بعد الحفلة .. رواية لـ يحيى الجمّال

بعد الحفلة .. رواية لـ يحيى الجمّال
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

صدر مؤخرًا عن دار العين رواية "بعد الحفلة" وهي  الرواية الأولى للكاتب "يحيى الجمّال"، يهدي الكاتب روايته (إلى الذين دخلوا شارع "يوسف الجندي" ذات ليلة ولم يخرجوا منه حتى الآن!) ويبدو لنا ذلك المشهد من لوحة الغلاف الذي صممته الفنانة "نجاح طاهر"  حيث صورة شارع "محمد محمود" والدمار الذي كان حاصلاً فيه في إشارة لأيام الثورة، وعلى جانب الصورة شابٌ يجلس وكأنه يتابع المشهد من على بعد! 

صدر مؤخرًا عن دار العين رواية “بعد الحفلة” وهي  الرواية الأولى للكاتب “يحيى الجمّال”، يهدي الكاتب روايته (إلى الذين دخلوا شارع “يوسف الجندي” ذات ليلة ولم يخرجوا منه حتى الآن!) ويبدو لنا ذلك المشهد من لوحة الغلاف الذي صممته الفنانة “نجاح طاهر”  حيث صورة شارع “محمد محمود” والدمار الذي كان حاصلاً فيه في إشارة لأيام الثورة، وعلى جانب الصورة شابٌ يجلس وكأنه يتابع المشهد من على بعد! 

نقرأ من الرواية:

تخللت أشعة الشمس أوراق الشجر المحيط بالميدان، وتتابعت دقات جرس الكنيسة الاثنتي عشرة، ورغم برودة الجو التي أرغمت الناس على ارتداء ملابس شتوية فإن سكان باريس كعادتهم خرجوا إلى الشوارع في هذا اليوم للاستمتاع بضوء الشمس بعد أيام من العتمة والأمطار المتواصلة.
تمشَّى عليٌّ مع روبير حتى اتخذا مجلسًا في تراس كافيه لوڨيرني القريب من المنزل والمُطل على ميدان العمودية. أطل المبنى الذي يرجع إلى عام 1876 بكل هيبة على الميدان، وتناثر العشاق في أركانه الفسيحة، متخذين من سلالم مبنى العمودية العريضة مجلسًا، وتواصل المارة في التوافد على الكافيهات المجاورة، باحثين عن أماكن شاغرة في التراسات كي يستغلوا أشعة الشمس قبل أن تنزوي مرة أخرى لأجل غير معلوم.
بدأ روبير بسؤاله وهو يحتسي أول رشفة من فنجان الإسبريسو “مراتي بتقول لي إنك جيت هنا علشان تكتب رواية“.
أيوَه قررت آخد إجازة سنة من الشغل وآجي أتفرغ للرواية اللي باكتبها“.
كان عليٌّ يدرك أنه يقول نصف الحقيقة فقط، فالإجازة قد بدأت قبل ذلك بالفعل بزمن ليس بالقليل. قبل مجيئه ولمدة عام، توقف عن العمل، مقضيًا معظم وقته في المنزل، وكان بالفعل قد عقد العزم أن يمضي وقته في الكتابة، ولكنه لم تكن لديه أي نية أن يرجع إلى مصر خلال سنة أو حتى عشر سنوات. قرر أن يقطع علاقته بماضيه في مصر ويبدأ من حيث كانت طفولته الأولى، باريس.
اعتدل روبير في جلسته بجسده الضخم مقارنة بعليّ “أخبار مصر إيه؟ إنت عارف إن أنا كنت شغال هناك، صح؟“.
إليزابيت قالت لي لمّا قابلتها إنك كنت شغال في بُنا المرحلة التانية من المترو“.
أيوَه حبيبي كنت عايش أربع سنين في المهندسين، واشتغلت على خط شبرا“.
شدد روبير على كلمة حبيبي بلهجة مصرية صميمة ثم على شبرا بالرر، وابتسم لأول مرة ابتسامة كاملة وهو ينظر إلى عليّ ثم طلب منه بكل بساطة سيجارة وأشعلها، وبدا شاردًا وهو يتأمل أعوامه في مصر من خلال الدخان ثم سأله: “أخبار مصر إيه؟ اتغيرت أوي؟“.
لم تكن لعليّ رغبة حقيقية في أن يتحدث عن مصر، فأجابه مختصرًا “ما فيش جديد.. هيّ هيّ”. وسأله “إنت وقفت في أنهي حتة؟“.
فأجابه روبير بنبرة نوستالجيا “أنا مشيت مع بداية الألفية. آخر حاجة حضرتها كانت حفلة جان ميشيل جار، ليلة رأس سنة 2000 عند الأهرامات“.
نظر إليه علي وأحس بألفة تجاه محدِّثه لأول مرة “كنت هناك أنا كمان”. وبادل روبير ابتسامة قائلا “كانت ليلة.. العرض كان قوي أوي..” وبنبرةٍ لها معنى “الرموز الماسونية بالليزر فوق الأهرامات.. المثلثات المقلوبة” وضاحكًا مرة أخرى “تهت في الصحرا وأنا راجع أنا وصاحبتي وقتها“.

