النباتية .. وآكلي الأرواح!

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إيناس التركي

في رواية "النباتية" التي حصلت عنها كاتبتها هان كانج، بالاشتراك مع المترجمة البريطانية ديبورا سميث التي ترجمت الرواية من اللغة الكورية  للغة الانجليزية، على جائزة مان بوكرالعالمية لهذا العام 2016 يجد القارئ ما هو أكثر من مجرد قصة بسيطة لزوجة قررت التوقف عن أكل اللحم فوجدت رفضًا ومقاومة لقرارها من كل المحيطين بها.

 

 

 

.

بادئ ذي بدء، تجدر الإشارة إلى أن الكاتبة “كانج” نفسها نباتية وإلى أنها ذكرت في حوار لها أنها، تماما كبطلة روايتها، قد واجهت رفض من حولها لقرارها حتى أن طبيبها قد أعرب عن قلقه بخصوص صحتها وحاول إقناعها هو الآخر بتناول بعض اللحوم، وكيف أن ردود أفعال المحيطين بها كانت مضحكة بعض الشئ. لكن أجواء روايتها التي تذكر أنها قد تأثرت بتجربتها الشخصية في المجتمع الكوري المحافظ قد جاءت أبعد ما تكون عن الإضحاك. لا يمكن للقارئ إلا أن يشعر بتأثير “كافكا” على “كانج” وعلى أجواء روايتها. ومن الملفت أن كافكا نفسه كان نباتيا هو الآخر.  تذكرنا يونج هيه بطلة كانج، بجريجور سامسا، بطل كافكا في روايته “المسخ”. الأولى تقرر الامتناع عن تناول اللحوم وتحاول أن تتحول إلى شجرة كنوع من المقاومة لواقع القبح و العنف والتحرر من السيطرة، والأخير يستيقظ  ذات صباح ليجد نفسه قد تحول إلى صرصار ضخم لا حول له ولا قوة تحت ضغوط واقعه القبيح. في بطلة كانج نجد مقاومة للواقع، على عكس بطل كافكا الذي انهار أمامه واستسلم له. كما تستدعي بطلة كانج أيضا للذاكرة إحدى قصص كافكا القصيرة،  “فنان الجوع”، التي يصوم بطلها ويظل ممتنعا عن الطعام تماما حتى الموت.

تعود بذور فكرة رواية كانج  إلى قصة قصيرة لها ترجع لعام 1998 كانت تدور حول امرأة تتحول لنبات ويقوم زوجها برعايتها بفيض من المحبة. وقد استوحت فكرة القصة من قصيدة للشاعر الكوري “يي سانج” قال فيها “أعتقد أن البشر يجب أن يتحولوا إلى نباتات.” لكن رغم وجود الفكرة، كتبت كانج روايتين أخريين قبل أن تكتب روايتها الثالثة، “النباتية”، التي صدرت عام 2007.

 قضت كانج ثلاثة أعوام في كتابة الرواية، وقد كتبتها في بادئ الأمر على شكل ثلاث روايات قصيرة متصلة. تنقسم “النباتية” إلى ثلاثة أجزاء، كل جزء منها مروي من وجهة نظر شخصية مختلفة. الجزء الأول نراه من خلال عيني الزوج الذي يعترف أنه اختار البطلة “يونج هيه” لا لشيء إلا لأنها تفتقد أي مميزات ولن تطالبه هو بأي شيء في المقابل. لذا يصاب الزوج بالصدمة عندما يجد زوجته تقف أمام البراد في المطبخ وتقوم بالقاء معظم الطعام في القمامة معلنة أنها قد صارت نباتية لن تتناول اللحم بعد ذلك. وكان المبرر الوحيد الذي ذكرته لسلوكها الجديد هو أنها شاهدت حلما ما في منامها. أصيب الزوج بالصدمة أمام تصرف زوجته الذي راي فيه نوع من الثورة والتحدي، وتعجب أمام اكتشافه لذلك الجانب الخفي من شخصيتها الذي رآه على أنه أنانية، كونها اتخذت موقفا تفكر فيه في نفسها فقط وليس فيه هو، وشعر أنه لم يعد يعرفها. عندما شعر أن موقفها ذاك بات يشكل تهديدا له ولمصالحه في العمل اصطحبها لزيارة أسرتها حيث أصيب باقي أفراد الأسرة بالصدمة من سلوكها ورآه والدها كنوع من التحدي لسلطته فحاول اجبارها على تناول اللحم وعندما فشل ضربها بعنف مما جعلها تقدم على الانتحار بقطع شرايين يدها أمام كافة أفراد الأسرة.

