المكان والجسد

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

(قراءة في نص من ديوان: حتى أتخلى عن فكرة البيوت لـ إيمان مرسال(

أحمد شاكر

سنقرأ نص مرسال، المعنون بـ)تصبح على خيردفعة واحدة، ثم نجزئهبطريقة تتناسب معقراءتناله:

من سريرك في قارة أخرى تقول: "تصبحين على خير" أنت تنام في الثامنة صباحا، هذا ما يجب أن يفعلهروائي صبور بعد ليلة من اختراع الأحداث، بعد يومطويل أمد يد امرأة عاملة لأوقع باسمي على قائمةالمشتروات، هل أنت من كان يمكن أن يقول "نعيشاللحظة نفسها في توقيتين مختلفين"؟

أقول بنفس الحنان "تصبحين على خير" للهندية الواقفةمنذ الصباح خلف صندوق النقود، فتبتسم بطراوة كأنهالم تكن غاضبة من ثوان على زبائن اللحظة الأخيرة.

لصوتك الذي رن في السوبر ماركت لحظة إغلاقه ألتفتحيث ألمح الموز ينام في تل صغير ويتثائب العنب فيعناقيدهالندى على التفاح وعش الغراب يشع دفئه من نقطة ذاتية في الداخلبينما الباب ينفتح أوتوماتيكيا لجسدي الذي للمفاجأة يشغلحيزا من الفراغ..

ـــــــــــــــــــــــ

تصبح على خير: يبدو عنوانا ودودا. جملة بسيطة نقولها لحبيب أو قريب أو صاحب، أو حتى أي شخص عاديتصادف لقاءه، عند انتهاء اليوم، أو قرب الدخول إلى النوم. تقال على سبيل تمني الخير للآخر.

من سريرك في قارة أخرى تقول: "تصبحين على خير":تحديد للمكان. لكنه تحديد مثير للتفكير، سرير فيقارة،وحدة جد صغيرة، مع أخرى عملاقة: سرير، وقارة. ولا تحديد لموضع أو أمارة أخرى تدلنا على جغرافيةالمكانالذي يعيش فيه، بوضوح. سرير موضوع في قارة، غير تلك التي تسكنها البطلة. قارة قبالة قارة. سرير قبالة سرير آخر. هو وهي. بينهما حيزمكاني، وزماني، وكأننا في الوجود كله، لا نشغل حيزا، أكبر من حيز سرير، ولا نحتاج لموضع أكبر منه..

من سريره النائي البعيد، يتمني لها أمنيةالمساء: "تصبحينعلى خير".

أنت تنام في الثامنة صباحا، هذا ما يجب أن يفعله روائي صبور بعد ليلة من اختراع الأحداث:ولأنه يمتهن عملا شاقا: اختراع الأحداث، فإن وقت نومه، (الثامنة صباحًا) ، هووقت مماثل تقريبا، لوقتسكوت شهر زاد، عن حكايتها، كانت تفرغ منهامع طلوع النهار. وهوالمطابق لوقتحلولالمساءوانتهاء اليوم، عندها،في قارتها البعيدة، إنهما معا، يعيشان اللحظة ذاتها بتوقيتين مختلفين..

بعد يوم طويل أمد يد امرأة عاملة لأوقع باسمي على قائمة المشتروات:هو ينمي حكاياته بالليل، وهيتمضيحياتها (في العمل)،بالنهار. هيتوقععلىقائمةمشترواتهاكأنها توقع علىانقضاءاليوم. وهو، وإن كان يزاول عملا آخر؛ مهنة اختراع الأحداث، كروائي صبور، فإنه، حتما سيمهر ما كتب بتوقيعه: (كل رواية، حكاية، لا بد لها منأن تحمل اسممؤلفما). هي في قارتها توقع مساء على يومها، لتقول: عشتها. وهو يوقع صباحا، علىأحداثاخترعها ليلا، ليقول: كتبتها..

تحضر اليد للتوقيع/ وكإشارة على ممارسة العمل: بعد يوم طويل أمد يد امرأة عاملة لأوقع. اليد، تفضح مهنة صاحبها. يد العامل غير يد الكاتب. يد المرأة غير يد الرجل. يدها تقوم بعملين: ممارسة عملها اليومي، والتوقيع عليه. ويد صاحبنا، أيضا، تقوم بعملين: تكتبطوال الليل ما اخترع من احداث، وتوقع عليه. ما تجنيه هي من يوم عملها: مشترواتتوقع على قائمتها. ما يجنيه هو من ليلة شغل واختراع: حكاياتيوقع على غلافها.

هل أنت من كان يمكن أن يقول "نعيش اللحظة نفسها في توقيتين مختلفين"؟تداع للذاكرة. تذكر. تداخل للأحداث: لحظة التوقيع، بالقول: هل أنت من كان يمكن أن يقول "نعيش اللحظة نفسها في توقيتين مختلفين"؟وكأن الذاكرة تؤازر فعل اليد. أو، لنقل، إن ذاكرتها تأبى إلا أن تشارك ذاكرته اللحظة هي الأخرى، فهو كروائي لن يُعمل يده إلا بمعونة من الذاكرة، وهي لما جاء وقت توقيعها حضرت على الفوركأنها تقول: أنا أيضا هنا..

