المهرج المفتعَل
راما غيث
اجمع من مقاطع الموسيقى ما يرفق بحالي، وأخزن في عقلي تلك الأفعال المجنونة التي يتركها الآخرين على منضدة اللقاء، كسيجارة مطفأة في بقايا قهوة مسكوبة بعفوية الارتباك. أجلس وأعيد رسم الأداءات المختلّة على الورق، أنحت الشخوص التي تتراقص وتتمايل يمينا ويسارا و للأمام وللخلف، أحاول أن افتح ساحة الرقص لهم، كلما زادت الساحة اتساعا، حاولت الشخصيات الهرب برماديتها الباهتة ، عندما ألملم الدائرة، تركع التماثيل الناقصة أمام سن قلمي.
فجأة أجدني على خشبة مسرح مرصوصة الديكور لمدينة عتيقة، تأملت مبانيها راقية الطراز سريعا، القاعة صامتة مظلمة فظننتها خالية من الجمهور، سقطت الإضاءة تدريجيا على شاعر يرتدي ملابس مزينة بريش طاووس ملون، الشاعر منحني في منتصف الساحة، بعد ما نصب ظهره رأيت وجه بلياتشو يخفي عينيه خلف نظارة شمسية رخيصة، ودون استئذان من يوسف شاهين الواقف خلف الكواليس بدأ في افتتاح غنائه وكأنه مطرب أوبرا يصرخ في وجه الحضور، لم يكترث بوجود حسن كامي الجالس في الصف الأول، ولم ينظر بتقدير تجاه دنقل الذي يشاهده في البنوار، فيشير نجيب سرور له بإصبعه الأوسط من الصف الأخير ويقطع غناء هذا الصعلوك بشخرة ثم ينسحب منفعلا من بين المشاهدين وهو يصرخ:
- "فاكر نفسه ملك الشحاتين العرص".
لملم الممثل الركيك ريشه المهترئ متاجهلا مصدر الشخرة منشذّا بأنه الفنان الأعظم، يشد لوحة يوحنا المعمدان وهو يعمّد المسيح تهبط فتغطي الرسمة خلفية المسرح، يركع أمامها يعاتب (يوحنا):
- "لماذا لم تنظر لي بعين الرحمة فأنا الرسول المرتقب عودته"
تشمئز ملامح (سيلفادور دالي) وهو جالسا في بلكون يرسم لوحة جديدة فيها السيدة العذراء أمامها أراجوز راكع متوسلا إليها، وهي مشيحة بوجهها الغاضب، الاثنان واقفان على قطعة من الخشب العائمة، لونهما مموه خلفية اللوحة سماء لونها كالرمال وبحر هائج الأمواج، وأسماك قرش تقفز من بين الأمواج في محاولة لنهش جسد المهرج.
اخرج من ساحة المسرح، انضم للواقفين في الكواليس فلا يلحظني أحد، أسمع سُباب شاهين وانفعالاته، بجانبه هنومة التي تهدئ منه وتعاتبه:
- " ما أنت ال جبت لنا الصعلوك ده يا أستاذ وفي أول عرض مسرحي ليك تقدمه لجمهورك"
يقطع هذا الضجيج إلقاء الرجل بجسده على الأرض دون أية مبررات درامية، وبصوت هذيل يدندن:
- "أنا من كتبت ما لم يكتبه درويش، أنا سأعود بسينما أروع من سينما شاهين، أنا لا أعرف النوم، وبصوت خافت يقول أنا ملاك لم ارتكب الخطايا".
ومرة أخرى ينط واقفا وبنظرة شحاذ كأنه واقف على أحدى محطات الأتوبيس يقول:
- "فأنا لا أعرف مذاق للخمر ومازلت ببكارتي ولم ادخن الحشيش من قبل"
تتحول حركاته ونبرة صوته وكأنه شمشون الجبار قائلا:
- "سأهد تلك البيوت الصغيرة أمامي بقبضة يد حديدية".
تضجر هنومة من نشاذ الكومبارس فتسكب دهانات باردة الألوان وباهتة على وجهه، يساعدها الشاويش عطية وسمعة الأقرع في تقييده، يقتحم المسرح نيرون ومعه زجاجة تِـــنَر يسكبها على ريشه الملون ويشعل آخر عود كبريت معه ويلقي به عليه ويقهقه وسط هلع الجميع واستغاثة المخبول.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاصة مصرية