه، يترك قصّتها بجانب فنجان قهوته ويمضي، تخلّى عنها وتنحّى عن قضيّتها وترك قلمه وتنازل عن واجبه في فضح المغتصبين ونصرة المهزومين، خشية أن يتعرّض لهجوم أو يلحق مصالحه ضرر موهوم… ويُعنون الكاتب نصّه “في المقهى”، وهو مكان ذكوريّ مختلط، وكأنّ بالكاتب يقيم موازنة بين المقهى بزبائنه والمعتقل بحرّاسه، فكلاهما مكان جبن ودناءة. فكانت ضحيّة جرم مشترك بين رجل الأمن في المعتقل ورجل الفكر والقلم في مقهاه.

لحظة قصصيّة أخرى في قصّة “خطّ أحمر” ينهض فيها الحوار بوظيفة السرد، فالوجيزة قادرة أن تحتضن كلّ الأجناس الأخرى حتّى خصائص الكتابة المسرحيّة مع شرط التكثيف والإيجاز، وقد نجح الأشرم إلى حدّ كبير في تصوير ألم أمّ فلسطينيّة (من خلال اختيار لغة الحوار، اللّهجة الفلسطينيّة) ثكلى فقدت بسمة حياتها باستشهاد ابنها بسّام، مرضت من هول الفاجعة التي لم يتحمّلها عقلها، فتهاتف ابنها الميّت غير مصدّقة خبر استشهاده، النص مهاتفة قصيرة بين الأمّ وابنها تضمر ألما مسكوتا عنه ولطفا ربّانيّا بهذه الأمّ مصرّحا به، ينزله اللّه على قلبها على قدر محبّته، يتنحّى الملكان جانبا كلّما ناجته أمّه إجلالا وتقديرا لألمها، وما إن يطمئنها ويخفّف بعضا من حزنها حتّى تعاود الاتّصال به تبحث عن صوته المفقود فيذكّرها ببرّه بها، ألم عظيم تتوقّعه الأمّ الفلسطينيّة في كلّ لحظة في ظلّ الكيان الصهيوني الغاشم، ألم قد لا تكفي صفحات للتعبير عنه، ينقله إلى القارئ في يسر شديد وأسطر قليلة مؤثرة تشهد له بالبراعة في كتابة الوجيز. وبقوّة غريبة يرتسم في مخيّلتنا وجه الأمّ ولم يصفها، وشكل بسّام ولم يحدّده، ونستنبط حادثة الاستشهاد وتفاصيلها وأثرها في الأمّ ولم يقل ذلك، فالقصّة هنا تشكّلت ببلاغة المسكوت عنه وبغير المقول le non dit. فيصبح القارئ هو الباني يتدبّر المسكوت عنه بآليّة التخيّل وهو المنتج بالتأويل انطلاقا من طاقة اللّفظ، لينسجَ مع الكاتب نَصًّا نَاضِجًا مُكْتَمِلاً.

 وهل كان اختيار الكاتب لاسم بسّام قياسا على اسمه اعتباطيّا؟ لا شيء اعتباطيّ في القصّ ولا سيّما في الوجيز، ولعلّ الكاتب وضع نفسه محلّ أيّ شهيد وتخيّل ردّة فعل أمّه كيف ستكون. ومن هذه المخيّلة الصّادقة نشأ هذا النص الأليم المؤلم. ولعلّ الكاتب استنبط الفكرة تفاعلا وتناصّا مع الآية القرآنيّة من سورة آل عمران (169): “ولا تحسبنّ الذين قُتلوا في سبيل اللّه أمواتا بل أحياء عند ربّهم يرزقون”، ولعلّ هذا ما يخفّف عن الأمّ ألم الفقد، أنّه حيّ يرزق في قلبها، متنعّم في رزق اللّه، فرح مسرور بما حباه به ربّه في الدّنيا وفي الآخرة.

وإذا كانت القصّة الوجيزة بهذه المواصفات، فحتماً لن يكتبها غير متمرّس خبير باللّغة، قاصٍّ بارعٍ في بلاغة الإيجاز ومتقنٍ للّغـة بمستوياتها.

