بـ”الموت أكتب لكم” قراءة في مجموعة (عجائز قاعدون على الدكك)

بـ"ـالموت أكتب لكم" قراءة في مجموعة (عجائز قاعدون على الدكك)
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد عبد الحميد النجار*

“حاذر من الرواية المهمة مثلما تحاذر من الرواية الضعيفة” .. ربما كانت تلك النصيحة الوحيدة التي نسيَ شيوخ السرد والنقد أن يقولوها للأدباء الشبَّان. قَدَر الطاهر شرقاوي أن يخرج علينا في العام 2006 برواية مهمة مثل “فانيليا”، وليس بوسع قارئ “مدرَّب” مثلي (ولن أعتذر عن بروز ضمير المتكلم في هذا الموضع) – مع الأسف – أن يتعاطى جماليا مع المجموعة القصصية “عجائز قاعدون على الدكك” خارج إطار علاقتها بـ “فانيليا”.

في مقال سابق حول رواية “أيام النوافذ الزرقاء” لعادل عصمت، اقترحت فرضيةً مفادها أن غواية الموت في الكتابات السردية المعاصرة نتاج لرؤية الطبقة الوسطى المصرية الآنية للعالم حيث شعرت بالرب / الدولة الراعية التي نشأت تلك الطبقة في كنفها (خلافا لقصة نشأة وصعود الطبقة الوسطى في أماكن كثيرة من العالم) يتخلى عنها منذ نكسة يونيو، وتصاعَدَ هذا الإحساس بمرور الزمن، حتى تمثَّل رمزيا في موضوعة “الموت” باعتبارها تعني أن العالم لم يعد مكانا قادرا على استيعاب الذوات الفاعلة داخله، وفي المقابل عَجْز تلك الذوات عن مسايرة حركية العالم.

التصور الأخير يجمع بين العملين، رواية الطاهر شرقاوي ومجموعته الأخيرة، غير أنه غير كافٍ لفهم المجموعة وتذوقها جماليا ومضمونيا بطبيعة الحال. صحيح أن “العجائز” القاعدون على الدكك قابعون في أماكنهم في انتظار الموت غالبا، غير أن الحالة السكونية للموت لا تسيطر على صياغة المشاهد السردية؛ فالعالم يعج بالحركة ربما بسبب حدث الموت ذاته. بل ربما يكون سعيدا (قصة يوم ملائم تماما): “جو ملائم تماما لأن يأتي كل الجيران، والأقارب، والأصدقاء، والغرباء، لحضور الجنازة. وسيجدونها فرصة مناسبة، لعدم الذهاب إلى الشغل، والقعود في السهراية، يدخنون بشراهة، ويثرثرون”. وبالمثل يتمكن الولد الصغير (قصة جريد أخضر) من اكتساب قوته بفضل الجريد الذي يبيعه لزوار المقابر، ثم يعيد جمعه وبيعه مرة أخرى. فكرة التقوُّت على الموت حاضرة أيضا في “فانيليا” ممثَّلَة في رجل الجنازات الذي يعيش راضيا وسعيدا بفضل متابعته الدؤوبة للجنائز وصفحات الوفيات في الجرائد. المحصلة النهائية هي أن التفرقة واجبة بين أولئك الذين يكتبون “عن” الموت، وأولئك الذين يكتبون “بـ”الموت.

وإذا كان الموت موضوعة مسيطرة، فليس معنى ذلك أنها ماثلة من منظور أحادي؛ فقد يكون الموت استعادة لحالة رحمية تضمن للمرء الحماية من شرور العالم (قصة رحم على مقاسي)، وقد يكون نتيجة طبيعية للتضاد بين الأنا والآخر (قصة المومياء): “أنا أيضا – في عالمي – سأصل إلى قناعة، أنكم لا تستحقون التذكر”، وربما يكون رغبة في البقاء في العالم ولكن بصورة أخرى: “أريد أن أموت بينكم… تحت الشمس .. في الهواء.. بالقرب من النخلات، التي غرستها وأنا صغير… آه لو تجدون وسيلة لإبقائي هكذا. كأن تحنطوني مثلا”. غير أننا – في كل الأحوال – لسنا بإزاء الموت القدري، على العكس تماما فالسارد – وأبطاله من ثمَّ – يتحكمون في عالمهم السردي تماما، ويتمكنون من مراقبته من علٍ (قصة رحم على مقاسي): “وسأكون الوحيد الذي يعرف تاريخكم الحقيقي، أي الذي حدث فعلا، المكائد التي تحاك في الليل، البصات المختلسة إلى الجارات، أيمانكم الباطلة لإنهاء صفقات البيع والشراء، ما تفعلونه في خلوتكم”، وربما يتخذون القرار الموجع الجميل: “البنت التي لم تتخذ قرارا في حياتها. دخلت الحمام، صبت على جسدها صفيحة جاز، وأشعلت عود ثقاب”.

في “فانيليا” يحضر الموت بوصفه مقولة كلية نمضغها على مهل عبر صفحات الرواية، بينما تحاول المجموعة تقليب الموت على وجوهه المتنوعة احتفاءً به. هذا التقليب يتم من خلال استغلال أمثل لتقنيات متعددة تنتمي جميعها لبلاغة السرد: التنوُّع في الضمائر (الغائب كما في قصة “ذباب الشتاء”، يليه من حيث النسبة ضمير المتكلم كما في قصة “مملكتي الصغيرة”، ونادرا المخاطب كما في “الماريونيت”)، والتنقل بين أزمنة الفعل الثلاث، والمراوحة بين سردية المشهد المغرمة برسم التفاصيل البصرية (هي دائما هكذا مثلا – كوب شاي بارد – غبار خفيف…) في مقابل بناء القصة على مقاطع يجمعها المونتاج (مجرد بروفة – أموت هذا المساء – أنت جميل يا يوسف…)، وأخيرا التوليد الاستعاري. التقنية الأخيرة تقنية رئيسية في كتابة من هذا النوع، وهي تقنية مهاجرة من وطن الشعر (وقد استخدمت في الرواية كذلك). ربما كان مثالها الأوضح في قصة “كره متبادل” التي تبنى على استعارتين: (النخلة—-امرأة) و (طالع النخلة—-عاشق). غير أن التقاطع مع الشعر يتجاوز الاستعارة بوصفها تقنية مفهومية، إلى الشكل الطباعي المغري بقراءة القصة بوصفها قصيدة (قصة نيفين مثالا)، يقول (هل أقول: “ينشدنا”؟!) في المقطع السابع والأخير:

هل شفتم ملاكا حقيقيا، أعني من لحم ودم مثلنا.

يعشق، ويبكي، ويرتدي السواد.هل أقصد نيفين؟

وإذا كانت الحالة المدينية تسيطر على الرواية، وبالتحديد حالة وسط البلد، حيث المقاهي وأجواء المثقفين وحضور “الكتابة” بوصفها فعلا وظيفيا، مما يؤدي إلى استخدام فصحى معاصرة ومبسطة تستعير – في أحيان قليلة – مفردات عامية.. فإن المجموعة في المقابل تتنقل بين أجواء مشابهة من ناحية، وأجواء ريفية تترابط فيما بينها بصلات رهيفة من ناحية أخرى؛ مما أدى إلى حضور فصحى معجمية بعض الشيء.

ــــــــــــــــــــــــــــ

*ناقد مصري

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم