“أراك في الجنة”.. بطل الرومانسية يصارع طواحين الهواء

أراك في الجنة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. عفاف عبد المعطى

تعرفت على الكاتب الروئى محمد الفخرانى منذ روايته الأشهر “فاصل للدهشة” حيث جمع بين دراساتى وعالم الرواية ذلك القدر الكبير من الانحدار الاجتماعى والطبقى والإنسانى الذى صوره الفخرانى بدقة كاشفة عن الواقعية الاجتماعية التى تمثل قاع المجتمع وفصيل كبير منه، ومنذئذ وأنا أرى فى كتابات الفخرانى خير تنقيب عن النفس الإنسانية، فالفخرانى يكتب عن الإنسان لا من منطلق إعلاء شأنه أو الحط منه، بقدر ما يقدم تنقيباً “ايركولوجى” (نسبة إلى علم طبقات الأرض) لنفس الانسان، حدث ذلك فى نصوصه ” فاصل للدهشة” “ألف جناح للعالم” و”مزاج حر”.

ويمكن أن نصف الفخرانى نفسه بما جاء على لسان الراوى فى روايته الأخيرة “أراك فى الجنة” (الدار المصرية اللبنانية – 2020) “هو أكثر من رأى مآسى البشر وأحزانهم، يعرف أسرار هذه الكائنات المسكينة” (ص29).

عبر مقطوعات قصصية قصيرة، الأرقام فيها تمثل رحلة البطل على الأعراف، فهو ليس فى الجنة ولا فى النار وهو أسير للتساؤلات عن ماهية الكون، ثم العناوين التى تمثل متن رواية “أراك فى الجنة” . أهم ما فى النص صوت الراوى العالم ببواطن الشخصيات القليلة والذى يصف شخصية الكاتب بطل النص “نقار الخشب” الملحد “أنا لا أؤمن بوجود إله، لا جنة ولا نار ص 8 . وهذا هو الإلغاز فى النص عبر وصف البطل الذى يصارع طواحين الهواء لتأكيد فكرة الإلحاد. “لماذا لا يعطينى الهك علامة على وجوده” ص 52 يستمر السارد فى وصف حالة الكاتب الملحد وهو ما يطلق عليه السرد المعلوماتى عن البطل غير المعترف بوجود إله و الذى يتزوج مدرسة العلوم الشابة بعد ربع ساعة منذ أول لقاء بينهما وسيناديها بكلمتها الأثيرة التى تحبها وتكررها فى كلامها “تخيّل” يستعملها اسماً لها ستحب هى ذلك وهى ستناديه “نقار الخشب” ص15 .

إذاً القارئ أمام شخصيتين ما يجمعهما أقل من ما يقرفهما “يتعجب الكاتب لزواجه السريع هذا، لم يتوقع أن يلزم نفسه بأى ارتباط تجاه شىء أو أحد عدا الكتابة”. وقد أسرف السرد على لسان البطل نفسه فى ذكر دواعى ومحاسن كون الانسان ملحدا عبر حوار طويل يذكرنا بحديث الدكتور مصطفى محمود  في “حوار مع صديقى الملحد” بما يتسق مع النص ” … لماذا يموت الأبرياء .. قال نقار الخشب، الإجابة الحاسمة هى ان إلهك المزعوم يحب القتل واستعراض القوة، يلتفت حوله، لماذا لم يصادف أي شىء يثير اهتمامه فى لعبة الواقع هذه” ص 23.

إن الكاتب البطل نقار الخشب الذى يحمل العدمية فى نفسه ولا يؤمن إلا بوجود الانسان ويحمل مفكرة لدواعى الكتابة كل آن تحمل عنوان “أجمل فكرة فى العالم” دلالة على الإنسان نفسه ثم تخيَّل زوجته – وهما الشخصيتان الوحيدتان الفاعلاتان فى النص والذى يجرى بينهما بحكم علاقة الزواج الحوارات المطولة – تخيل التى تحب البنج بونج ونقار الخشب الكاتب العدمى المتورط فى التساؤلات حول ماهية العالم وهو “أكثر من رأى مآسى البشر وأحزانهم، يعرف أسرار هذه الكائنات المسكينة ص 29. عبر حوار طويل يتدخل فيه الراوى العليم أكثر، تظهر الفلسفة التى تقوم عليها الحياة بين رجل عدمى وامرأة تتمتع بالذكاء الشديد يجعلها لا تحاول إصلاحه أو إقناعه أو حتى سبر أغوار نفسه والتى تحول دون تمزيقه للكتب، وكذلك مفكرة أجمل فكرة فى العالم فقط ترمم الحياة معه وتتعايش فيها ايمانا واخلاصا لفكرة وجود الحب نفسه “حبيبى الصديق وصديقى الحبيب” ص 49.

لقد أسرف الحكى فى النص فى إلصاق صفة الإلحاد على البطل وكذلك محاولاته المستمية لإثبات أن الكون بلا فاعل، يأتى ذلك مرة على لسان الراوى وأخرى على لسان نقار الخسب البطل ذاتى السرد.

“قال نقار الخشب أنتم المؤمنون تقولون بلسانكم أنكم من التراب وإلى التراب تعودون” ص 69. نقار الخشب يقول عند المكتبة “لو أن ما تقولينه صحيح وهناك إله ستكونين على الأرجح فى الجنة، جنته، وأكون أنا فى جحيمه، لن نكون معا، هل تفضلين أن تكونى مع شخص مؤمن مثلك” ص 73 . وللمزيد من المناظرات بين الزوجين  نقار الخشب وتخيل نجد أن الحوار بينهما لا يخرج عن فكرة الإيمان والإلحاد “البشر ليسوا فى حاجة إلى إله ما حاجتك أنت مثلا الى إله … أنا أحبه مهما فعل ومهما لم يفعل ص 75

يقدم محمد الفخرانى فى روايته “أراك فى الجنة” صورة للبطل المضاد الذى يتصف بكل ما يناقض صفات البطولة التقليدية فى السرد المعروف، حيث عملية ضمور البطل وقطع صلته بالمجتمع واغترابه فى أمثلة صارخة يجسدها بكلماته صراحة فى النص، إذ لا تظهر الشخصية مثلها العليا أو مشاعرها أو رغباتها منسجمة مع واقعها وتصوراته خاصة الفكرية – بما فى ذلك فكرة الالحاد التى يقوم عليها النص– منسجمة مع تصوراته العملية المتكيفة مع الواقع حيث خيبة الأمل فى الحياة تؤدى إلى المزيد من كسوف البطل وانعزاله الذى لم يعد متحكما فى مصيره مما يدرجه تحت مسمى الضحية أو المتمرد الذى لا يتفتح أمامه إلا عالمه الداخلى الذى يتألف من شزرات منفصلة متناقضة وهوية مراوغة متقلبة بلا ذات راسخة ثابتة، مما يجعله دائما فى حالة متعة وانسجام مع التدهور واليأس المؤدى بالشخصية إلى الاستمرار فى اللامبالاة وجمود الحس نتيجة لعدم اكتراثه بالاجتماعى أوالكونى.

وإن اختتم الكاتب محمد الفخرانى النص بانفتاح الجنة ومحاولة الزوجة تخيَّل لجعل البطل العدمى “نقار الخشب” مؤتلفا مع ما يراه حيث تذكر له أن “الإله يحب الكتب، كتب العديد منها بنفسه” ص 125 لكن البطل المجادل غير المُسلم بالحقائق أو مقر بها يقبل ذلك على مضض، لأن اليقين الوحيد الذى يقر داخله أن “الإنسان أجمل فكرة فى العالم” .   

مقالات من نفس القسم