الوصية

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 49
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حسني حسن

ما بين الترقب والخوف والرجاء والثقة، راحوا يتحلقون حول الجسد، المُسَجى فوق الفراش البسيط الخشن، يراقبون كل خلجة تصدر عنه، ويتابعون كل قطرة عرق ثخينة تنسل من جبهته العريضة الملتهبة بالحمى. كانت مواكب الوافدين، من الأهل والعشيرة والصحابة والطامعين، وحتى الفضوليين الذين لا تربطهم به أية علاقة شخصية، ولا تصلهم وإياه صلة من نسب أو دم، تترى إلى حجرة نومه، المتقشفة العارية من أية مظاهر للزينة، وكل يرجو إلقاء نظرة، ربما تكون الأخيرة، على الحاج مصطفى الذي اختار أن تكون رقدته، خلال أيام المحنة تلك، ببيت زوجته الشابة، ابنة شريكه الأول وصديق عمره الحاج صديق، تلك التي محضها من الحب والعطف والحنان ما لم يسبغه على غيرها، ممن تزوجهن خلال سني عمره العشر الأخريات، ومن ضمنهن ابنة شريكه الكبير الثاني الحاج فاروق. كان، وبما عرف عنه من لباقة ورقة وولع بالعدالة، قد استأذن من هاته الزوجات في السماح له بالرقاد بفراشه ببيت السيدة حياة، معترفًا بأسى وتسليم بأن للقلوب تقلباتها وشؤونها التي لا سلطان لحس العدل والنزاهة عليها، حتى ولو كان الأمر يتعلق بقلب ذلك الكبير الجليل الحاج مصطفى. وهكذا، رقد الشيخ، لأيام ثلاثة بلياليها، مُنقلاً دماغه المعصوبة، وجبهته المبللة بكمادات الماء البارد، ما بين الوسادة، التي تشربت عرقه الغزير، وحجر زوجته الصبية، التي أخذت تمسد شعر رأسه، وتمسح العرق عنه، بيدٍ نحيلة بيضاء، مشبعة بالرفق، ومضطربة بالخوف، ومبهورة بجلال اللحظة. وفي زاوية الغرفة البعيدة، هناك عند الباب المفتوح على الفناء الصغير، انزوت ابنته الأثيرة زهرة، تلك التي تشبه كثيراً أمها الراحلة، أولى زوجات الحاج والباقية وحدها من بين أبنائه وبناته، تجفف دمعها في صمت مهيب، وتعالج أحزان يتمها، القديم والمنَتظر، بجلد وشجاعة تجدران بالرجال وبأمهات الشهداء.

للحظات بدت مفعمة بالأمل في اجتياز المحنة، أفاق المريض من بحران غيبوبته قليلاً، جال ببصره بين الحضور، ووزع نظراته على المتحلقين من حول الفراش، وكأنه يفتش بين الوجوه على وجهٍ بعينه. طاف ظل ابتسامة راضية فوق شفتيه حين صافحت نظراته صورة ربيبه، وزوج ابنته زهرة، ذا الفقار. بسرعة مدهشة، وبحس غيرة أنثوية طاغية، ولأسباب عديدة أخرى، التقطت زوجته الشابة هذه التحية، الخاصة الصامتة، التي أزجاها زوجها المحتضر لزوج ابنته الذي ما شعرت تجاهه، يوماً، بالود، فأشاحت بوجهها إلى الجهة الأخرى، معربة عن احتجاجها الصامت، وساعية إلى التشاغل بصب كأس ماء بارد من الإبريق،  لتقديمها للزوج، ولترطيب شفتيه المكتنزتين المتشققتين. بلل الشيخ شفتيه بقطرات قليلة، ثم زفر منادياً طفلته التي لم تتعثر عيناه بهيئتها بعد:

– زهرة.

هرولت المرأة تلبي نداء أبيها، مغالبة دمعها، الذي خضل عينيها الجميلتين، مخافة أن يراها المحتضر باكيةً. اقتربت من فراشه بخفة فراشة، فما وجدت السيدة الغيور حياة من اختيار آخر أمامها إلا أن تُخلي مكانها على سريرها لابنة زوجها. رفع الحاج يده، الهزيلة المرتعشة، بصعوبة بالغة، ليأخذ رأس ابنته الحزينة إلى صدره، وليهمس لها بما لم يسمعه غيرها، فتروح في نوبة شديدة من النحيب والنشيج، فيربت الأب، بحنوٍ عظيم، على رأس الابنة، ثم يهمس لها مجدداً، فتنقلب إلى حالٍ من البشر والراحة والسرور. يُطلق الأب سراح ابنته، ويسأل عن ولديها جمال وجميل، فيقرب أبوهما ذو الفقار الصبيين من جدهما، الذي يربت فوق رأسيهما بكفه، ويبش لهما، ويجد بداخله ما يكفي من قوة كي يعلن للحضور:

– هما مني، ومن أحبهما فقد أحبني.

