النيل يجرى شعرا (أحمد شوقي) ـ الحلقة الثالثة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 38
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. مصطفى الضبع

أَلقَت إِلَيكَ بِنَفسِــها وَنَفيسِها           وَأَتَتكَ شَيِّقَةً حَـــــــــــواها شَيِّقُ

خَلَعَت عَلَيكَ حَياءَها وَحَياتَها          أَأَعَــــــزُّ مِن هَذَينِ شَيءٌ يُنفَقُ

وَإِذا تَناهى الحُبُّ وَاِتَّفَقَ الفِدى        فَالروحُ في بابِ الضَحِيَّةِ أَليَقُ

بهذه اللوحة الشيقة يختتم شوقى مشهد عروس النيل، المشهد الأكثر حيوية فى مطولته ” أيها النيل “، والمشهد الذى يمتد على مساحة تسعة عشر بيتا يقيم سياقا متفردا خاصا به على الرغم من أن القصيدة كلها ينتظمها ضمير مخاطب واحد، ينتجه الشاعر إلى النيل جامعا بين التبتل والتقديس والتعظيم للنيل رافعا من شأنه ملكا يفوق ملكه ملك فرعون نفسه، لك أن ترى المشهد نموذجا مثاليا للتضحية، تضحية العاشق، ولك أن تراه مساحة حرة من التعبير عن المرأة حين تحب، أو عن الإنسان حين يتوارى اهتمامه بروحه لصالح المبدأ والثبات عليه، ولك أن تقرأ المشهد عبر البيت الأخير المبدوء بالظرف (إذا ) فى ترسيخه للاحتمالات المتعددة شريطة أن تربط احتمالية الظرف ببقية العناصر اللغوية فى البيت (دلالة وزن الفعل تناهى، وعلاقته بالفعل اتفق وتمهيدهما لإنتاج الدلالة فى الشطر الثانى بوصفه جواب الشرط مما يجعل البيت بكامل طاقته الدلالية نتيجة مبررة للأفعال الصادرة عن عروس النيل: ألقت – أتتك – خلعت، حيث تتحول طاقة الأفعال عبر تضامها بفعل الحب منتجة خبر الجملة الإسمية الذى ينتهى به المشهد على الرغم من بدايته بأفعال تامة لتحقق الفعل ).

لغويا وردت مفردة النيل فى صيغة التعريف ثمان وخمسين مرة، وفى صيغة التنكير وردت مرتين: مرة فى حالة الرفع، ومرة فى حالة النصب والمفردة مضافة إلى ضمير الغائب “نيلها” تكررت مرتين، ولكن هذه المساحة مجرد علامة أولية لا تعبر عن مساحة الحضور بقدر ما تعبر عن نقطة تمثل قاعدة الانطلاق لاكتشاف مساحة حضور النيل فى شعر شوقى، ففى قصيدة ” أيها النيل ” على سبيل المثال يؤسس الشاعر القصيدة على العنوان ولا تجد حضورا للمفردة إلا فى البيت الثانى والأربعين بعد المائة، حيث يجدد النداء:

يا نيلُ أَنتَ بطيبُ ما نَعَتَ الهُدى       وَبِمَدحَةِ التَوراةِ أَحرى أَخلَقُ

النيل كما يراه شوقى ليس مجرد صورة يصوغها شاعر فتأتى مزيجا من مشاهداته الطبيعة وتذوقه تفاصيلها، وإنما هو الحياة المصرية فى تدفقها عبر التاريخ، على خلفية من شخصية ذات ملامح معرفية وثقافية وإنسانية تعد تضفيرا لكل ماهو تجسيد لهذه الشخصية المصرية التى أحسن شوقى تصويرها وإبرازها على أحسن ما يكون الشعر وعلى أجمل ما تكون الصورة.

جمعت الصورة الشعرية عند شوقى بين جمال النيل واللحظة التاريخية المصرية، وبين الإنسان والوطن فى ضفيرة لها قدرتها على أن تشى بصورة متفردة للنيل، الذى يتجلى بداية فى صورة يكون فيها واحدا من اثنتين:

  • النيل مقصود لذاته: حيث الصورة تطرح متخيلا شعريا يجعل من النيل مرجعية جمالية تحقق وجودا تاريخيا، وهى صورة تتأسس على قصيدته المنظومة للنشء:

النيلُ العَذبُ هُوَ الكَوثَر       وَالجَنَّةُ شاطِئُهُ الأَخضَر

رَيّانُ الصَفحَةِ وَالمَنظَر       ما أَبهى الخُلدَ وَما أَنضَر([1] )

وقد حرص فيها الشاعر على أن تأتى متناسبة مع النشء لغة وتصويرا وحجما ( عشرة أبيات) وأن تقدم صورة تأسيسية لأبناء الوطن عن النيل تؤهلهم لمعرفة أوسع وأكثر عمقا عن النيل بعيدا عن المقولات الإنشائية عن شريان الحياة وصانع الجمال فى جغرافيا الطبيعة المصرية، والصورة هنا تؤهل لتلقى هؤلاء الأبناء لقصيدته المطولة ” أيها النيل ” حيث يتدرج الوعى بتدرج الخطاب من الكتابة عن النيل إلى الكتابة للنيل فى خطاب موجه لشخصية اعتبارية تحقق لها جانبها الإنسانى ( عبر الاستعارة ) بعد أن حققت طبيعتها الكنائية ( عبر التشبيهات والكنايات التى تطرحتها القصيدة الأولى  )، وفى الوقت الذى عمدت فيه القصيدة الأولى إلى تشكيل صورة ساكنة على المستوى الزمنى، مشهدية تتزيا بالحاضر حيث الوصف يمنحها قدرا من البث المباشر والآنى الذى يجعل المتلقى الصغير يستحضر صورة راهنة يغلب عليها الطابع الاستاتيكى، فى المقابل يعمد الشاعر فى القصيدة الثانية إلى تشكيل صورة ديناميكية للنيل معددا فضائله عبر الزمن، ذلك العنصر الذى يقيم عليه الشاعر شخصية النيل فكل فضيلة للنيل هى فضيلة مستمرة مع الزمن، وكل حضور للتفاصيل هو نوع من تصنيف هذه الفضائل تحقيقا للشخصية وتأكيدا لها، والقصيدة فى طولها (153 بيتا ) تتمثل ذلك كله، وكان النيل بمثابة الخلفية المعرفية والفكرية للقصيدة أولا ثم موضوعا للقصيدة ثانيا، والشاعر منذ مطلع القصيدة يطرح ثلاثة عناصر أساسية فى تمثل الصورة ( الزمان – المكان – الحدث ) ويأتى سؤال المطلع مشتبكا مع الثقافة الشعبية ذات البعد الأسطورى التى ترى النيل ينبع من الجنة:

مِن أَيِّ عَهدٍ في القُرى تَتَدَفَّقُ       وَبِأَيِّ كَفٍّ في المَدائِنِ تُغدِقُ

وَمِنَ السَماءِ نَزَلتَ أَم فُجِّرتَ مِن       عَليا الجِنانِ جَداوِلاً تَتَرَقرَقُ ( [2] )

  • النيل مقصود لغيره: ويكون النيل مطروحا على وعى المتلقى عبر صورة لا ينفرد فيها النيل بإنتاج الدلالة وإن أسهم فى تشكيل الصورة عبر كونه هناك فى الخلفية وإنما يتجاوزها إلى إثبات وظائف ذات طبيعة فلسفية وتاريخية ومعرفية عن الوطن، وفى مقدمة هذا الجانب تأتى قصيدته ” كبار الحوادث فى وادى النيل (264 بيتا ) وكان النيل بمثابة الخلفية التاريخية والجغرافية للأحداث دون أن يكون موضوعا لها ومطلعها:

هَمَّتِ الفُلكُ وَاِحتَواها الماءُ       وَحَداها بِمَن تُقِلُّ الرَجاءُ ( [3] )

وخلافا لقصيدة “أيها النيل ” ولأن القصيدة ليس موضوعها النيل ففى كبار الحوادث لا يكتفى الشاعر بالعنوان وإنما يكرر مفردة النيل أربع مرات أولاها فى البيت الخامس بعد المائة:

طِلبَةٌ لِلعِبادِ كانَت لِإِسكَنـ       دَرَ في نَيلِها اليَدُ البَيضاءُ  ([4])

وثانيها وثالثها فى البيتين التاسع والعشرين والثلاثين بعد المائتين:

جادَ لِلمُسلِمينَ بِالنيلِ وَالنيـ          لُ لِمَن يَقتَنيهِ أَفريقاءُ

فَهيَ تَعلو شَأناً إِذا حُرِّرَ النيـ       لُ وَفي رِقِّهِ لَها إِزراءُ

ورابعها فى البيت الخامس والخمسين بعد المائتين:

يَشتَهي النيلَ أَن يُشيدَ عَلَيهِ       دَولَةً عَرضُها الثَرى وَالسَماءُ

والقصيدة تقوم على تقنية الموج المستمدة من النيل فى تدفقه وانتظام حركته عبر المكان حيث يرصد الشاعر تموجات التاريخ وأحداثه وشخوصه راصدا القدر الأكبر من مساحة تاريخية يلعب النيل فيها دور المايسترو الضابط لمعزوفات التاريخ ومنظومة قيمه ورموز الحضارة الإنسانية ومساحات الصراع بين الحضارات على مر التاريخ.  

 منظومة القيم النيلية

وفق مجالين يتمثل عطاء النيل: الظاهر والخفى، يتمثل الأول فيما يعطى النيل من عطايا محسوسة تتجلى فى جوانب الخير المادى، ويتمثل الثانى فى ذلك الجانب المعنى من منظومة القيمة التى رسخها النيل فى الثقافة المصرية وهى تجعل من الجانب الظاهر نوعا من التطبيق للنظرية فى جانبها المعنوى، فالكرم والوفاء والجمال والخير كلها معان تتبلور فى فعل النيل وما يقدمه لأبناء الوطن ولم يكن شوقى بعيدا عن كل هذه المعانى وإنما احتفى بها بوصفها منظومة القيم النيلية وفى مقدمتها وفاء النيل الذى يعد لدى الوعى الجماعى المصرى فى مقدمة عطايا النيل، وقد عبر عنه الشاعر بعدد من الصور، منها:

  • شيمَةُ النيلِ أَن يَفي وَعَجيبٌ أَحرَجوهُ فَضَيَّعَ العَهدَ نَقضا
  • مُتَقَيِّدٌ بِعُهودِهِ وَوُعودِهِ يَجري عَلى سَنَنِ الوَفاءِ وَيَصدُقُ ( [5] )

وقد منح الشاعر جانبا كبيرا من قصيدته لرصد الأسطورة المصرية ذات الأصل الفرعونى، أسطورة وفاء النيل حيث كان  المصريون يلقون فى احتفالهم السنوى بواحدة من أجمل فتيات العصر:

وَنَجيبَةٍ بَينَ الطُفولَةِ وَالصِبا       عَذراءَ تَشرَبُها القُلوبُ وَتَعلَقُ

كانَ الزَفافُ إِلَيكَ غايَةَ حَظِّها       وَالحَظُّ إِن بَلَغَ النِهايَةَ موبِقُ ( [6] )

والمشهد لا يستمد أسطوريته من الاحتفال فى ذاته بقدر ما يستمد أسطوريته من النيل العظيم لا لأنه يسعى لذلك وإنما لأنه يمنح أبناءه ما يجعلهم يردون الوفاء بوفاء ويجتهدون فى تقديم أعز ما يملكون ليس اضطرارا وإنما بكامل الرضا والقناعة، والقصيدة نفسها ينظمها شوقى بدافع من لمسة وفاء للمستشرق الشهير ” مرجليوث ” ( [7])، لقد زاوج الشاعر بين مجموعة من القيم الإنسانية التى كانت بمثابة اللوحة مكتملة الألوان مذكرا بها وحافظا لها ومترجما لجمالياتها، وناطق باسمها بوصفها مجموعة من الأعمدة الأساسية لبناء الحضارة الإنسانية.

…..

هوامش وإحالات

[1] –  أحمد شوقى: الشوقيات – مج 2، جـ2 – دار العودة – بيروت 1988، ص 195.

[2] – الشوقيات – مج 1 جـ 2، ص 64.

[3] – الشوقيات – مج 1 – جـ1، ص 17.

[4] – السابق ص 24.

[5] – السابق ص 66.

[6] – السابق ص 69.

[7] – ويشير شوقى نفسه إلى ظروف نظمها بقوله مخاطبا المستشرق مرجليوث  :” نظمتها تغنيا بمحاسن الماضى،وتقييدا لمآثر الأباء، وقضاء لحق النيل الأسعد الأمجد، ونسبتها إليك عرفانا لفضلك على لغة العرب، وما أنفقت من شباب وكهولة فى إحياء علومها، ونشر آدابها، وإلقائها كلما  طلعت خلف الضباب دروسا نافعة على أنبل شباب العصر ”  انظر الشوقيات – مج 1 جـ 2، ص 63.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
ترقينات نقدية
د. مصطفى الضبع

تناغم (23)

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
ترقينات نقدية
د. مصطفى الضبع

تناغم (22)