بوسطن: منتصف التسعينيات

بوسطن: منتصف التسعينيات
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ذهب "نادر" إلى الثلاجة، وأخذ زجاجة ماء بارد وشربها حتى قبل النهاية بقليل، الجو حار وخانق برغم ما يشاع أن بوسطن من المدن الباردة في الصيف، قال لنفسه: ربما السبب ضيق الشقة التى يقطنها منذ أيام قليلة مع ابن عمه "باسم" الذى جاء هنا منذ بضع سنوات مع جاكي الفتاة الأمريكية التى تعرف عليها فى مقهى "زهرة البستان"ٍ. بوسط البلد، فترك جامعته قبل أن ينهى دراسته.

كان “نادر”متطلعًا لزيارة “باسم” الذي افتقده كثيرا؛ لأنه كان أقرب أبناء العائلة منه، وبينهما توافق فى كل شيء خاصة حبهما للموسيقى والغناء.. استقبله “باسم” فى ميدان هارفرد العريق كما اتفقا فى الهاتف، وبالرغم من تأخر باسم فى المجيء إلا أن “نادر” استطاع أن يقضى وقته فى النظر إلى المارة عند مقهى “أوبابان”، واستمتع بالتحدث إلى الرسامين ولاعبي الشطرنج الذين يجلسون بالساعات، وذكره ذلك بصديقه حازم الذى يدمن الشطرنج، ولم يتركه إلا ليعمل مدربًا فى إحدى صالات الألعاب بشرم الشيخ.

التي خرجت من السيارة وتمسك بذراع “باسم” فتاة ذات ملامح أسيوية، لم يتعرف عليه “نادر” من اللحظة الأولى، فقد خف وزنه، ونما شاربه، وملابسه غريبة حيث يرتدى بنطلونا من الجينز المهترئ عند ركبتيه وقميصا بدون أكمام، ويقود عربة فارهة: سلم عليه، وقدمه إلى “شوكي”: من اليابان وتدرس فن التجميل فى أمريكا ثم قال “باسم”: “لا وقت نضيعه، اركب”.. انطلقت السيارة ثم توقفت أمام مبنى كبير، قال “باسم”: “سنذهب إلى الساونا سأغسل لك عرق ودهون فرمونت، سنذهب إلى الساونا، أعتقد أنك تحتاج إليها بعد دراسة عام كامل فى ولاية ريفية مثلها”.

خلع “نادر” ملابسه وتجرد من كل ما يستر عورته.. كان خجلًا من جسده وكأنه آدم لحظة دخوله بحواء. في حجرة البخار كان الرجال والنساء يجلسون عرايا وامتلأت الغرفة وتكثف البخار حتى حجب الرؤية تمامًا وكاد يخنقه، لولا أنه خرج بسرعة وصدمه الهواء وأشار إليه “باسم” فنزل المغطس البارد حيث كان بجواره رجل وامرأة يلعبان ويلهوان سويًّا، وكانت عورتهما بارزة بشكل ملحوظٍ فغٍض بصره.

***

سارت السيارة بمحاذاة نهر شارلز، الأشجار الكثيفة التي تحضنه، والمباني القديمة والقصور.

قال باسم وهو يقود السيارة وينظر إليه من حين لآخر: “هنا الحياة وليست فرمونت، بوسطن أقدم ولاية أمريكية، نزح إليها الإنجليز منذ اكتشاف أمريكا ثم أصبحت موطن الأيرلنديين، هنا كل الجنسيات”، ثم أضاف ” لماذا لا تمكث في بوسطن، الدراسة فى “هارفرد” هي المستقبل، وإن كان على المصروفات تدبيرها سهل، ثم أدار جهاز كاسيت السيارة على أغنية “يا جبل البعيد خلفك حبابينا” في هذه اللحظة امتزج صوت فيروز بالطبيعة فخلق جوًا رعويًا خلابًا… سرح نادر فى الجبال العالية، وتذكر فرمونت وصديقته “سارة” ” وجاءته فكرة كتابة قصة.

