الكتابة تاريخ للنظر

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 53
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مي التلمساني

ما المقصود بكلمة «علاقة» فى التعبير الشائع عن «العلاقة بين الأدب والفنون البصرية»؟
تتأمل هذه المداخلة فى فكرة ومفهوم العلاقة باعتبارها المتكأ الذى تنبنى عليه ثنائيات الأدب والفنون، الكلمة والصورة، سؤال العلاقة يتناول الأدب باعتباره وسيطا عابرا للوسائط والثقافات، وكذا الفنون جميعا، حيث أن بناء علاقة هو أهم ما يميز فعلى الإبداع والتلقى.

السؤال عن ماهية العلاقة يفتح المجال لتأويل الأدب والفن بوصفهما أنشطة معرفية ديناميكية، تقوم فى جوهرها على التراكب والتوافق والتحوير والتأويل والتناص، بما يتجاوز النقل المباشر أو الترجمة أو بناء شخصيات أدبية عبر وسيط بصرى.

يسعى سؤال «ما العلاقة؟» لفهم كيف تتأسس العلاقة بين الوسائط الأدبية والفنية فى مجال النقد بما قد يمثله من قوانين تراتبية تعطى الأسبقية للأدب على حساب الفنون الأخرى، كما يسعى لفهم عمليات التناص وأدواتها باعتبارها عمليات وصل وفصل فى آن واحد تتقاطع فيها النصوص ضمن شبكة معقدة من الاحتمالات اللانهائية.

«العلاقة» مفهوم مبهم، مثله مثل مسألة كتابة تاريخ النظر، ربما يتعين علينا أن نلتفت إليهما معا.
أتصور أن «سؤال العلاقة» هو السؤال الملهم للكثير من الكتابات الفكرية والنقدية فى الفلسفة وفى العلوم الإنسانية، تلك الكتابات التى سعى أصحابها للتفكير فى ربط طرفين أو عدة أطراف تنتظم وفقا لها شبكة المعارف الأدبية والفنية، حتى وإن لم يتم تعيين لفظ العلاقة كمفهوم قائم بذاته فى كثير من الأحيان. العلاقة هى أيضا ما يمكن أن يتيح لنا، أو لى فى مستقبل غامض، أن أفكر فى تاريخ النظر، فعل النظر باعتباره عملية انتاج وعملية تلقى فى الوقت ذاته.

يهمنى هنا أن أشير لثلاثة من المفكرين والنقاد شغلهم سؤال العلاقة فى مجال الفلسفة والأدب المقارن والعلوم الاجتماعية، وأقصد الفيلسوف الفرنسى جيل دولوز، والمفكر الفلسطينى الأمريكى إدوارد سعيد، وأستاذة القانون وحقوق الإنسان الأمريكية السوداء كمبرلى كرينشو.

يقول جيل دولوز (وفيلكس جواتارى) فى معرض تأسيسهما لمفهوم الجذمور (rhizome) إن الريزوم شبكة من العلاقات تسمح بالتفكير فى أنساق المعرفة، وهو سطح لمقاومة الفوضى، وهو أيضا نموذج ثقافى لوصل الرموز والإشارات ببعضها البعض وفهم سياقات الفن والثقافة وعلاقتهما بتشكلات السلطة ومؤسساتها.

ويفكران فى كتابهما «ألف سطح» فى عمليات شديدة التعقيد تصف عملية التفكير والإبداع معا وتقوم على أسس الوصل بين نقطتين، اللا تجانس، التعدد، القطع الدال، فن رسم الخرائط وهوس النقل.

يتيح لنا هذا المفهوم تحليل العلاقة بين الأدب والفن بوصفها حركة انتزاع deterritorialization، حركة دائبة لا ثبات فيها ولا مركز لها حتى وإن بدا للوهلة الأولى أنها علاقة شجرية، أى علاقة فرع بأصل أو جذر. تلك الحركة تحل محل فكرة التناص، حلول نص فى نص آخر، وتتجاوزها. ربما لأن ما يميز العلاقة بين الأطراف والمراكز هو كونها علاقة لحظية زائلة، تتحلل بعد تشكل، ولا تكف عن الحركة والانفلات والتوالد والتكاثر، لا تكف عن خلق مسارات وخرائط جديدة. حركة أشبه بحركة الجيلى فيش التى أتحدث عنها فى روايتى الأخيرة، الكل يقول أحبك.

