“بحجم حبة عنب” .. التحديق فى الموت والتحديق فى الحياة

"بحجم حبة عنب" .. التحديق فى الموت والتحديق فى الحياة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ما يجعل رواية "بحجم حبة عنب" لمنى الشيمى والصادرة عن دار الحضارة عملا هاما ومؤثرا وعميقا حقا هو تلك الطريقة الناضجة التى تعاملت بها الكاتبة مع محنتها الشخصية، ومع فكرة تحويل الواقع الى فن، لم تنقل تجربتها كما هى، ولم تتجاهلها تماما، ولكنها أخذت منها فقط ما يثرى الرواية، وما يعيد تأمل الموت والحياة معا، لم تعد القضية مأساة ابن فى الخامسة عشرة من عمره أصيب بورم فى المخ فحسب، ولكنها أيضا أزمة امرأة تريد أن تتحقق فى مجتمع محافظ، ليست روايتنا عن نوع من السرطان يطلقون عليه الإستروسيتوما فحسب، ولكنها وبنفس القدر عن تلك الإستروسيتوما من العلاقات والعادات والتقاليد التى تقهر المرأة وتحاصرها وتقتل أحلامها، وهى أيضا استروسيتوما مجتمع مريض بالجهل والإزدواجية والكذب والغش والرشوة والمحسوبية، التأثير السلبى الذى يحدثه الورم على عين الابن وحركته يتوازى مع إشارات عميقة عن مجتمع اختلوتوازنه وأصابه ورم الجهل الذى يصيب بعدم القدرة على رؤية الأشياء على حقيقتها، هذه الرواية المدهشة فكرتها الأعمق فى تلك الأشياء التى نعتقد أنها صغيرة مثل حجم حبة العنب، بينما هى خطيرة وقد تصيبنا بالشلل، فى هذا الماضى البائس الذى يقودنا الى حاضر ومستقبل أكثر بؤسا، فى تلك الدائرة المغلقة التى يجب أن نتحرر منها لنصنع حياة أخرى تليق بأحلامنا، فى بحث الإنسان عن سعادة غامضة تهرب منه بلا توقف، وإذ يمتزج الخاص والعام بهذه الطريقة المبدعة، فإن منى الشيمى تحكى عنا وعن قيودنا ومحنتنا، بنفس الدرجة التى تحكى عن قيودها ومحنتها.

تتقاطع تجربة “بحجم حبة العنب” بالتأكيد مع رواية “باولا” لإيزابيل الليندى، فى الروايتين تدفع محنة مرض الابن أو الابنة الكاتبة الى اكتشاف نفسها، والى تذكر حكايتها وأحلامها المجهضة، منى الشيمى تذكر هذه الرواية بالتحديد فى نهاية سردها، تحسد إيزابيل لأنها حكت بجرأة يحرّمها المجتمع على الروائية المصرية، لكن تظل لكل تجربة خصوصيتها وتأثيرها، كان أمرا ذكيا أن يقوم بناء “بحجم حبة عنب” على الإنتقالات السريعة بين حاضر الابن المريض، وماضى الأم وأسرتها وعلاقاتهم المعقدة والملتبسة، بين ضمير المخاطب للإبن زياد فى الحاضر، وضمير الغائب عما حدث فى الماضى تتشكل الصورة بكل تفاصيلها، ننتقل مكانيا بين القاهرة حيث خطوات التشخيص وإجراء العملية والعلاج الكيماوى والإشعاعى، وحيث دراسة بطلة الرواية فى كلية الآثار،  وبين الصعيد (بالتحديد مدينة نجع حمادى) حيث تاريخ العائلة وسط تحولات اقتصادية واجتماعية من زمن الإنفتاح الى عصر الإنترنيت وأيام ثورة يناير، يتسق هذا البناء مع فكرة تأثير الماضى على الحاضر والمستقبل، إنها مثل جدائل مترابطة لايمكن أن تنفصم، وكأن معاناة الابن الجسدية امتداد لمعاناة الأم النفسية الطويلة. يمتد نجاح الرواية الفنى الى البراعة فى رسم ملامح شخوصها نفسيا واجتماعيا، بطلتنا التى تحمل أيضا اسم منى ظلت فى طفولتها مثل الصبيان المتمردين، تلعب معهم، تضربهم، تأخذ حقها بيدها، تنبهت بعد وقت الى أنوثتها، ولكنها بقيت ممتلكة لشخصية قوية ومستقلة، ورغم أن مدينة نجع حمادى أكثر انفتاحا من غيرها، إلا أنها تظل ايضا مجتمعا محافظا، ويختلف تماما عن القاهرة وجامعتها التى ستدرس فيها منى، محطتان ستغيران حياتها : قصة حب فاشلة مع معيد فى كلية الآثار ينتمى الى مدينتها الصعيدية، يتركها ليلحق ببعثته فى ألمانيا، ثم زواجها من رجل أكبر منها يدعى أحمد، ليست المشكلة فى السن فحسب، ولكن فى شخصيته الإنسحابية وغير المبالية، فى صمته وانفصاله عنها شعوريا، ربما يرتبط ذلك بقصة حبة فاشلة عاشها، هو أيضا لا يشجع موهبتها فى الكتابة، بل يتعمد أن يأكل فوق الجريدة التى نشرت أعمالها، عينه على كلام الناس،  فشل فى أن يكون زعيما ، فقررأن يكون رفيقا ومعاونا لزعيم الدائرة، نائب الحزب الوطنى الشهير عن نجع حمادى (شخصية معروفة منحتها المؤلفة اسما آخر).

نستطيع أن نصف منى بطلة الرواية بأنها شخصية مغتربة بامتياز، تعيش فى داخلها كما تقول عن نفسها، تعانى من “شيخوخة الروح”، مشكلتها فى عدم التحقق لا عاطفيا ولا مهنيا حيث ستعمل كمدرسة للإنجليزية ثم كمدرسة للتاريخ، لن يبق لها مثل أى زوجة مصرية سوى أولادها، حتى هذا الحلم سيتعرض لإضطراب مؤلم بمرض ابنها زياد الخطير، وبمشاحنات واختلافات لا تنتهى مع ابنتها ومع ابنها الثانى، الابنة تتعثر دراسيا وتحلم بأن تتخلص من النحافة لتكون ممثلة، والابن يريد السفر الدراسة علوم الفضاء فى ألمانيا، معاناة منى جعلتها مثل فأر مذعور داخل مصيدة، تبحث عن مخرج بلا جدوى، مشكلتها بدأت من الماضى ، تقول عن نفسها :” ولدتُ فاهتمتْ أمى بتغذيتى فيما تعتقد أنه التربية، حتى سلّمتنى الى المدرسة التى لم أتعرف فيها إلا على القصص المثالية، وموضوعات الإنشاء عن عيد الأم والأسرة وحب الوطن، والتاريخ الرسمى المشرّف، حرص الجميع على أن أعيش على هامش الحياة، لا خروج إلا للضرورة، ولاصداقة إلا تحت المجهر،غلّفونى بسوليفان لكى أكون بمأمن من الحياة، وبعيدا عن متناول الشبان الأشرار، الذين يرون فى الفتاة ضحية يجب أن تُفترس إن لم يكن برغبتها ففى غفلة من العيون التى تحميها، حتى انتهيت من المرحلة الجامعية، والآن أنتظر العريس الذى لن أعرفه أبدا مهما تبرع الآخرون بجمع المعلومات عنه” ، زواج تقليدى وافقت عليه منى ولم يجبرها أحد، أحبطها فشل حبها الأول لمعيد الجامعة، كل الرجل بعده كانوا متشابهين، “بإمكان الحب وحده أن يجعل الرجل مختلفا عن الآخرين” كما تقول.

مرض زياد أزمة كاشفة فتحت باب مراجعة الأم لحكايتها، بل مراجعتها لمجتمعها كله، المرض مرآة رأت فيها صورتها المضطربة، وصورة علاقات مشوهة ومزعجة، لن يصبح لجوء منى وبعض صديقاتها فى نجع حمادى الى كتابة القصة مجرد ممارسة لهواية، سيتحول الى مشروع للتحقق على الورق، محاولة لخلق واقع مواز لواقع لم تستطعن تغييره، ستهرب منى فى مرحلة أخرى الى عالم الفييسبوك والمسينجر، عشرون عاما مع زوج سيعانى ايضا من المرض، سجعله المرض أكثر هامشية فى حياتها، كأنه شبح يرافقهم فى رحلة العلاج، تبدو لنا صورة الأشعة التى أخذتها منى لحياتها ولمجتمعها أكثر خطورة من أشعة الرنين المغناطيسى التى أظهر ورما صغيرا بحجم حبة العنب يؤثر على جزع المخ لابنها زياد، يأتلف الخاص والعام على نحو متماسك، وبفضل شخصية قوية وصبر أقوى، يتم إنجاز المرحلة الأساسية لتدمير الورم دون أى ضمان بعدم عودته بعد ستة شهور، وتقرر منى السفر الى أول مهرجان للقصة يحتفى بتحققها الأدبى، نشعر أن تجربة الألم والمرض قد صنعتا منها إنسانة أخرى، اكتشفت معنى أعمق للطريقة التى نعيش بها حياتنا :” جئنا الحياة دون ضمانات، لم نأخذ عهدا بالسعادة أو الحرية أو الصحة، نحن نخلق الضمان الكافى لنحيا، نحدد ماهيته، كل شىء نسبى يا ولدى، السعادة نسبية، إذا قدر لك البقاء شهورا، فلتكن هذه الفترة سعيدة لك ولى ولكل من حولك، كيف سنخلق السعادة؟ لا أعرف، سنتوهم الشعور بها فحسب، وستأتى طوعا أو غصبا، لانملك خيارا آخر يا زياد”، “فى هذه المسرحية يجب أن نتدرب على كل الأدوار ونتقنها، لأننا سنقوم بكل دور حتما فى وقت ما، النفس البشرية مليئة بالأسرار والتناقضات”، وتقول فى نهاية الرواية :” إذا كان يجب أن نحيا فلابد أن نرسم بأنفسنا هذه الحياة، أتذكّرُ مقولة أبى “السعادة شىء غامض بداخلنا نحن .. نقرر أن نكون سعداء فنكون .. ونسعد الأخرين بما نشعر به .. فيسعدوننا”، وما قاله صديقى الشاعر :”الله الذى أعرفه رحيم”.

فى الحياة الواقعية، أخذ الموت ابن منى الشيمى، ولكنها استعادته من جديد بالكتابة، هذه الرواية فى إحدى معانيها الجميلة تحية عميقة لفعل الكتابة والبوح والسرد، فى رأى منى بطلة الرواية أن “وراء كل كاتبة قصة شرسة، حتى إذا كانت من صنع خيالها، تضعها أمام خيارين: الجنون أو الكتابة، كلاهما وجهان لحالة واحدة، هى التعاسة”، الكتابة عند البطلة فعل حياة، لولاها لحاولت ربما الإنتحار مرة أخرى، كانت المحاولة الأولى عندما تركها حبيبها معيد الجامعة، ورغم أن منى بطلة الحكاية تحذرنا من التحديق فى شيئين هما: الشمس والموت، فإن رواية ” بحجم حبة عنب” تقوم  حرفيا بالتحديق بجرأة وقوة فى الموت، تواجهه بالحروف والكلمات، تعيد بعث الابن على ورق بروحه المرحة، بحبه للحياة، بأغنياته التى يعشقها ، بمناداته لأمه باسمها، بعشقه للفراولة والحكايات، تهزم الكتابة الموت لأنها فعل ودليل حياة وإصرار على الوجود، تحدق الرواية أيضا فى حياتنا المقلوبة التى أثرت على عقل المجتمع واتزانه، تفضح قسوتنا النفسية تجاه بعضنا البعض، تكشف عيوبنا ونقاط ضعف منى والآخرين، تسخر من إزدواجية تكيّفنا معها حتى صارت قاعدة ومثلاً، تدين الزيف والتزوير والرشوة والغش والبلطجة والتعصب الدينى، تستغرب من تحولات أخوتها وأقاربها ، تكره لامبالاة أمها وبعض الرجال، ترفض فكرة أن الشيطان يكمن فى التفاصيل لأن الشيطان يكمن فينا نحن، تثور بطلتنا بالنيابة عن نفسها وبالنيابة عنا، تكشف للتلاميذ أكذوبة التاريخ المكتوب، لا ترسم الرواية صورة مثالية للبطلة، على العكس، هى امرأة رائعة لأنها تواجه ضعفها بعد أن تكشفه أمامنا وتعترف به، قوتها فى أنها لاتريد إلا أن تتحقق، أن تكتشف نفسها.

الآن فقط نستطيع أن نتحدث عن مولد روائية صعيدية ناضجة، ومن الطراز الرفيع اسمها منى الشيمى.

مقالات من نفس القسم