***

اسمى “نادر” أتيت إلى فرمونت لأدرس الأدب الأمريكي، شعرت بالضجر لوجودي فى فرمونت، والفتاة التى كنت أريد أن تصاحبني هناك باتت غريبة الأطوار، وتفضل الوحدة على الصحبة، تقرأ كثيرًا، وتحملق فى وجوه الناس كثيرا، وتتحدث مع الغرباء بشراهة ثم تتركهم فى منتصف الطريق، وبالرغم من افتتاني بها إلا إنني كنت أشعر أنها تخاف أن تعطى حياتها لأحد. أتصورها شخصية روائية أكثر منها عادية حيث تملؤها التناقضات، إحباطي منها دفعني للسفر فتركت فرمونت لأزور “باسم” وها أنا أجلس مع غرباء عنى تمامًا، وخاصة هذه اليابانية ذات العيون الضيقة والبشرة الصفراء الباهتة.

قال باسم لى بثقة: “شوكي ستمكث معنا يومين، ثم ستذهب، وستكون على راحتك”.

الفتاة اليابانية كانت متضايقة كثيرًا، وكأن هناك امرأة أخرى تحتل مكانها. قال وهو يضغط على كتفي: “سيبك من الحريم حتروق بالليل”.

فى الشقة الصغيرة التى تقع فى منطقة “بريتون”، قدم لي مشروبًا وقال: “أكيد وحشك الطعام المصرى”، فطلب وجبة جاهزة من مطعم لبنانى عبارة عن وجبة كفتة وكباب وأرز بالخلطة”.

قال: “الولايات المتحدة غير مصر تمامًا، هنا كل شىء، ما تحلم به تجده، حاول وستجد حتى وإن لم يكن معك نقود، البطاقة الائتمانية ستفتح لك كل شىء اطلب وسدد على راحتك”.

فى المساء جاء بعض السودانيين وطهوا طعامًا عَبِقَ الشقة برائحة غريبة، وكأنهم وضعوا فيها توابل الشرق كلها، وغنوا كثيرًا، ورقصوا أكثر، فقال: هؤلاء أكثر إخلاصا من أية جنسية فى العالم وغنى معهم “سرقوا الصندوق يا محمد ” ثم انصرفوا.

عندما خلدنا للنوم كانت الفتاة ترقد على حافة السرير، وأنا بجوار الحائط وباسم فى الوسط فقلت له: هذه أول مرة أنام بجوار امرأة ليست أمي أو أختي”، قال “باسم” وهو يحتضنها بقوة ويقبِّلها: “البشر كلهم إخوة “.

فى الصباح تشاجرت اليابانية معه، وعندما سألته عن سبب الشجار، قال: “إننا نتحدث بالعربية وهى لا تفهم هذه اللغة، وهذا ما يغيظها، فلوت وجهها واصفرت وضاقت عيناها أكثر وسمعت علو صوته وتهديده لها، وقال: “لقد هربت من القهر فى مصر فلا تكوني أنت سجانتي هنا. جئت هنا للحرية، لكى أكون أنا وليس ما يريد الآخرون.. هذا ابن عمى، وأهم منك كثيرًا، ويجب أن تحترميه”. فتمتمت قائلة: اللعنة.

بعد ساعة حزمت الفتاة حقيبتها ورحلت، وجلسنا سويًا، وقال: المرأة لن تحكمني، ستعود يومًا. اليابانيات ليس لهن سوق هنا، فالرجل الأمريكي يحب المرأة الإسبانية أو الإيطالية، يحب الروح المفتقدة فيه.

أصبحت الشقة مرتعنا، وشاهدنا التلفاز، وطهونا بعض الطعام، وشربنا القهوة، ثم أخذ يحكى عن زوجته السابقة التى جرته إلى المحاكم وأخذت كل ما ادخره فى الفترة الماضية بسبب صفعه لها عندما رفضت الالتزام بتقاليده وقال: “قطة عاهرة لا تريد إلا النوم بين أذرع الرجال، وتحت أفخاذهم”. ثم قال: مهمتها انتهت منذ وصولي هنا، أنا الآن أعمل سائقًا لسيارة أجرة وأجمع مالًا وفيرا، قلت: والعلم والجامعة والغناء فأشار بإصبعيه -السبابة والوسطى- وقال بصوت تملؤه الجدية: “المرأة تحب الدولار والهزار “. ثم أمسك بجيتاره وبدأ يعزف مقدمة أغنية “حاول تفتكرني” لعبد الحليم حافظ.

