بيرة في نادي البلياردو .. الاغتراب الممتد

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 أمل إدريس هارون

هذه رواية فريدة على مستويات عدة، وهي كذلك الرواية الوحيدة المكتملة لكاتبها، والتي تبدو كسيرة ذاتية متعددة الطبقات منها ما يمس العالم ومنها ما يمس الفرد ومنها ما يمس المجتمع المخملي المصري بعد ثورة يوليو وتحولاته الجوهرية في فترة ترتكز على خطاب قومي قوي به الكثير من المبالغة سواء المتفقين معه أو المعادين له،





 اكثر ما تمنحنا حقائق معاشة حقيقية لها ملامح انسانية مقبولة . الرواية تمنحنا بعفوية وجاذبية  شخوصاً من لحم ودم يحبون ويكرهون وينهزمون ويتأزمون أمام فداحة الاغتراب وتفسخ العالم وضياع نقاطه المرجعية، رواية وإن غرقت في تفاصيل وأسماء مرحلتها التاريخية وتحولات العالم حينها في فترة الستينات، لكنها ترتد إلينا بطزاجة معاصرة بسبب حيرة أبطالها وانهزاميتهم، كلُ بطريقته، وتذكرنا أن القضايا التي شغلت هذا البطل لم تحسم بعد ويبدو أنها لن تحسم في المطلق . نحن أمام بطل يقدم لنا العالم من زاويته الخاصة ويسرد علاقاته وتعقيداتها وتمزقه بين حجم قراءات ومعرفة، بل وتجربة مهولين، تأرجحه حول عدة عوالم يتقن مفاتيحها جميعاً وبين مثاليات مطلقة وواقع لا يسعى حتى لتبريره بقدر ما يراه بلا أي سواتر تحمي روحه العميقة من التخريب. 

 فنرى “رام” القبطي المصري المتعلم تعليماً انجليزياً – هذا الاسم اللغزللبطل ! – بمواجهة عالمه الضيق ، الطبقة الاقطاعية التي تستمر في امتصاص دم الفلاحين المصريين ليتعلم الابناء تعليماً اجنبياً بالداخل والخارج وتعيش ببذخ مستفز وظالم، وبمواجهة عالمه المجهول ، المصرية الصرفة التي يدعي انه يتمكن منها لاتقانه فن النكتة والتي تعادل الفطرة والسريرة السليمة، وبمواجهة عالمه المتخيل والداخلي ، عالم الكتب والمعرفة والفهم العميق الزائد لما يجري في العالم ، قضايا الحرية والتحرر ، العدالة والظلم والفقر والحروب ، عوالم متداخلة لا تتصالح ولا تمنح سلاماً ، ومع طبيعة رام التي تجر نفسها للحافة باستمرار للهروب عله يجد الراحة ، نجده مدفوعاُ في نفس الوقت للتدمير الذاتي سواء بالخمر او المقامرة أو السخرية والضحك المنفلت بلا سبب واضح كما تردد في الرواية.

ما يثير الاعجاب في هذه الرواية بالاضافة لما سبق ، هي حساسية الكاتب العميقة وقدرته الملفتة على رسم شخوصه بواقعية تحترم خصوصية ونركيب كل شخصية دون تسطيح او تحميل زائد، فمن نعومة نظرته وتقديمه للشخصيات النسائية من “إدنا” و”ديدي” والحب المتأزم إلى براعته في رسم شخصيات مثل أمه وخالاته القويات المستبدات ، والاجنبيات في مصر وخارجها ، إلى الشخصيات الرجالية التي تبدو في معظمها واقعية بضعفها وانسانيتها وحتى وضاعتها ، الصورة التي قُدمت عن مصر الحقيقية أو عن “المصريين” الحقيقين ، تبدو بعض الشيء مثالية أو مطلقها في خيرها المفترض ، ربما لأن “رام” و”إدنا” كانا يحتاجا لنقطة مرجعية لا تقبل الشك ، فأزمتهما كانت مرتبطة بشكل ما بالرغبة في الانتماء المتماهي مع هذه الصورة عن “المصرية” الخالصة التي قٌدمت على أنها أولاد البلد ومرتدي الجلاليب والفلاحين في القرى .

في مستوى أخر أكثر خفوتاً وخلف التفاصيل والحوارات ، تأتي فجأة عبارات نافذة في اطلاقها وسخريتها ، تربطنا انسانياُ بهذا “الرام” الحائر ، الذي يزخر رأسه بالكتب والمعرفة والحساسية المفرطة نحو العالم وقضايا الظلم والعدالة، لكنه لا يستطيع ان يكون سوى “رام” العابث ، العاجز ، الذي يمتلك روح ساخرة للغاية بمواجهة العالم والذي ينتهي به الأمر بممارسة استغلال طبقته دون فعل ، ربما لواقعيته أيضاً انه لا مجال لتغير العالم.

هذه رواية معقدة ومتاحة للتنقيب بها عن قراءات أخرى متنوعة لما تطرحه من عام وخاص وانساني ،يمكننا قراءة موضوع المصرية كخط منفصل ويمكننا قراءة التدمير الذاتي أمام هول العالم وتعقيده كخط منفصل ويمكننا قراءة هذه الانسيابية والجمال المدهش في تقديم صورة المرأة كخط منفصل ويمكننا قراءة اعادة هيكلة المجتمع المخملي الستيناتي كخط منفصل  ويمكننا قراءة توظيف السخرية كخط منفصل ، وربما جزء مهم من سحر هذه الرواية هي عدم اكتمال تجربة وجيه غالي  الذي اختار مغادرة الحياة ، ربما كموقف من العالم نفسه ، مغادرة لها مذاق الطزاجة والسخرية والألم النابض الذي يأسرنا.

طوبي للغرباء

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 شاعرة مصرية 


مقالات من نفس القسم