  1. أثمان (عبد المجيد أحمد المحمود، سوريا)

وهم يعلّقونه في المشنقة، توسّل إليهم أن يخبروه بمن وشى به.. أجابه الضّابط بابتسامة ساخرة: العصفورة… حينها تذكّر روايته… تذكّر كيف حرّرها (في الخاتمة) من قفص (التلغيز والكناية والإيحاء) صارخا: اذهبي، أنت عصفورة طليقة.

  1. صكّ الغفران

أدمن الزّحف حذاء (الحيط)… يخرّ عليه… يدفنونه… يكتبون على شاهدة قبره (هكذا يستشهد المخلصون)

  1. سائق وشهيد

يعود إلى الوطن بعد غياب طويل، على جناحي شوق عظيم… يركب سيّارة أجرة، يطلب إلى السّائق أن يأخذه إلى أكثر الأماكن التي يحبّها أبناء وطنه… باكيا يستدير السّائق عائدا به إلى المطار.

قصص شديدة القصر، قويّة التكثيف، تصبح فيها الشّخصيّة عبارة عن علامة سيميائيّة تحضر في صور مختلفة. شخصيّات نكرة، لا تحمل هويّة، ولا اسمًا ولا صفات إلّا بما يجود به الكاتب من صفات محدودة وظيفيّة ينتقيها لغايات دلاليّة. وقد يغيب الزمان والمكان في بعض القصص، فلا أطر محدودة، ولا هويّة مكشوفة، ولا صفات مُرسلة، بل هو الاقتصاد ما أمكن، والاقتضاب المتمكّن الذي لا يحتمل الزوائد المخلّة بجماليّة هذا الجنس. بل اعتمد الإيحاء الشديد ليجعل القارئ يبذل جُهدًا كي يتفاعل مع النصّ ومدلولاته، وتحفّز ذاكرة المُتلقّي وتحثّ خياله على التأويلٍ والتفسيرٍ والاستنتاجٍ الإيديولوجيّ انطلاقا من المفردات التي يستعملها الكاتب بعناية فائقة.

وكاتب القّصة الوجيزة يستعمل اللّغة استعمالا خاصّا، يختار ألفاظه بعناية كما في قصّة “أثمان”، يمرّ بنا عبر لغة مكثّفة، عبر محطّات يجبرنا فيها على التوقّف والتأمّل في العمق الدّلالي، وإعادة القراءة للخروج بحصيلة ممتعة من الصور التي تبني عالم القصّة، بل الكاتب بأسلوبه يكثّف لقطة ويشحنها بفلسفته وثقافته ومواقفه، كلقطة المحاكمة الفكريّة والحكم بالإعدام على الكاتب الذي يصرّح بأفكاره ويطلق آراءه بحرّية، ولعلّ أحمد المحمود يلتقي مع الأشرم في إثارة قضيّة القمع الفكري والتنكيل بالمثقّفين نساء ورجالا.

أو في قصّة “صكّ الغفران” راهن الكاتب على طاقة المفردة الواردة بين قوسين (الحيط) لإحداث المفارقة وتحريرها من معناها الأصلي، من معنى الجدار إلى معنى الحيطة والاحتياط والإفراط في الحوط والحذر والاحتراز إلى حدّ الجبن والسلبيّة والتواطؤ مع الباطل والسكوت على الحقّ إرضاء لذوي النّفوذ وإخلاصا وموالاة لهم لنيل الحظوة عندهم، إشارة إلى دناءة بعض الأقوام وصفاقتهم.

أو في قصّة سائق وشهيد، انتقى الكاتب مفردة “المطار” لها طاقة دلاليّة قويّة لاختزال معاني الغربة والهجرة والضياع والمعاناة التي يتخبّط فيها الشباب بعد الثورة، فالبكاء كان على جراح الوطن الذين يغادره أبناؤه دون رجعة.  