فجأة رن الهاتف، وأخذ يتحدث بالإنجليزية مع فتاة ظننت أنها “شوكى” حيث يقول لها: “اهدئي وعودي، وأنا فى انتظارك، ثم وضع الهاتف وضحك وقال: حظك فى رجليك يا “عم نادر” واحدة حلوة قوى هتزورنا، بس هى صاحبة صديقى، روسية بس إيه ! حكاية، عارضة أزياء، ستأتى بعد نصف ساعة. قلت: أكره الخيانة.ثم ضحكت، وقلت: الروس جدعان برضه ساعدونا فى بناء السد العالى.

كانت “أولجا” فارعة الطول، برونزية اللون، ورمادية العيون ذهبية الشعر الذي ينسدل بحرية على جذع رقبتها الغزالية.

جلست بهدوء ثم انهمرت دموعها، وعلا نشيجها فذهب إليها “باسم” وأخذها بين ذراعيه، ونامت براحة على كتفيه وبعد برهة اعتدلت فى جلستها، ناولتها منديل “كلينكس” فشكرتني.. قالت: وغد يعاملني بقسوة ويتهمنى فى شرفى، يبتزنى ويأخذ نقودى، فاشل ووضيع. ثم أزاحت تنورتها لتكشف عن ساقيها، وقالت: يشك أنني أضاجع رجلًا آخر بسبب هذه التجمعات الدموية والكدمات الزرقاء، وأحلف بالمسيح أنها أصابع الملائكة التى تهدهدنى فى أحلامي المزعجة طوال الليالي التي عشتها معه”.

كانت أغنية “بوب مارلى: “ No Women , No Cry “لا نساء لا دموع”، تملأ فراغ الغرفة وعندما استمعت إلى المقطع الأخير ارتفع صوت بكائها أكثر، فحاولت تهدئتها:

– ولماذا لا تتركينه؟ سألتها وأنا أشفق عليها من هذه الكدمات وأصابع الملائكة.

– “أحبه ولا أستطيع أن أبعد عنه، ثم سكتت وقالت: ولمن أذهب؟ لا أعرف أحدًا في هذه الولاية، فقد عرفت الحب على لمسات يديه، وتذوقت الشهوة على ملامس شفتيه، وغرفت من منابع النشوة بين ذراعيه، ورائحة جسده التي تغمرني”، ثم صمتت برهة لتمسح دموعها ثم أضافت وهى تنظر لي: ” ولكن الآن لا فائدة منه؛ لقد هجرني إلى ممثلة أمريكية مغمورة بدا مفتونًا بها، يسهر معها، ولا يقترب منى مطلقًا، وأوقاتنا الآن شجار مستمر”.

فجأة دق جرس التليفون.

سمعته يقول: “ألا تؤجل مجيئك هذا إلى الغد يا جورج” رأيت نظرة من التوتر على وجهه ثم وضع سماعة الهاتف وقال:”يجب أن تختفي أولجا الآن، جورج خطيبها سيأتي حالًا”.

همست برهبة “لا يجب أن يراني هنا، سنتشاجر سويًا؛ سيضربني” انتقل التوتر والخوف إليّ وشعرت أنها تنتمي لى وتخصني، وأنها تطلب نجدتي، خيلت لي سذاجتي أن جورج هذا سيتشاجر مع باسم وربما تحدث معركة بينهما، وسيهدم المعبد على أصحابه، أخذت حقيبتها في يد وأمسكت بالأخرى إحدى يديها.. كانت باردة ونحيلة وشعرت بنبضات عروقها ترسل إشارات إلى جسدي كله فأسرعت خطواتي، على السلم الخشبي المؤدى إلى سطح المنزل، كان الجو باردًا.. النجوم خجلة هذا المساء ولكنها ترسل وميضًا من حين إلى آخر.