الجزء الثاني من الرواية نراه من منظور زوج شقيقة  يونج هيه الذي يصبح منشغلا حد الهوس بوحمة زرقاء على جسد البطلة، ولدت بها ولها شكل نباتي. زوج الأخت “الفنان” الذي يرسم ويصوّر الأفلام القصيرة،  يحلم بتنفيذ مشروع فني يقوم فيه برسم زخارف نباتية ملونة على جسدي رجل وامرأة وتصوير الجسدين وهما ملتحمان سويا يمارسان الحب على خلفية من الصمت التام. يدعوه هوسه بوحمة “يونج هيه” إلى الاقتناع بأنها هي وحدها من يصلح لتنفيذ مشروعه الفني ذاك فيقنعها بالعمل كموديل لديه ويرسم الزهور الملونة على جسدها. تعجب هي بتلك الزهور فلا تغتسل وتتركها على جسدها ولديها قناعة أن ذلك يقربها أكثر من عالم النباتات الذي تسعى للتوحد معه. عندما يستدعي زوج أختها زميله في العمل للاشتراك في مشروعه الفني والعمل كموديل مع يونج هيه، يغطي جسده بالرسوم النباتية مما يجعل يونج هيه تنجذب له بالرغم من نفورها من العلاقات الجسدية. وعندما يرفض الزميل الاستمرار في المشروع يحل زوج الأخت محله بعد أن تصارحه يونج هيه أن سبب انجذابها لم يكن للشخص، بل للرسوم النباتية فيرسم زوج شقيقتها جسده هو الآخر ويقيم معها علاقة تضبطه بعدها زوجته متلبسا مع شقيقتها.

الجزء الثالث من الرواية يحكى من منظور شقيقة يونج هيه التي تتولى رعايتها بعد أن انفصلت كلا منهما عن زوجها ولم يبق سوى الشقيقتين فقط وقد أدخلت يونج هيه المستشفى بعد تطور حالتها لرفض الطعام تماما. ورغم أن شقيقتها حاولت حمايتها من عنف الوالد الموجه تجاههما في طفولتهما كما حاولت حمايتها عندما قام والدهما بضربها واجبارها على تناول اللحم، إلا أنها عندما أدخلتها المستشفى وفشلت في محاولات اطعامها، وافقت الأطباء على محاولاتهم اطعامها ضد رغبتها وما استتبعه ذلك من عنف جسدي وتقييد وخراطيم تخترق أنفها وحلقها قاومتها هي وعانت من النزيف.

ومن الملفت أن الأجزاء الثلاثة استأثر بها كلا من الزوج والشقيقة وزوجها، بينما البطلة يونج هيه ذاتها لا يظهر منظورها إلا خلال مقتطفات مقتضبة متناثرة عبر الرواية  كتبت بخط مائل لتمييزها وتظهر وكأنها مونولوج داخلي. في البداية لا تقدم يونج هيه تفسيرا لتغير سلوكها سوى أنها رأت حلما ما، لكن مع تطور الأحداث تفسر لنا مونولوجاتها الداخلية تلك ارتباط أحلامها المتزايد بالعنف والدم والقتل. ترى مشاهد كابوسية مرعبة ولا تستطيع منها فكاكا فتعتقد أن الحل يكمن في الامتناع عن تناول اللحم والاكتفاء بكونها نباتية فقط.  لكن بمرور الوقت، يتطور الأمر لرفضها كافة مظاهر الحياة البشرية العادية فتنفر من العلاقات الجسدية مع زوجها، ولا تمارس الجنس سوى مع زوج شقيقتها بسبب انجذابها للرسوم النباتية التي غطى بها جسده وليس له هو شخصيا. تفقد الكثير من وزنها وتصاب بأرق مزمن فتنام بالكاد، ثم تمتنع تماما عن تناول الطعام معتقدة أنه باستطاعتها التمثيل الضوئي والتحول لشجرة. رغم هزالها وضعفها الجسدي الشديد لا تظهر قوتها إلا وهي تقضي الساعات واقفة على يديها وقدميها لأعلى، معتقدة أن أصابعها ستتوغل في الأرض كالجذور وأن رحمها ستينع منه الزهور، وأيضا وهي تقاوم بوحشية رافضة تناول الطعام عبر الخراطيم التي يمدها الأطباء خلال جسدها الواهن. بلغة كانج الشعرية التي تختزل الكلمات للحد الأدنى، تحدثنا يونج هيه: “أستطيع أن أثق بثديي فقط الآن. أحب ثديي: لا يمكنهما قتل شيء. اليد، القدم، اللسان، النظرة، كلها أسلحة ولا شيء بمأمن منها.” تعاقب جسدها على جرائمه التي اقترفها في حق الحياة بحرمانه من تلك الحياة في شكلها البشري: “لقد أكلت الكثير من اللحم. حيوات كل الحيوانات التي أكلتها سكنت هناك. الدم واللحم، كل تلك الأجساد الذبيحة مبعثرة في كل زاوية وركن. رغم أن بقاياها المادية قد تم اخراجها، إلا أن حيواتها لا تزال تلتصق داخلي بعناد.” تبدأ يونج هيه برفض تناول اللحم، وتنتهي برفض الإنسانية ذاتها. في النهاية تعلن لشقيقتها الجالسة بجوارها في المستشفى ” لم أعد حيوانا بعد الآن.” خلال الرواية، نجد أن لغة كانج نفسها والتقنية التي استخدمتها في الكتابة تساهم في ترسيخ فكرتها. بدأت كانج مشوارها الأدبي شاعرة قبل أن تبدأ كتابة القصص والروايات ويتضح هذا في لغتها الشعرية التي بها تناقض ظاهر مع محتوى العنف والأجواء الكابوسية للرواية. تختزل الكلمات للحد الأدنى من التعبير فتعري اللغة من أي زوائد كما تتعرى عظام يونج هيه الناحلة ويتعرى المجتمع بأسره.  كم أن تقسيم الرواية لثلاثة أجزاء منفصلة  تعزز من فكرة الوحدة والعزلة والتباعد بين شخوصها وتشتت منظور يونج هيه بين الأجزاء الثلاثة يعزز من تشتتها كمفعول به يسعى للمقاومة والفعل بين اولئك الآخرين

رفض “يونج هيه” لتناول اللحم لم يكن يمثل فقط رفض للعنف والدم الذي ملأ أحلامها كما ملأ الواقع من حولها، بل كان أيضا يمثل رفضها للسلطة الأبوية المتحكمة في تصرفاتها وفي جسدها ممثلة في سلطة المجتمع الأوسع بقيمه المحافظة الذي يستنكر أي شذوذ فردي عن قواعده المألوفة، حتى لو كانت شيئا شخصيا كنوعية الطعام، ومجتمع الأسرة الصغير بداية من الزوج الذي لا يرى فيها سوى جسد يخدمه ويلبي رغباته إلى الأب الذي يرى رفضها الانصياع لأوامره تحديا لسلطاته ولا يواجه رفضها سوى بالعنف، وزوج شقيقتها الذي حصرها في دور الجسد الذي يحقق له هوسه الفني وخيالاته الجنسية  نهاية بشقيقتها ووالدتها اللتين رفضتا الانصات لرغباتها وبدافع مما رأوه حبا انضمتا للسلطة الأبوية في قمعها.  عدم احترام الجميع لرغبات يونج هيه وحريتها في التصرف في جسدها على النحو الذي ترغبه يجعل فكرة حرية المرأة في المجتمع الذكوري/الأبوي فكرة محورية في الرواية ويصبح جسد يونج هيه نفسه ساحة للمعركة والعنف.  نجد أن الطبيعة البشرية وارتباطها بالعنف كانت من الأفكار المسيطرة على كانج التي صرحت في حوار لها مع صحيفة النيويورك تايمز أنها تتساءل: “هل يمكن حقا للبشر أن يعيشوا حياة بريئة تماما وسط هذا العالم المليء بالرعب، وماذا يمكن أن يحدث إذا حاولوا تحقيق ذلك؟” كما صرحت لذات الصحيفة أن روايتها “النباتية” قد تأثرت إلى حد ما بأحداث انتفاضة جوانج جو سنة 1980 عندما هاجمت القوات الحكومية المظاهرات المحتجة المؤيدة للديموقراطية فتحول الأمر لدموية عنيفة. كانت كانج في التاسعة من العمر آنذاك إلا أن الأحداث انحفرت في وعيها وشكلت لديها فكرة عن قدرة الإنسان  على الثبات والوقوف أمام العنف. لذا في النهاية تتحدى يونج هيه كل أعراف ذلك المجتمع وتتحلل من قيودهم ومحاذيرهم الجنسية والأسرية فتقدم لنا طريقة للصمود بتفرد وترفض أكل اللحم في مجتمع يأكل اللحم والأرواح أيضا ويطالب الجميع بالامتثال حد التطابق.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كاتبة مصريّة

 

الرواية تصدر قريبًا في ترجمة إلى العربية عن دار التنوير

مقالات من نفس القسم