بنات أحلامي.. المتخيل السردي وكوابيس الثقافة

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

في روايتها الأولي "ذاكرة التيه" والتي صدرت منذ أكثر من عشر سنوات، بدأت عزة رشاد تشريح الذاكرة من خلال التفتيش فيمخزونها الحكائي وسرده بانسيابية شديدة لتتوج الذاكرة بطلاً لروايتها الأولي، لكن يبدو أن الذاكرة أبت أن تتنازل عن دور البطولة في مشروع عزة رشاد الروائي والقصصي، حيث لا زالت ثمارها من الحكايات يانعة، وطرق سردها مثيرة للدهشة. وهو الأمر الذي يتجلي بوضوح في مجموعتها القصصية الأخيرة "بنات احلامي".

في “بنات أحلامي” مجموعة من القصص تترابط فيما بينها برابطة أقوي من رابطة التجاور النصي، وأقوي كذلك من رابطة الاشتراك في عنصر من عناصر الحكي (وحدة الشخصية أو الحدث)، إنها تشترك في أنها جميًعا مبني لمعني واحد، فكل قصة تمثيلٌ لقصة ذاكرة واحدة، وهي الذاكرة /البطل؛ حيث لا بطولة لشخصية معينة، ولا لمكان بعينه ولا لزمان محدد.

وبالتالي فنحن أمام تمثيلات متعددة بتعدد قصص المجموعة لذاكرة واحدة استحقت أن تنتزع دور البطولة من عناصر العالم الروائي لأنها ذاكرة التيه المؤرِقة، والمارقة في آن بفضل المتخيل السردي من كوابيس الثقافة؛ حيث لا شئ يقاوم ذاكرة التيه إلا المخيلة.

 فالمخيلة هي ما يمكن به فقط الموت، وهو ما يجعل راوية وبطلة القصة الأخيرة “قطوف نائية” في مجموعة بنات أحلامي أن تأبي أن تقتل مخيلتها حتي لو قادتها للجحيم!!

إن الصراع في “بنات أحلامي” هو في جوهره صراعٌ بين الذاكرة باعتبارها مخزنا لآلام صنيعة الواقع، وبين المخيلة باعتبارها العلاج الناجع لفحص الجراح وتشخيصها وتضميدها بالحكي. والملفت أن أغلب القصص في هذه المجموعة ترويها راوية مشاركة في الأحداث مستخدمة ضمير المتكلم، وإن كان الراوي رجلاً فإنه يروي عن علاقته ببنت هي مركز الحكي في قصته.

 ومن ثم فالبنت لا تروي لأنها فتاة أحلام لفتي بقدر ما هي نتاج حلم أو كابوس انطلق من الواقع وتبلور في الذاكرة/ مخزنا لآلام، ومن ثم فكل بنت هي بنت حلم كشفت المخيلة عن حقيقته/ الكابوسية، وكأن الوصول لحقيقة أفكارنا/ بنات أحلامنا لا يكون إلا عبر الإيغال في خيال كابوسي بطبيعته. إن الطبيعة الكابوسية للمخيلة في “بنات أحلامي” كشف عن حقيقة أن آلامنا منبعها أفكارنا ومسلماتنا الثقافية لأنها ليست مجرد أفكار بل أفكار نعيشها وتعيشنا، نصنعها ثم نتوارثها فتصنعنا وتشكل حياتنا!

ومن الأمثلة الدالة علي ذلك في “بنات أحلامي” استناد قصة” الياسمين الشائك” علي معتقد شائع عابر للطبقات الاجتماعية، وهو الاعتقاد في “الوحم” الذي يظهر علي جسد المولود إذا لم تتم الاستجابة لرغبة الأم، حيث نجدنا أمام أسرة مكونة من أم وفتاتين إحداهما (الفتاة/ المانجو)، والأخري (الفتاة/ السردينة)، ويترتب علي هذه الثنائية اقترانها بثنائية (الجمال الطبيعي/ التجمل)، و(السلبية الإيجابية). إن الألم النفسي الذي ورثته الفتاة الصغري التي تم تعريفها منذ الصغر من خلال استعارة (الأنا سردينة)، لا يمكن أن تمحوه كل محاولاتها للتجمل ولا حتي اكتسابها مهارات التحايل المجتمعي؛ إذ تنجح في إسعاد أسرتها وتخليصها من ألمهم الاجتماعي المشترك كأسرة، لكن يبقي ألمها الذاتي المتمثل في الإحساس بالدونية لا يمحوه أي تجمل.