أجلستها بجوار الحائط.. قلت لها:”لا تخافي”، قالت: “الهروب العظيم”.

شعرت بأهميتي فى هذه اللحظة، هبطت الدرج متسللًا خائفًا دقات قلبي تتصارع، ونبضي يزداد، شعرت مرة ثانية وأنا ألمس جدران الدرج بملمس يديها وتوترت الإشارات التى أرسلتها يداها لى منذ دقائق عديدة.

كان جورج شخصًا ممسوخًا، خيالا لبقايا رجل، فارع الطول، خفيف الشعر، عضلات ضامرة يكشف عنها بقميص أسود ذي أكمام قصيرة لا تتناسب مع حجمه.

كانت تفاحة آدم تظهر فى رقبته بشكل غير طبيعي فتثير فى نفسي رغبة فى اقتطافها، وإلقائها تحت قدمي.. رأيته يتحدث عن نفسه بطريقة يملؤها الغرور والحنق كبطل عجوز مهزوم يتوعد بمباراة جديدة يهزم فيها بطلًا عالميًا شابًا.

تكلم جورج عن النساء اللاتي يطاردنه فى كل مكان، عن الحب للفتاة الأمريكية التى أعطته كل ما يحتاج من مال وجسد، وعن حبيبته “أولجا” واكتشافه خيانتها، وهو الذي أعطاها الفرصة لكي تجئ إلى أمريكا لتعمل فى مجال عروض الأزياء، وعن صنعه لها ولغيرها عن طريق صوره الفوتوغرافية التي تجذب أهم دور الأزياء لهن. قلت لباسم: “لماذا نتهم دائما المرأة بالعهر لأنها تعطى جسدها للرجل الذى يدفع لها، ولا نتحدث مطلقًا عن الرجل الذى يعطى نفسه للمرأة وينتظر منها المقابل؟”. قال باسم وهو يعد الشاي: قصدك ال “جوجولو”، ثم قال بصوت مخنوق: لا داعى أن تكون فظًا بهذه الطريقة، ثم جلس بجوار جورج وأشعل سيجارة بعصبية.

ولكن الشيء الذي أثار في نفسى القلق مرة ثانية، أن جورج لم يسأل عن محبوبته الغائبة ولو لمرة واحدة ولم يهتم أين هى؟ ولم يتجول –رغم ارتباكنا عند قدومه- في الشقة التى تسمى أستوديو ولم يزعج نفسه حتى بالسؤال: هل اتصلت خطيبته أم لا؟ ولم يتحدث عن اختفاء خطيبته.

بعد أن غادر المنزل فى الخامسة صباحًا. صعدت لها كنت أحمل فى يدى مصباحًا، وطلبت منها النزول فلقد زال الخطر، وذهب ذلك الغادر. كان الكاسيت يعيد الأغنية نفسها مرات عديدة، أعددت لها “أومليت” وخبزًا، وبعض التفاح، أكلت كأنها كانت هاربة من مجاعة ً نزلت الدموع مرة ثانية، وقالت لى: “أنت طيب جدًا “.

“ضحكت: “ليس كما تعتقدين ”

عندما ذهبت لتنام سألتُ باسم: ألن تنام بجوارها؟ فأجاب “ليس الآن، هى ضيفة عندى لمدة محددة ولكن ربما يحدث.. لا أعلم”.

– وهل أعطيتها العنوان قبل أن تجيء إليك ؟.

– لا.

– ولم تأت أبدًا لزيارتك مع صديقها جورج هذا ؟.

– مطلقًا.

– إذن كيف عرفت عنوان المنزل؟

نظرنا إلى بعضنا البعض وضحكنا حتى الدموع وذهبنا لننام بجوارها كما حدث مع السابقة.

ــــــــــــــــــــــــــ

*فصل من رواية “النوم مع الغرباء” الصادرة أخيراً عن دار الربيع العربي

 

 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال