بانجو

ashraf al sabbagh
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أشرف الصباغ

انتهت المشادة الصباحية بين أمه وأخته بالتصالح، ولكن مشاجرة بعد الظهر بين الأم والزوجة لم تنته على خير. انقسم البيت إلى قسمين: أمه وأخواته الثلاث في جبهة، وزوجته وأولاده الثلاثة في جبهة مضادة. ظل يروح ويجيء بين الجبهتين حتى مجيء الأب من عمله آخر النهار. انحاز الأب، كعادته، إلى جانب زوجته وبناته، فضحك الابن ضحكة غريبة مستسلمة وانضم إلى زوجته وأولاده. وعندما هدأت الأمور نسبيا، اختلى بنفسه ولف سيجارتين ثم انطلق إلى بيت صديقه مرزوق سرور.

استقبله مرزوق بابتسامته العذبة الهادئة، وبعينيه الحمراوين العكرتين على الدوام. تنهد بعمق وأسى، هز رأسه مؤكدا بما لا يدع مجالا للشك على قدرته الرائعة، التي يعرفها صديقه الجالس في يأس، على إيجاد كل الحلول لكل المشاكل باعتباره خريج تجارة قديم وموظف بوزارة الاقتصاد بعد أن ألغوا وزارة التخطيط منذ زمن. كان مرزوق على علم تام بأزمة صديقه المالية التي تسببت في مشاكل كثيرة، وأهمها أنها صرفته عن الحشيش وجعلته في الأيام الأخيرة يتعامل مع علف المواشي. كان يعرف مشاكله مع الراتب، والمشاحنات الأسرية اليومية بين زوجته وأمه وأخواته العوانس. وكان قد توصل منذ زمن بعيد إلى أن المشكلة في الأساس اقتصادية سياسية أخلاقية اجتماعية مرتبطة بالواقع العام من ناحية، وبالأزمة المالية الكونية من ناحية أخرى، الأمر الذي دفعه مرارا وتكرارا إلى الإلحاح على صديقه بالأخذ بنصيحته لحل جميع هذه المشاكل وعزلها ولو جزئيا عن الأزمة المحلية والعالمية، بل وفصلها عن الأزمة الحضارية والعولمة وكافة “الخربطات” الأخرى مثل نادي باريس وديون مصر وتصدير الغاز الطبيعي إلى ليبيا عن طريق اليابان.

ابتلع مرزوق الدخان، وكتم نَفَسَه خابطا على صدره برفق وارتياح، بينما تكوَّم الآخر على نفسه مستغرقا في ضحكة طويلة مرتخية بدون صوت.
قال مرزوق، نافخا خيط دخان رفيع، في إلحاح وجدية:
– اسمع كلامي.. اشترِ جحشا صغيرا..
خرج صوته من بين الضحكات والدخان هادئا مندهشا:
– في الشقة، يا عدو الله؟!
– طبعا- قال مرزوق في جدية وأضاف:
– ولازم يكون في الشقة، وفي وسط هؤلاء الغجر أولاد الكلب.
– والفلوس؟- سأله صديقه بصوت حائر مرتخ.
– استلف أو بع ذهب مراتك- قال مرزوق غامزا ثم أشعل السيجارة الأخيرة.