ضحك روبير وهو يقول له “وأنا كمان. وبرضه كانت معايا صاحبتي وقتها.. تُهنا لحد الفجر ما طلع….” وناظرًا لعلي نظرة لها معنى “مش إليزابيت.. واحدة مصرية”. قالها ووضع أصابع يده اليمنى الخمس فوق فيه وقبّلهم إشارة إلى جمال هذه الفتاة. ضحك عليٌّ لهذه الحركة المفاجئة وقال لروبير “إنت مصري وبتضحك عليَّ.. صح؟” فبادله روبير الضحك، ثم سأله بنفس الألفة:
إنت كنت بتشتغل إيه قبل ما تيجي هنا؟“.
في العقارات“.
والسوق هناك اتأثر بأزمة 2008؟“.

مش قوي لأن شركات التنمية العقارية الكبيرة ما اعترفتش بالأزمة.. والناس فضلت تضارب ولا كأن فيه حاجة”. وأضاف “وبعدين التمويل العقاري اللي اتسبب في الأزمة في أمريكا وأوروبا مش شغال جامد في مصر لسه“.
أنا فاكر وأنا في مصر كان همة كام شركة شغالين في التنمية العقارية ما فيش غيرهم وكام مشروع مش شغالين قوي بعد أزمة 97“.
لا الموضوع اختلف دلوقت”. أجابه علي وهو يتنهد “فيه كومباوندات مالية الصحراوي والتجمع الخامس، بس المشكلة إن فيه عشوائيات برضه عمالة تزيد حوالين الكومباوندات دي وإعلانات عملاقة على طول المحور المؤدي للصحراوي عليها صور بنات وولاد شكلهم حلو وبيلعبوا جولف”. قال جملته الأخيرة واعتلت وجهه حمرة لم تفت روبير ونظر إلى علي باهتمام المتفحص الذي لا يعبأ أن يرى محدثه أنه يتفحصه. استشف من ملابس علي المهندمة وأسلوب حديثه أنه ليس مجرد شاب جاء إلى باريس على باب اللـه ليكتب.
قصدك إن ممكن يحصل انفجار؟“.
أيوه” أجابه عليٌّ ومطّ شفتيه، كما كـان غالبًا ما يفعل عندما يستاء من كلمة تتردد على مسمعه أو كلمة يقولها وهو غير راضٍ.

تفحصه روبير أكثر محللا ما يقول مستأجر شقته بعقليته الهندسية التي لا تقتنع بما يصل إلى مسْمعها من أول وهلة. كان روبير حاصلًا على الماجستير في إدارة الأعمال، وكذلك عليّ ولكن الأخير استنبط حدسه في الآخرين عن طريق ربط الشخص أمامه بشخص آخر يعرفه أو شخصية رآها في فيلم أو قرأ عنها في رواية، وليس عن طريق التحليل المباشر مثل روبير.
باغته روبير مبتسمًا بصراحة لم يتعوّد عليها علي في مصر “كلامك كلام واحد يساري، ولكن طريقتك ولبسك ما بيدُلوش على كده“.
ابتسم عليّ بدوره ولكنه حافظ على بروده بعد أن أدرك سهولة التعرف على ما يمكن أن ينتظره من محدثه رغم أسئلته المباشرة واكتفى بأن يهز رأسه موافقًا، فتراجع روبير وأحس بفطنته أن الشخص الذي أمامه لن يستسلم بسهولة، ويكشف عن الأسباب الحقيقية لوجوده، وسارع بتغيير الحديث إلى مواضيع أكثر عمومية، مستغلا مرور فتاة شقراء فارعة الطول ترتدي زيًا قصيرًا وكعبًا عاليًا كشف عن سيقان ممشوقة، فنظر إليها وتبادل نظرة حميمية مع علي “تحب تاخد كاس الكير؟ الكافيه ده متخصصين فيه. بيقدموه قبل الأكل، وإحنا على وشك نتغدى. مش كده والّا إيه؟“.
ثم مناديًا الجرسون العربي دون أن ينتظر رد علي “2 كير هنا وهات لنا منيو الأكل… ولا أقولك أحلى حاجة هنا البط بالعسل، إيه رأيك؟“.
هايل حاخد معاك كير وبط“.
انبسطت أسارير روبير لتجاوب عليِّ معه، حتى إن وجهه ذا القسمات الغليظة ظهر فيه شيء طفولي لم يره علي من قبل وهو ينادي الجرسون مرة أخرى ويقول له بحسم “ضيف نُص إزازة نبيذ أحمر… ناخد إيه؟… ميدوك؟.. خليها ميدوك“.

………………….

 يحيى الجمّال كاتب مصري مواليد 1973، القاهرة.

 حاصل على بكالوريوس دراسات الشرق الأوسط (العلوم السياسية)، الجامعة الأمريكية 1995. وماجستير في إدارة الأعمال من مدرسة ماستريخت للإدارة عام 2000.

– كتب العديد من المقالات في جريدتي الدستور، والتحرير.

مقالات من نفس القسم