في هذه اللحظة بالذات، ولج عبر باب الحجرة المفتوح، داخلاً على المريض، الحاج صديق، بقامته الوسط، وملامحه التي تشي بالجزع والإشفاق، وبخطوه الخفيف المتردد، يتبعه، بقامته المديدة، وجسمه السبط القوي، وبقدمين تبدوان ثقيلتين على الأرض وثابتتين، الحاج فاروق. كان المريض قد فوض، طوال فترة مرضه، شريكه الأول الحاج صديق في إدارة شؤون المؤسسة التي أفنوا عمرهم جميعاً في تأسيسها وخلقها من عدم، وتحملوا في سبيل ذلك ما لا يطيق بشر، ونجحوا في جعلها المؤسسة الوحيدة في طول البلاد وعرضها، حتى باتوا يستشرفون اليوم آفاق توسيعها وتمددها خارج الحدود، وهو الأمر الذي لم يجد فيه الحاج فاروق أية غضاضة، عارفاً أن الحاج صديق، بطبعه اللين السمح، وربما بالنقص المعروف عنه في الخبرات العملية والدنيوية، سوف يستوزره، من دون شك، ما يتيح لفاروق الفرصة لتنفيذ أفكاره، وخططه المستقبلية الطموح، بشأن هذه المؤسسة التي لم يعرف البلدا مثيلاً لها من قبل.

فجأة، وعلى نحو أدهش الحضور، سمع المجتمعون صوت الحاج مصطفى، نفس الصوت الذي طالما ائتمروا بأمره وانتهوا عن نواهيه، الصوت الذي صدقوه وأحبوه لدرجة الافتتان، الصوت الذي أخذهم من آبائهم وعائلاتهم وجدهم ولهوهم ولعبهم وحربهم إليه وحده، الصوت الذي كان يتنزل عليهم بكلماته وكأنها من صوت السماء، هذا الصوت الذي يبلغ آذانهم الآن يلوح منهكاً متردداً وراجياً:

– ذو الفقار، استدع المحامي فلدي ما أوصي به عنده.

همَ ذو الفقار يلبي طلب حميه، لكن المفاجأة الكبرى أتت من الحاج فاروق، هذه المرة، لمَا تجاسر بالقول:

– وما حاجتنا إلى وصية جديدة بعد أن أودعت وصيتك لدينا جميعاً؟

سأل بصوت واضحٍ، وبنبرةٍ تحمل من الغضب والاستنكار أكثر مما تحمل من الاستفهام، قبل أن يردف بتهور وحزم:

– ارتفعت الأقلام، وجفت الصحف.

 نزل الصمت على رقاب الحضور كسيفٍ حادٍ رهيف النصل، وما غامر أحدٌ باعتراض نُذر الغضب التي راحت تغضن وجه الحاج فاروق، وتُطيِر الغضب في نظراته. التفتوا جميعهم باتجاه الحاج مصطفى الذي بدا عليه، هو أيضاً، الزهد في الرد، أو ربما العجز عنه. ببطْء بالغٍ، شرع المريض الآن في محاولة الاستدارة بجسده، ليستقبل الحائط، الأصم الأجرد، بنظرة زجاجية جامدة، مولياً كل من عرفهم وجمعهم وقادهم ظهره.

وحدها ابنة أبيها زهرة من انتفضت منتحبة مولولة، عارفة أن أباها ما عاد بعدٍ هنا. كانت تخبط على صدرها، وتصرخ:

– يغدرون الوصية وأنت، بعد، معنا يا أبي، فماذا سيفعلون بكل وصاياك من بعدك؟

أمَا ذو الفقار فقد جمد في مكانه، كتمثالٍ من شمع مصبوب، ولم يعرف ما إذا كان يتوجب عليه اتباع زوجته محتجاً، هو أيضاً، أمْ البقاء بحضرة الجثمان الهامد ليقوم بواجبه،المقدس الأخير، نحوه.

آثر البقاء، والنهوض بالواجب، منشغلاً بمحاولة تخيل ما جال بخاطر حميه المحتضر، خلال تلك اللحظات العجيبة الفاصلة، ما بين سماعه كلمات الحاج فاروق المحتجة على تحقيق مشيئته النهائية، وبين سفر الروح على طريق النسيان واللا عودة.

مدَ بصره باتجاه السنوات، والقرون، الصعبة التي تنتظرهم جميعهم، عارفاً أن زمان الأحلام دائماً قصير، أقصر مما يطيق العمر، أقصر من احتمال الرجال على مخاصمة طباعهم وأطماعهم، أو أقصر من دورة قمرٍ مبهرةٍ في ليل صحراوي حالك السواد.

 راح يصب الماء على الجسد الشمعي، المُسجى بلا حراك، فيما هرع الشيخان خارجين لمجابهة أولى مهام الزمان القادم الحرجة.

نعم، كانت الأصوات، بالخارج، قد بدأت بالتعالي، متراوحة ما بين النحيب والتحسب والاستعداد والتحفز. وكان لزاماً عليهما التحرك، بسرعة وحسم، لإسكات أي صوت ناشز يحاول إعادة قراءة الوصايا بحرف مخالف لما أقراه، هما بالذات، من حرفٍ وأبجدية!

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب