ساري موسى
تَجَاورَ في الصَّفِّ الأوَّلِ من مقاعد القاعة ما بدا لا أقلَّ من بروفيسور؛ ببذلته ذات القِطع الثلاث ولحيته الصَغيرة المُدبَّبة، يمسح بمنديلٍ حريريٍّ نظّارتين دائريتين، وسيّدٍ لا يقلُّ أناقةً وإن قَلَّ وسامةً، بشاربَين مُتدلّيين بخيبةٍ، يبدو في غاية الضّيق وهو يرنو إلى يساره متمتماً ورافعاً حاجبيه الكثيفين، حيث انطوى راهبٌ على نفسه في جُبَّةٍ سوداءَ شائبة، يُدوِّر في يده مسبحةَ صوفٍ غائباً في صَلاته.
خلفهم تزاحمتْ مجموعاتٌ متنوّعةٌ من البشر، يمكن تمييزُ نماذجَ خاصّةٍ بينها؛ ثمّة من يَصدر عنه أصواتٌ حيوانيّة، وهناك من يسيل اللعاب من زاوية فمه فيما يحدّق إلى السّقف ببلاهة، وفي الأعلى واحدٌ يهتزُّ في موضعه أماماً وخلفاً كأنّه يمتطي صهوة جوادٍ جامح، لم يقطع به مسافةً طويلةً إذ سرعان ما ترجّل عنه بادئاً الهدوء، الذي تدحرج من عنده ليلُفَّ الجميعَ مثل ظِلٍّ.
أخفى الرَّاهبُ مسبحته في ثنايا جُبّته البالية. تنحنحَ السَّيِّدُ ذو الشّاربَين وعدّل جلسته مرفرفاً بحاجبيهِ في اتجاهٍ آخرَ. ركّز البروفيسور نظّارتيه اللّامعتين فوق أنفه وأطفأ سيجاره.
اعتلى المنبر رجلٌ نحيلٌ وسقيمٌ على نحوٍ لا تُخطئه العين. وقبل أن يبتدئ كلامه، فيما يتشاغل بأوراقه، مرَّ بيده على شَعره المفروقِ إلى جانبٍ، وجمع بها أطراف لحيته الخفيفة المسترسلة فوق صدره.
على لوحةٍ أمامه يمكن قراءة هذا:
فيودور ميخائيلوفيتش دوستويفسكي.
وتحتها:
للكُلِّ كُلَّ شيءٍ.