عن سلسلة “عالم المعرفة” الشهيرة صدر للمفكر والروائي المصري دكتور عمار علي حسن، كتابه الجديد “المجاز السياسي”، في ثلاثمائة وستة وستين صفحة من القطع المتوسط، ويحوي ستة فصول إلى جانب مسرد يحوي أهم المجازات السياسية المتداولة عربيا ودوليا.
يحاول الكتاب، وهو الأول من نوعه في حقل العلوم السياسية عربيا، لفت انتباه دارسي السياسة وباحثيها، والعاملين فيها، والمنشغلين بها، والعائشين لها، إلى أهمية المجاز في فحص حقل السياسة تفكيرا وتنظيرا وتعبيرا وتدبيرا.
ويدور الفصل الأول عن علاقة السياسة بالكلام عموما، والثاني عن تعرف المجاز السياسي، ثم يأتي الثالث ليتناول الاستعارة السياسية، أما الرابع فيتعلق بالمبالغة، والخامس عن مجاز الصورة، وأخيرا يتطرق السادس إلى قضية الصمت السياسي.
وما ورد في الكتاب لا يقف عند علم البلاغة وشجونه، إنما يخص الاجتماع السياسي وشؤونه، واقفا على الجسر العريض الواصل بين هذين الحقلين المعرفيين، يريد أن يبلغ منتهاه، كي يكشف عن مسار ومساق مسكوت عنه، أو نادر تناوله بين الدارسين العرب، الذين يتعامل أغلبهم مع السياسة على أنها أقرب إلى “السلعة” منها إلى “الخطاب”، تاركين الأخير لعلماء اللغة ونقاد الأدب، وإن بحثوا فيه فإنهم يحصون ما في تصريحات الساسة وبياناتهم وخطبهم من مفردات لتوزيعها على معارف وقيم واتجاهات وقضايا سياسية، لكنهم لا ينشغلون كثيرا بما فيها من مجازات.
يبدأ الكتاب بتحليل ما بين الكلام والسياسة من دروب، ثم عرَّج على اللغة كسلطة وقوة ناعمة، ليعرض بعدها معنى المجاز السياسي مارا بتعريفه في العموم، وعلاقته بالحقيقة، ليصل إلى تحليل الاستعارات التي يعوم عليها الخطاب السياسي، ضاربا أمثلة، باستعارات الحرب، والنظر إلى الإنسان كآلة، وتأليه الدولة، وتجسيد المجتمع، والتعامل مع كرة القدم كراية قومية، وتصور العلاقات الدولية رقعة شطرنج، والمجتمع الرأسمالي “مول”، والإشتراكي ساحةـ للقطط السمان، والريبة في التمويل الدولي لأنه “غزو”.
ويتناول الكتاب أيضا مسألة المبالغة السياسية مفرقا بينها وبين الفصاحة والبلاغة ثم بين المقبول منها والمرفوض، وشرح جوانبها المتمثلة في الخطب الرنانة، واستدعاء الشعر السياسي، وتوظيف أفعل التفضيل، والتحريض على التطرف والتعصب، وترميز الحكام، والنفاق والبذاءة والكذب السياسي. كما تناول بلاغة الصورة وتعامل معها كنص سياسي، لاسيما في مجالات الصور الجمالية، وصور الأفكار، والصور الذهنية بمساراتها المتشابهة والمتصارعة والمتعددة. وأخيرا جاء الدور على الصمت السياسي البليغ، انطلاقا من فضائه الأوسع المتمثل في الدين والحكمة، ثم تجلياته في التمنع والمقاومة والتفاوض والدعاية وبناء العقل الجمعي والعنصرية والسيطرة والثورة والصوم السياسي وتمدد الإمبراطوريات.
ويقول عمار في مقدمة الكتاب “أريد أن أبين في هذا المقام أن هذه ليست دراسة في علم اللغة أو البيان، إنما في علم الاجتماع السياسي، وإن كانت تتوسل بعطاء اللغويين في البرهنة على تصورها المبدئي، ومقولتها الرئيسية، أو افتراضها الأساسي، ألا وهو أن المجاز حاضر في الحياة السياسية، بقدر حضوره في المجتمع، الذي تشكل اللغة واسطة التفكير والتعبير عنه، وتقيم بحروفها المنطوقة والصامتة بنيان العلاقات بين أفراده، في توزعها بين الصريح والضمني، والجلي والغامض، والمسهب والمختزل، والبائن والمضمر، والمنطوق والصامت، وما هو حروف وما هو صور، والمتوسل بالعبارة والمتخفي خلف الإشارة”.