بعد فترة، سأله مرزوق عن الأحوال. فأجابه بأنها زفت والحمد لله، وبأن الملعونة قلبت على رأسه الدنيا، ووصل بها الأمر إلى طلب الطلاق. فناوله مرزوق سيجارة وسأله عن باقي الفلوس، ثم نصحه بشراء بقرة، وراح يعدد له فوائدها لجيش من المسعورين من أمثال أفراد أسرته اللعينة. وبعد يومين سأله بحكمة ووقار وهو يطفئ السيجارة الأخيرة عن الأحوال، فرد بضيق: قطران.. الله يخرب بيتك، يا مرزوق. فراح يلح عليه بشراء خروف أو نعجة، وأخذ يشرح له كيفية الاستفادة من هذا الحيوان متعدد الفوائد في الأيام الضنك. وبعد أيام سأله عن الوضع، فصرخ بصوت مسطول: أسود.. الملعونة ابنة الكلب سابت البيت وطفشت. وأضاف بأنه على استعداد للتضحية بنصف عمره في سبيل معرفة العلاقة بين انهيار الاتحاد السوفيتي وشراء الجحش والخروف والبقرة ووجود مشاكل في البوسنة والهرسك، بل وعلى استعداد للتضحية بالنصف الثاني من أجل معرفة العلاقة بين نادي باريس وشراء ديون مصر. انصهرت ملامح مرزوق في ضحكة طويلة خافتة تخللها سعال شديد وقهقهات عالية حتى انهمرت الدموع من عينيه، ثم وضع طرف إصبعه على جبهته قائلا:
– مجمل هذه العلاقات واضح حتى للأعمى- أخذ نفسا عميقا، وناوله السيجارة ثم أضاف:
– كل شيء مرتبط ببعضه، وخصوصا حكاية نادي باريس هذه، لأن شراء ديون مصر من النادي سيوفر لنا الاستقلال في القرار، وامتلاك القدرة على حل المشاكل الاقتصادية في مواجهة الغزو الاقتصادي الإسرائيلي، وإذا تعذرت الأمور فيمكننا تصدير هذه الديون لإسرائيل واستيراد مفاعل ديمونة للأغراض السلمية وتجفيف الخضروات التي من شأنها سد جوع مئة وعشرين مليون بطن- تناول السيجارة وأخذ نفسا عميقا- فأمريكا تحاول الآن……. وانطلقت ضحكة عالية من صديقه الجالس القرفصاء، الذي ما لبث أن انقلب على ظهره وأخذ يتمرغ على الأرض وصوت ضحكاته يشتت الدخان المخيم عليهما. فقال مرزوق مبتسما:
– أجمل شيء دلوقت هي الجوزة- وطوَّح ببقايا السيجارة من يده.
تعالت كركرات متقطعة يلفلفها دخان كثيف. قال مرزوق بدون مقدمات:
– اشترِ حمارا- واستغرق بجدية واضحة في تفسير أزمة المواصلات وعلاقة ذلك بأزمة صديقه الخاصة والمصاريف الزائدة، ثم انتقل مباشرة إلى أسباب أزمة التعليم في أفريقيا…

مرت عدة أيام. حضر إلى مرزوق بوجه أحمر وعينين محتقنتين، وعروق رقبته تكاد تنفجر.
بادره دون تحية بصوت عاتب مترهل:
– ملعون أبو اليوم اللي شفتك فيه..
ضحك مرزوق مقدما إليه سيجارة ضخمة، وراح يشعل الفحم في الموقد، ثم سأله عن سبب غيبته الطويلة، فأجاب:
– الأولاد راحوا لأمهم، وأبويا طلب لي المخبرين.
– يعني كنت في قسم البوليس؟- تساءل وكأن الأمر لا يعنيه، وراح يشد نفسا قويا لإشعال النار فوق الحجر الأول. طقطق الفحم المتوهج على صوت الكركرات المتواصل. ناوله مرزوق الجوزة قائلا:
– بع كل شيء وبسرعة..
– مش فاهم!! تساءل الصديق مندهشا.
– بعدين هتفهم.. وهتعرف أجوبة الأسئلة الصعبة- قال مرزوق مشيرا بسبابته إلى رأسه.

في مساء اليوم التالي، أقبل صاحبنا في غاية السرور والانشراح على مرزوق الذي بادره مستفسرا عن الأوضاع. أخرج قطعة حشيش كبيرة، وقال متنهدا:
– الحمد لله.. هم وانزاح، يا راجل.. مساء العنب.
……………
*(من مجموعة “العطش”)

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

النملة

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

الكلب

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

الطيور