ويولي كاتب الوجيز أهمّية قصوى للعنوان الذي يؤدّي وظائف معيّنة ربما أبرزها تزويد المتلقي بعناصر دلالية تدفعه للقراءة أولاً وتعينه في الكشف عن الدلالات العميقة للمتن الإبداعي ككلمة شهيد في العنوان قيّدت دلالات النص بالثورة، أو يؤدّي وظيفة النّقد السّاخر كعنوان صكّ الغفران كشف عن سخرية لاذعة من حماقة بعض النّاس حين يرون السكوت عن الحقّ إخلاصا، وهو تناصّ يذكّرنا بفساد ابن القارح في رسالة الغفران. إضافة الى وظيفة العنوان عنصر إثارة يقود القارئ أو المتلقّي إلى عبور أسوار النص وعتباته الأخرى وسبر أغواره. وفي الحقيقة يختلف عنوان القصّة الوجيزة عن عنوان السرود الأخرى فيهمز ولا يفضح، ويقول ما أضمره النص مع ضرورة التكثيف.

أمّا القفلة، فهي تُعدّ مقوّما أساسيّا في القصّة الوجيزة لأنّ فيها التّحفّز والإدهاش، هي لحظة الكشف عند القارئ، لحظة الصّدم والإرباك. فأتت القفلات في هذه النصوص عفويّة تبعث على التّأمل والدّهشة من مرارة الواقع ومن كفاءة الكاتب في إخراج كلّ هذا الألم والبؤس في سطرين من الكلام.

فالخطاطة السّرديّة الوجيزة حينما تكون مسبوكة جيّدا بلا تعمية خانقة ولا مباشرة قاتلة، فإنّها تحقّق الإمتاع والإقناع من العنوان إلى القفلة، كلّها عضويّة واحدة منسجمة تتكتّل عناصرها لبناء عالم القصّة، وهنا يكمن الإبداع الحقيقي في كتابة الوجيز.

أمّا المفارقات والسخرية والتناصّ والرّمز في هذه القصص فهي سمات لم تختصّ بها القصّة الوجيزة بل أقرّها الدّارسون منذ تعريفهم للأقصوصة وقد يشتر ك فيها الشعر والسرد. فهي أدوات ووسائل توظّف بكلّ عناية في كلّ عمل فنّي: في الشعر، في القصّة بأنواعها، في الرواية، في الرسم التشكيلي، في النّحت، في المعمار، في الرّقص … فهذه السمات تسكن الحياة، وتغني النص وتمنحه أبعادا.

  • القصّة الوامضة،
  1. وطن  (رياض انقزو \ تونس)

 تنازع الإخوة، تفرّق دمهم بين الشعوب.                                             

هذه فكرة وامضة، أبرقت عن زمن الحرب والنّزاع والأخذ بالثأر على مستوى شخصي أو جماعي، فيها قِصر تشكّل من فعلين خاطفين: تنازع وتفرّق، والثاني نتيجة حتميّة للأوّل، قد تقرب في أسلوبها من الحكمة أو القول المأثور الذي يختزل معاني عديدة في قول قليل.  هي قصّة ومضت في ذهن القارئ لتترك أثرا خفيفا لا يختلف عن أثر سماع حكمة أو حديث أو مثل كأن نقول في نفس السّياق: “عداوة الإخوان تقطع الأرحام وتورّث الهوان”. لكنّ القاصّ الوامض اختار أن يعبّر عن الفكرة بالقصّ الوجيز. وهذا النوع من القصّ العابر الوامض يغريك بوجود قصّة فيهمزك في رفق ويعطيك قادحا صغيرا لتطلق عنان المخيّلة. إذن هي القصّة القادح تومض بفكرة وتمضي كما يومض نجم في ليلة صيفيّة. ورغم عدم توفّر بنية قصصيّة حدثيّة متنامية تبني حكاية مكتملة، فإنّها قصّة تغري ببناء التفاصيل في ذهن القارئ، كلّ وفق ثقافته وبيئته ولغته. 

  1. قبَّلها قُبلة الحب الأخيرة قبل عقد القِران. (محمد إقبال حرب \ لبنان)

 قصّة وامضة، دون عنوان، قائمة بذاتها، لا تحتاج عنوانا يتصدّرها أو يختزلها، أشارت إلى فتور الحب بعد الزواج، قضيّة من أهم المآزق في علاقة الرجل بالمرأة. وللفتور أسباب كثيرة يعود معظمها إلى مفهوم الزواج الذي يتبنّاه الرّجل العربيّ قبل الإقدام على تلك الخطوة. حيث يعتبر المرأة ملكا ومتاعا وعقد القران هو عقد الشراء والامتلاك. وما الحبّ سوى شرك الصيّاد لاستدراج المرأة الطّريدة نحو شبكة الزواج والقبض على الفريسة. فكرة قصيرة وامضة تشكّلت من فعل واحد خاطف آسر: قبّلها، هذا الفعل وحده كفيل بأن يثير المخيّلة لترتسم الصّور، وتلك الغاية من القصّة الوامضة، الإشارة للاستثارة وقدح شرارة التخييل دون تفجير. فهو الومض اللّطيف والمرور العابر ليترك للقارئ فرصة إنتاج التفاصيل التي يريد، لتصبح القصّة قصّة المتلقّي، يكتفي فيها الكاتب بالإشارة ويتيح للقارئ العبارة، فنتحوّل من الفهم الواحد إلى الفهم المتعدّد ونطيح بديكتاتورية المؤلّف لنؤصّل ديمقراطية المتلقي الذي لا يملك من المعاول لبناء القصّة سوى ذكائه وذوقه وثقافته المشتركة مع المؤلّف. وتلك هي ميزة هذا النّوع من القصّ الوامض في الأدب الوجيز. إذن فالقصّة الوامضة تقوم على مجرّد الومض، فلا تشكّل خطاطة قصصيّة مكتملة، بل هي أشدّ تكثيفا من القصّة الوجيزة وأشدّ قصرا.

  1. خراب (بهيجة البقالي القاسمي، المغرب).

باب ونافدة وجدار، وأمّ تبكي على منزل بلا سقف.

فكرة معبّرة جدا. على إيجازها صوّرت عالما من الوحدة والحزن ومأساة الفقد أو الحرب والقصف أو غياب البعل والسند… وغيرها من الدلالات الجائزة. فكلّ مفردة لها طاقة تعبيريّة على تفجير المعنى، والتعبير عن تلك الحالة النفسيّة الكئيبة التي قد تسيل الحبر وتستدعي صفحات مطوّلة من الكلام.. ونهض الومض القصصيّ فيها على فعل واحد هو نواة هذه القصّة “تبكي” وقد توسّطت النواة بقيّة المفردات توسّطا محكما، مفردة ذات طاقة كبيرة، قادرة على اختزان دلالات شتّى بالتفاعل مع ما جاورها من مفردات أخرى (باب، نافذة، جدار، أمّ، منزل، بلا سقف)، تفاعل فيزيائي رهيب بين النواة الفعليّة وجاراتها، ذات التفاعل الحاصل بين النواة والكتروناتها المتحرّكة حولها، المنجذبة إليها، في قلب ذرّة نوويّة atome. هذا التفاعل الذرّي المكثّف، القابل للانفجار في ذهن القارئ إلى شظايا دلاليّة، هو الذي أومض بالعالم القصصي في هذا النصّ. إنّه الخراب إذن كما أشار العنوان، خراب معنويّ داخل القصّة وعالمها، وخراب فنّيّ خارج القصّة بعد انفجارها في رأس القارئ. لكنّه خراب فنّيّ بنّاء مدهش، يشهد ببراعة صاحبته في تحقيق التشظّي بانتقاء محكم للمفردات وطاقاتها، كخبرة فيزيائيّ عارف بنتائج تجاربه وقوّة المكوّنات التي اختارها إذا تفاعلت فيما بينها.

  1. تواصل ( علي بنساعود، المغرب)

انتظرت ردّه. كان صمته طلقةَ رصاص.