والكتاب، رغم ما يلتزم به من منهج علمي في التفكير والتأمل والشرح والاستدلال، لا يهمل التفكير الحر، الذي لا يحبس نفسه داخل صندوق التحليل المتعارف عليه، والمفروض فرضا، بنماذجه الإرشادية ونظرياته ومؤشراته ومقاييسه، ولا يتحيز لتصور مسبق، يلوي إليه عنق كل معلومة ومعرفة، كي تستجيب له، ولا يقصر نفسه على منتج معرفي لثقافة دون سواها، إنما هو منفتح على عطاءات عقول بشرية متعددة، أدلت بدلوها في هذا المضمار، وسعت إلى فهم قضية المجاز بعلاقاتها المتشابكة مع تصورات مختلفة، وسياقات اجتماعية وسياسية متباينة، وظروف متبدلة في الزمان والمكان.
ويضيف عمار “ما أود أن أنبه له هنا أنني لم أقصد بدراسة المجاز السياسي أن ألقي السياسة في مجاهل الابتعاد التام عن ملامسة الحقيقة، لاسيما أننا الآن، في حاجة ماسة إلى تقريب السياسة، فكرا وممارسة، من الحقائق، إنما قصدت بالأساس، أن أجلي بعض الغموض، وأكشف بعض التلاعب الذي يسكن قلب السياسة، سواء أخذ شكل توظيف المجاز في دغدغة مشاعر الجمهور، أم كان المجاز مجرد مسرب للهروب من مواجهة الحقيقة، التي قد تمثل شوكا جارحا يتجنب الساسة المشي عليه، ليس لأنها تدمي في حد ذاتها، إنما لهشاشة أقدام أولئك الذين يفضلون دوما العيش في ظلمات الكذب والمخاتلة بما يصنعونه من الإبهام والإيهام، اللذين يجعلان الجمهور في حالة ترقب واندهاش، أشبه بالشلل، وهي مسألة يفضلها الساسة، بغض النظر عن نوع النظام السياسي، الذي يحكم ويتحكم في تسيير الأمور، استبداديا كان أم ديمقراطيا؟”.
ويعد الكتاب جديدا في موضوعه بالنسبة لدارسي العلوم السياسية العرب بعد أن تناول بلاغيون بعض جوانبه، هو محاولة لهز المسلمات الزائفة، والتصورات الجامدة، التي يتبناها دارسو العلوم السياسية في بلادنا، ممن يعتقدون أن السياسة هي بالضرورة “فن الممكن” شرط أن يكون هذا الممكن هو”ابن الحقيقة” و”ربيب الواقع”، وبذا ينحرفون بتصوراتهم، التي هي أشبه بالأوهام، إلى مسالك الخطل، ومهالك الجهل، في وقت يعتقدون أن ما يدرسونه هو حقيقة لا تقبل الشك.
ويتغيا الكتاب بما هو أعلى من تنبيه الدارسين، ألا هو إماطة اللثام عن كثير من المكر والخداع الذي يحيط بالسياسة عبر توظيف اللغة، باعتبارها تقع في قلب “القوة” التي تدور حولها العملية السياسية برمتها، وباعتبار البلاغة الجديدة قد فرضت وجودها على الثقافة السياسية.[1]
إن كل شيء في النهاية يتم التعبير عنه بالعبارة أو بالإشارة، وحتى إن ذهب السياسي إلى الفعل، فإن فعله يسبقه كلام، أو يصاحبه، ويتبعه، للتبرير أو التوضيح أو حتى إعلان النصر في المعارك السياسية، صغيرة كانت أو كبيرة. وهذا الكتاب ينطلق من تلك النقطة، ليحاول كشف جوانب المجاز في الخطاب والفكر السياسي المعاصر.
وكتاب “المجاز السياسي” هو الثاني لعمار علي حسن في هذه السلسلة بعد كتابه “الخيال السياسي” الذي صدر عام 2017، وهو السابع والعشرين ضمن كتبه في علم الاجتماع السياسي والثقافة والنقد والتصوف، إلى جانب ثلاثة وعشرين عملا أدبيا عبارة عن اثنتي عشرة رواية وتسع مجموعات قصصية، وديوان شعر، وسيرة ذاتية سردية.
…………………………..
[1] عبد الملك مرتاض، “نظرية البلاغة .. متابعة لجماليات الأسلبة العربية”، (أبوظبي، هيئة أبوظبي للثقافة والتراث ـ أكاديمية الشعر، 2011) الطبعة الأولى، ص: 235.