أقول بنفس الحنان "تصبحين على خير" للهندية الواقفة منذ الصباح خلف صندوق النقود، فتبتسم بطراوة كأنها لم تكن غاضبة من ثوان على زبائن اللحظة الأخيرة. هي هنا تقوم بدور وسيط لنقل الجملة: تصبحين على خير. ومما سهل عليها القيامبهذا الدور، انفعالهاالحاضر: أقول بنفس الحنان. بنفس طزاجة الذاكرة، وحضورها: إنها تريد أن تشركالهنديةمعها في اللحظة. إنها تطمح لإقامة مؤتمر للحنان العالمييحضره هوفيسريره، وفي نفس التوقيت الذي تجتمع فيهبالهندية، بترديدتلك الجملة الوحيدة: تصبحين على خير. وعلى الفور تجني ابتسامة منهاكمكافأة. تقول: كأنها لم تكن غاضبة قبل ثوان على زبائن ضايقوها.

من غضب لتبسم، تحول أحدثه الروائي الصبور دون أن يشعر، وهو في قارتهالبعيدة: إنه دوره على كل حال. دور الفن الذي يخترعه: احداث تأثير ما من خلال الكلماتوالحكايات. ها هو قدحقق نجاحا لحظيا وهو ذاهب إلىنومه، بتصبحين على خير، أقول: ما ذا لو قرأتروايته، وماذالو قراتها الهندية الواقفة خلف صندوق النقود المتبسمة من جملته العابرة.. لا بد أن النتيجة ستكون شيئا آخر، أكثر جمالا من ابتسامة بعض غضب.

لصوتك الذي رن في السوبر ماركت لحظة إغلاقه ألتفت حيث ألمح الموز ينام في تل صغير،ويتثائب العنب في عناقيدهالندىعلى التفاح وعش الغراب يشع دفئه من نقطة ذاتية في الداخل بينما الباب ينفتح أوتوماتيكيا لجسدي الذي للمفاجأة يشغل حيزا من الفراغ:دفقة واحدة. فاصلة واحدة فقط، بعد الموز النائم. تركيبمهوللللأشياء: (صوته)، في فضاء(السوبر ماركت)، ( لحظة إغلاقه)، (تلفتت)على الصوت، لم تره طبعا، (لمحت الموز ينام، والعنب يتثائب،والندى على التفاح، وعش الغراب يشع دفئه)، بينما(البابينفتح أوتوماتيكيا)لـ(جسدها)الذي(يشغل حيزا منفراغ)آخرفجأة.

عندما نسمع صوتا لغائب، لابد بعده منأن نلتفت، مكذبين الواقع كله. وكأننا نريد أن يصبح الحلم حقا. ولأنه غيرموجودأقصد هو: (مصدر الصوت)، فالعين تلمح، ما في نطاقها من موجودات: موز وعنبوتفاح وعش غراب، تلك التي تشير بطريقتها إلى انتهاء يومها أيضا: (الموز) نائم، (العنب) متثائب، يهم بالنوم، (التفاح): يحمل نداه، كأن، نهاره ليل وليله نهار، مثل صاحبنا الساهر في قارته على اختراع الأحداث. أو ربما كان يعمد إلى عيش لحظته بتوقيت مختلف مع تفاح آخر، بقارة اخرى. كل هذاحصل وهي في طريقها إلى البابتحمل مشترواتها بيد امرأة عاملةدون توقف، فدخلت في نطاق البابالحساس، فانفتح.. هناتتبدىلعبة المكان والحيز. كانت في مكان تعيش لحظة مشتركة، مؤتمر حنان عالمي عابر للقارات، وفجأة انتهى كلشيء لتشغل حيزا جديدا: الباب ينفتح أوتوماتيكيا لجسدي الذي للمفاجأة يشغل حيزا من الفراغ.

وجود الجسد داخل حيز السوبر ماركت أثث لحلماليقظةالجميل الذيعاشتهوهيتنهي يومها، ولمؤتمر الحنان العالميالذي أدارتهبنجاحتوج بابتسامةالهنديةلكنانفتاح الباب ومغادرةالجسد للمكان، بدد الحلم، في لحظة، ليكتمل النصالذي نقرأه الآن. هي لم تكن  ترغب في المغادرة، والابتعاد عن رنة صوته، وعن وجوده، ومصاحبته لها، مشاركا إيها اللحظة، لذلك شعرت بالمفاجأة: بينما الباب ينفتح أوتوماتيكيا لجسدي الذي للمفاجأة يشغل حيزا من الفراغ. وهنايمكننا أن نستنتجعلاقتان داخل النص:

- الجسدبالكتابة: فالكتابةتشغل حيزا من فضاء/ بياض الصفحة، وتأخذ توزيعا وشكلا معينايناسبها. وجسد صاحبتنا أخذ (خارج السوبر ماركت) حيزا جديدااكتشفته فجأةبانفتاح الباب، هو في الحقيقةحيز كتابة.