من الواضح أنّ القاصّ الوامض يحتاج إلى إلغاء التّفاصيل، وقد يكتفي بفعل أو فعلين حسب الحاجة والمقصد. لكنّ الحدث يتشكّل فكرة أو حالة تمثّل لحظة قصصيّة مفاجئة وخاطفة غالباً ما تكون مقتطعة من الحیاة الیومیّة. على غرار هذه اللّحظة القصصيّة بين المرأة وهذا الرجل الذي نجهل نوع الصلة بينهما، لكنّ الحدث بينهما يستدعي انتظار جواب عل طلب مسكوت عنه. ترى ماذا طلبت حتّى تلقى منه صمتا قويّا قاتلا بوقع رصاصة؟

فالكاتب يثير القارئ بتجاوزه للمتعارف عليه. ويوقظ الأسئلة في ذهنه بالومض بمهارة العارف بمكوّنات القصّة الوجيزة الوامضة. فيزعزع ذوقه بوعي سرديّ جريء شكلا ومتنا وبناء، وله وراء ذلك مقاصدُ مدروسةٌ تخلخل ذلك العقد المبرم بين الكاتب وقارئه. فهو لا يحفل بالفعل بقدر احتفاله بخلق إحساس عميق بالحالة، ولا يهتمّ بأن يكون له النّصيب الأوفر من الكلمات بقدر انشغاله بمدى التأثير في القارئ وحمله على التعبير وبناء التفاصيل بدلا عنه. فلم تعد التفاصيل تفاصيل الكاتب في مملكته بل باتت ملكيّة مشتركة، المملكة للكاتب وما في المملكة للقارئ. ولعلّ العنوان “تواصل” يؤكّد حرص الكاتب على هذا التواصل بينه وبين شريكه. ولعلّ الصّمت هو صمت الكاتب، صمته طلقة رصاص ستفجّر رأس القارئ بالحيثيّات ودقائق الأمور التي يبحث عنها في كلّ حكاية. ولعلّ ولعلّ ولعلّ…، هذا الفيض من الاحتمالات والتأويلات هو ما يغني الأدب الوجيز، وهو أدب المتلقّي بامتياز، كلّ قارئ يجد فيه نفسه بما أنّه هو الذي يبني تفاصيله ويعبّر عنها أكثر من الكاتب، لأنّ الواجز لا يفصّل السرد ولا يسهب في التفسير، وإنّما يترك الأمر للمتلقّي وفق فهمه وثقافته التي تختلف من قارئ إلى آخر ووفق البيئة التي نشأ فيها. ويصبح القارئ هو الفاهم والمعبّر والباني، لأنّ كتّاب الوجيز يؤمنون بأنّ المتلقّي على درجة من الإبداع مثل الكاتب.

  1. نماذج من السرد الوجيز الطّلسمي
  • ملل (محمد إقبال حرب، لبنان)

وُلدت ولم يكترث أحد، زارني ملك الموت، ولم يشيعني أحد. عدت مرّة أخرى فلكزني الجميع. انتحرت فأنقذني الشيطان. تبّا لهذه الأحكام الجائرة.

لا علاقة لهذا النص بفنّ القصّ الوجيز سوى في القصر وحضور السّرد من خلال استرسال الجمل الفعليّة وأدوات الرّبط وعلامات التنقيط. ومتى حاولنا البحث فيه عن مقوّمات القصّ التي تنهض عليها كلّ قصّة، لم نجد سوى سرد عاديّ لا يرتقي إلى مستوى الأدبيّة والجماليّة المنشودة في كلّ فنّ من فنون القصّ. فلا حبكة ولا حدث ولا مظاهر تكثيف أو تركيز، ولا عقدة، ولا فكرة ذات مغزى، لأن صاحب النصّ أن يستجيب لخاصّية التشظّي في عناصر البنية الحدثية، فوقع في فوضى السرد وتجاورت الجمل دون رابط علّي ظاهر أو خفيّ، فلم يحقّق الجماليّة المنشودة النّابعة من الاتّساق الدّاخلي لعناصر القصّ، فبنية التشظّي في القصّة الوجيزة لا تعني تشّتّت الأفكار وبعثرتها كيفما حدث، ولا نقصد بها إحداث فوضى بين الجمل إلى حدّ تدمير المعمار القصصيّ. وفي هذا النصّ جاء التشظّي مفتعلا، غير قابل لإعادة البناء، والخاتمة غير تلقائيّة لا تخلو من تعسّف وإسقاط.   وهو ما أفضى بالنصّ إلى حدّ الغموض العقيم الذي لا يضفي قيمة جمالية على النصّ، ولا يجعل النص قابلا لتعدّد القراءات والتأويلات. وهو ما أحدث قطيعة بين النص والمتلقّي الذي يريد نصّا قريبا من فهمه وذائقته. وكلّما زاد الكاتب في التشظّي الاعتباطيّ إلى حدّ القطع مع المعنى والتعتيم خفّ بريق الإبداع في النص وكأنّه يكتب لذاته!! ما يدفعنا إلى التساؤل عن جدوى الكتابة الوجيزة إذا أصبح ثالوث الكتابة الكاتب، المتلقي، النص، يحيا في قارات منعزلة؟

فبعض الكتّاب الكبار الذين قدروا على الكثير ألقوا بأنفسهم في يمّ الوجيز وهو لا يجيدون السباحة فيه، فبعض النّصوص لا تتوفّر فيها مقوّمات القصّ ولا سمات الوجازة في مفهومها الحديث (القصر، التكثيف، التشظّي، الإيحاء دون إلغاز، القفل الصّادم). وفي هذه المرحلة قد يختلط الجيّد بالغثّ ولا سيّما أنّ هذه السّمات الجديدة مازالت على رمال متحرّكة ومازال بعض الكتّاب لا يعُونها بوضوح، فليس كلّ سرد قصير جدّا هو قصّ، وليست كلّ قصّة قصيرة جدّا هي وجيزة، وليس كلّ غموض هو تكثيف. بل التكثيف الدّالّ قد يخفق فيه الكثير من الكتّاب لصعوبته. ولربّما هذا النص ضرب من التحايل السردي للتسلّل إلى ميدان القصّة القصيرة جدّا حين يتعذّر على الكاتب هذا النّوع من الكتابة الوجيزة. والفاهم لشروط الوجيز لن ينطلي عليه مثل هذا التحايل الفاضح لعجز صاحبه.

  • ذاكرة الماء (سميّة تكجي، لبنان)

على غفلة من النّاس مدّ يده إلى شبكة الصّيّاد ورمى بعض الأسماك إلى البحر. ثم قال مسكين هذا الصّيّاد لم يحظ إلّا بسمكة واحدة. ابتسم الصّيّاد ابتسامة حزينة، أضاءت عيناه كنجمتين، وتلألأت الأسماك في ملامح الماء…!!!

يوجد تنامي الحدث، وتتوفّر الحكائيّة، إذن هي قصّة لا تخلو من بنية حكائيّة ماثلة في الجمل الفعليّة وترابطها حدثيّا واتّساق عناصرها القصصيّة. لكن الملفت للنّظر أنّ هذه القصّة رغم قيام عنوانها على المفارقة المغرية والمشوّقة التي تعد بحكاية مثيرة، تنحدر نحو اللّامعنى وتغرق في التعتيم الثقيل. وبما أنّه لم يتيسّر لنا ظاهر المعنى، قلنا لعلّه داخلي وغائرٌ في أعماق النص لا يدركه عوامّ القراء. وهذا الشيء الغائر في النص هو الرمز الذي يتوسله المبدع وسيلة فنية عميقة تكشف عن طاقته واقتداره على تجاوز المعنى الظاهر للنص الإبداعي. وفي هذه المساحة المحدودة من القراءة وقفنا ما أمكن على الرمز في هذا النص: رمز الصيّاد والبحر والماء، ووقفنا عاجزين أمام صلاتها بالعنوان والمغزى من هذا التمثيل وهذا التشكيل الجماليّ الملغز. إذ من اليسير الوقوع في السرد الطلسمي والتعتيم، فيستغلق المعنى، ويضيع الفتيل بين الكاتب والقارئ، ويغيب الخيط وتتوارى الدّلالة فيأتي الظلام. يقول كمال العيادي في حديثه عن القصّة القصيرة جدّا في مقال منشور بجريدة القاهرة:غرفة السرد لا نثقلها ضوءا، ولا نحرقها ظلاما، هي كتابة تتخفّى وراء غمزة الإشارة وغنج العبارة، وتتقنّع وتتمنعّ “. ولعلّ التكلّف في التكثيف والتركيز سينتج نصوصا ينبغي علينا أن نجد لها تجنيسا مغايرا للقصّة الوجيزة.