وإذا كان هذا المعتقد المُسمّي بالوحم المرتبط بالميلاد يتشكل بالحكي ويشكل بالحكي أيضًا وعينا في الحياة، فإن ثمة معتقدات تؤسس بنات أحلام / أفكار تقترن بالموت والموتي واللامعقول لكنها تحكم وتتحكم فيالأحياء وتشكل بالحكي عالمهم.

ومن القصص التي تعكس هذه العلاقة التفاعلية بين الموتي والأحياء، والصراعية في آن بين الذاكرة والمخيلة قصة “عن النجوم البعيدة” وقصة “غزوة الأزرق”، وقصة “من ديوان المظالم“.

ففي قصة “عن النجوم البعيدة” ثمة راوية ترث من الأم علاقة كراهية تجاه امرأة كانت تحب أباها، وتظهر هذه الراوية وفاءها لأمها في لحظة الصراع علي دفن الأب فتصطدم بوفاء مضاد تظهر به امرأة محتمل أن تكون هي غريمة أمها- لتشابه الأسماء- لكنها محصنة بمعتقد يلزم الجميع بضرورة الوفاء لوصية الميت بتحديد مكان دفنه !! وهنا يتكشف إلي أي مدي نكون علي استعداد لوراثة علاقات كراهية تجاه آخرين لا نعرفهم بل آخرين لا ذنب لهم سوي أنهم أحبوا ما نحب!! ومن يتصارعون معنا علي الاحتفاظ بالمحبوب حتي لو كان جثة !! الصراع علي الموتي صراع أحياء يسكن الموتي عقولهم وقلوبهم. ومن ثم يبرز الموتيفي المتخيل السردي لهذه القصة باعتبارهم نجومًا بعيدًا نهتدي بها في ظلمات دروبنا وإن كانت قادرة في آن تكشف لنا ببعدها قربنا من بعضنا البعض!!

وتأتي قصة “غزوة الأزرق” أكثر قصص المجموعة جمالا لتكشف عن حوار خاص بين فن القص والثقافة الشعبية؛ حيث تستند لمعتقد شائع حين تدخل لبيوتنا ذبابة كبيرة الحجم زرقاء اللون بأن روحًا لميت قريب لنا جاءت لتزورنا فلا نطاردها، بل نرحب بها ونكلمها ونحسن معاملتها كأنه الميت ذاته!!

فيهذه القصة تتغير مهمة الذبابة كعلامة لشر قادم من الخارج يهدد الأسرة ولاتفلح الراوية في طردها بل تنجح الذبابة في التوغل في أحشاء الراوية لتصبح جزءًا لا يتجزأ من ذات الراوية، هويتها. ومن ثم نكتشف أن الموتي يلوّنون حياتنا، فمنهم الشر حيث يظهر الرجل الأزرق/ المعادل البشري للذبابة المخترقة لجسد الزوجة والذي يحاول أن يرشو الزوج، ومنهم الخير حيث للذبابة ذاتها دور فاعل الخير الذي يعطل الزوج وهو يقود سيارته حتي لا يلحق الرجل الأزرق الذي جاء ليرشوه. حياتنا تتلون بلون الموتي خيرًا وشرًا ليس لأن لهم سلطانًا علينا وإنما لأن الأسرة التي تتلون حياتها باللون الأزرق حدث لها ذلك لأنها تعاني من فتور في العلاقة بين الأحياء ( الزوج والزوجة) .

إن الموتي لايشكلون حياة الأحياء فحسب بل إن الرواة/ الأحياء يتركون الحياة ليرحلوا إلي عالم الموتي عبر مخيلة شكلت تراثًا سرديًا عالميًا كان من تجلياته رسالة الغفران لأبيالعلاء المعري والكوميديا الإلهية لدانتي، أما في قصة “من ديوان المظالم” في “بنات أحلامي” فلا تكتفي المخيلة بوصف سردي لحال الموت يبين نعيم وجحيم، بل جميع الموتي في جحيم فلا تكتفي الراوية بالوصف وإنما تحاول استعادة الحبيب من عالم الموتي لعالم الحياة لكن الموت يطارهما ويعيدانهما معًا!!

لقد انتصرت “بن اتأحلامي” للمخيلة لتقاوم ذاكرة التيه الممتلئة بالآلام، تلك الآلام التي صنعناها وصنعتنا ثقافيًا، ومن ثم جاء السرد سردًا لكوابيس ثقافية تُروي بضمير الأنا العابر للأزمنة والأمكنة بمنتهي الانسيابية، فكان سردًا انسيابيًا مثيرًا للدهشة بامتياز!!

مقالات من نفس القسم