- الزمانبالمكان: فبالاشتراك في فعل واحد في نفس الوقت، بجملة واحدة،اختصر المكان وكان حاضرامعهاوسمعت رنة صوته، ولما انتقل الجسد من حيز لحيز آخر، تشتت اللحظة/ الزمن. تلكلعبة لا تنتهي..

لم ننتهي بعد. هناك نقطة تخص فعل الكتابةفي الزمن،استدرجتنالقراءة ثانية: كم كلف هذا النص كاتبتة من الوقت، لتكتبه، بفرض أنه خرج، دفقة واحدة بلا إعادة صياغة أو إضافة أو حذف؟سأفترض أنه كلفها ثلاث دقائق فقط، مدة ملاحقة الكلمات، وإثباتها فوق فضاء الورقة. وكم كلف هذا المشهد بطلتنا من الوقت؟ أقل بكثير: مجرد تذكرها قوله: تصبحين على خير، وتوقيعها على مشترواتها، وترديدهاعلى سمع الهندية، ثم التفاتها على صوته، ونظرها للفاكهة، حيث لم يمهلها الباب فانفتح؛هذا كله يحدث في ثوان معدودة، قليلة جدا.. فما يجري داخل الذهن في ثوان، يحتاج لوقت أطول بكثيرلكتابته/ حكايته. وهذا أيضا يماثل ما يحدث في الحلم، فأحيانا ننام في مكان انتظارمالثوان، ونحلم حلما أطولقديكلفناوقتاأكبر من اللازمفي حكايته.

وهذا ما جعلنيأتخيل، صاحبتنا بعد يوم عمل طويل، وهي في طريقها عائدة، نامت.. نامت في باص، نامتفي طريقها وهي تمشي، نامتواقفةفي مكانها وهي تنتظر المصعد.. فوجدت نفسها في السوبر ماركت، وسمعت تصبحين على خير، ووقعت علىمشترواتها، وفكرت في أن صاحبها مخترع الأحداث في سريرهالآن، ربما كان هو القائل: نعيش اللحظة نفسها في توقيتين مختلفين، ورددت للهندية: تصبحين على خير، فتبسمت، وسمعت رنت صوته فتلفتت حيث لم تجدسوى الفاكهةوعيش الغراب، وانفتح الباب لما اقتربت من مجاله، وهنا، توقف الحلم، بانفتاح الباب.

تلك النهاية التي أنهت النص/ المشهد،هينهاية حلم. فكثيرا ما يحدث،ونستفيق من أحلامنا على صوتغائب بعيدسمعناه،ثم لمانتلفت لرؤيةمصدره، نتنبه أننا كنا نحلم، ونتيقظ. وها هيصاحبتناقد تيقظت، لمالم تجد مصدر الصوت الذي كان يرن، ووجدت نفسها في مواجهة فراغ آخر، غير فراغ الحلم؛حيزاجديداغير الذي كانت تشغله: (داخل السوبر ماركت فضاء ما/ خارج السوبر ماركت فضاء آخر. داخل الحلم شيء/ خارج الحلم شيء آخر)، وانفتاحالباب هو الحد الفاصل في الأولى، وانفتاح العين، أو التيقظ،هو الحد الفاصل في الثانية..

في النص السابق على هذا النص، يعرض لحظة انفتاح العين في الصباح(تنفتح العين مثل ستارة مسرح)،والنهوض إلى المطبخ حيث القهوة السوداء: جائزة العودةسالمامن النوم.وفي النص الذي يلي نصنا الذي استطردنا حوله، المعنون بـ (ادخلوها بسلام)، يحضر الجسد مرة ثانية، ويحضر الباب، فعندما تصل بطلتنا إلى المطار قادمة من قارتها البعيدة، سيتحتم عليها أن تعبر بابا وأختاما، ليكتمل الوصول: ادخلوها بسلام آمنين. وفي النص الذي يليه، ينفضح الأمر من العنوان: (أنت أمام الباب وأنا خلفه)، وماذا بعد؟ سينفتح الباب ليبدأ اللقاء على الحقيقة، تقول: وتعبر العتبة، وفي نفس النص تستعير حكاية النبي موسى مع فرعون لحظة المطاردة وعبور البحر، حيث عبور الجسد من مكان لآخر، من فضاء لفضاء آخر. وسقوط آخر/فرعون،في البحر، لأنه لم يتمكن من اجتياز العتبة، فأدركه الغرق ومن معه..

لكي يصل جسد لجسد، لابد من اجتياز عتبة، أو باب. ولكي نصل إلى مغزى نص ما/ كتابة، يجب علينا اجتيازعتبة: عنوان،تمهيد أواقتباس.

هل كنا بحاجة لهذا الاستطراد؟ لا أعرف، لكنه استدراج النص لنا/ استدراججسد، دعاناللعبورإليه..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 كاتب مصري 






مقالات من نفس القسم