ومن هنا نقرّ بأنّ القصّة الوجيزة صعبة كتابة ونقدا ولا سيّما أنّها مازالت تبحث عن نفسها، ولأنّها تختزن في مفرداتها عصارة التجربة الثقافية والفلسفيّة واللّغوية الجماليّة للكاتب.

.خاتمة:

شاهد هذا القصّ الوجيز طيلة السنوات الماضية ضروبا شتّى من الرفض والاستهزاء والاستخفاف بقدرة هذا النوع من الكتابة الوجيزة على التعبير عن قضايا العصر وعن ذات الإنسان ووجوده..

وازداد هذا الرّفض أمام ما أصاب الأدب من استسهال وإسهال، يتراءى لغير الفاهم أنّ الكتابات الوجيزة سهلة الصناعة والإنشاء. فتراكمت النّصوص بغثّها وسمينها في غياب النقد الجادّ ما ساعد على الإنتاج الرّديء العاجز عن التكثيف والتورية. وأفضى كلّ ذلك إلى فوضى في المفاهيم والإنتاج. ودور الناقد يكمن في تأصيل المصطلح والنوع والتأسيس لمنظومة نقدية خاصة بهذا الأدب بهويّته الجديدة، ولإخراج هذه النّصوص من خانة المجاملات والعلاقات الشخصيّة.

ولعلّنا نعد بدراسة نقديّة جادّة نتناول فيها مسألة الأدب الوجيز اصطلاحا وأجناسا لنثبت وجهة نظرنا القائلة بأنّ الوجيز في الشعر يضمّ ثلاثة أجناس أدبيّة بحكم قانون التّطوّر: ما يصطلح عليها بالأقصودة قياسا على الأقصوصة في النّثر، والهايكو، والومضة، وفي النثر الوجيز نرتئي وجود ثلاثة أجناس أيضا: هي الشذرة وهي كتابة وجيزة خالية من القصّ، والقصّة القصيرة جدّا والقصّة الوجيزة، مع اعتبار القصّة القصيرة جدّا من أشكال الأدب الوجيز لكنّها ليست جنسا جديدا بل هي من جنس الأقصوصة للأسباب التي أتينا عليها بإيجاز في هذه الورقة. ومن القصّة الوجيزة انسلّت أنواع أخرى لا تمثّل أجناسا مستقلّة على نحو القصّة الومضة.

ورغم كثرة الكتابات النقدية في هذا الجنس في بعض البلدان العربية من أهمّها العراق، لبنان، السعودية، الأردن، المغرب… فإنّ هذه الدّراسات تبقى محاولات فرديّة وجهودا متفرّقة لم ترتق إلى مستوى تشكيل نظريّة واضحة جامعة مانعة لأنّها مثّلت آراء وأحكاما انطباعيّة أكثر منها علميّة ومنهجيّة. ثم هي جهود متناثرة ومتفرّقة على بعض المجلّات الورقيّة أو الرقميّة أو على بعض صفحات التواصل الاجتماعي، دون أن تشكّل رؤية موحّدة لهذا الجنس. ولم يعمل روّاده من النقّاد على توحيد جهودهم.

……………………….

*باحثة وكاتبة من تونس

مقالات من نفس القسم