يقول بسام الحايك: «يُحكى أنى حاولت تغيير العالم وفشلت. طبعاً فشلت. كنت فى العشرين أو بعدها بقليل، أقرأ كثيراً، أنتظم فى حضور اجتماعات التكتلات اليسارية، أندرج فى صفوف المدافعين عن الحق الفلسطيني، ولكنى فى قرارة نفسى أرتعب من احتمالات العنف والموت المحدق. ويُحكى أن العالم يتغير بحركات بسيطة أشبه بحركات قنديل البحر. فقط يجب على المرء أن يكون صبوراً وأن يتحرك ببطء وثبات. صوت ما بداخلى يقول الجملة الأخيرة ويختفى. يطفو محله صوت آخر، متهكم، عابث، مخز. ثم أصوات وأصوات ترن فى الفضاء ثم تبتعد وتتضاءل كقناديل البحر. أحياناً تومض مثل عبارات محفورة من نور فى عمق العتمة. وأحياناً أخرى تفتح أمامى دوامة من الاحتمالات. ماذا لو تبعت صوتاً منها وأمسكت بذيله؟ ماذا لو تركت نفسى للدوامة؟ وماذا يحدث لو لم أغرق فى بحر الحكايات؟ لو بقيت فيها كما أنا الآن، فى حال من اليقظة ومن الطفو الدائم؟»

أما إدوارد سعيد فيؤسس منهجه فى الأدب المقارن والدراسات ما بعد الكولونيالية على مفهوم الكاونتربوينت (counterpoint) الموسيقى وهو المفهوم الذى يسمح لنا باستخدام صيغ التعدد والتجاور والتراكب والتعارض لفهم العلاقة بين الأعمال الأدبية والفنية وتحليلها.

تجلى مفهوم الكاونتربوينت فى أفضل صوره فى أعمال باخ الموسيقية وفى مجمل تراث الباروك فى القرن السابع عشر لكنه اليوم يصلح لأن يكون «أداة فاعلة» لإدراك وتحليل علاقة التجاور بين النصوص الأدبية والفنية، بل وعلاقة الحضور الدائم لتلك النصوص معا حيث يصعب قراءة النص الأدبى فى غيبة تامة عن النص البصرى الموازى أو المصاحب له. على سبيل المثال، لا يسعنا اليوم أن نقرأ هاملت شيكسبير بمعزل عن أداء لورانس أوليفييه (1948)، كما يتعذر تخيل البؤساء لفيكتور هوجو بمعزل عن وجه جان جابان (1957)، أو ثلاثية نجيب محفوظ بدون يحيى شاهين فى دور سى السيد (1964). تلك الحركة الدائبة بين النصوص يمكن قراءتها باستخدام مفهوم الكاونتربوينت حيث تتجاور وتتمازج الأصوات والإشارات دون أن يفقد أى منها خصوصيته.

لكن الهدف ليس إحداث أو بلوغ التناغم والذوبان، بل إن احتفاظ كل وسيط بجمالياته الخاصة وتجاورها هو ما يصنع خصوصية تلك الحالة الثالثة، بين بينين، حالة الكاونتربوينت. فى أكابيللا، رواية نشرت عام 2012، كتبت ما أتصور اليوم أنه محاكاة لأسلوب الكاونتربوينت، حيث عايدة الفنانة التشكيلية الأربعينية وقد قضت بعض عمرها تطارد شبح الفن وتكتب الشعر وتتقلب بين أهواء الرغبة وجموح المشاعر تموت دون أن تحقق وعد الفن ودون أن تترك أثرا يدل عليها. علاقة النغمات ببعضها البعض على شاكلة الكاونتربوينت، تنسحب على علاقة عايدة بأصدقائها من الرجال وبصديقتها الوحيدة، الراوية، وعلى علاقتها الوطيدة بالفن، علاقة الفنانة المحبطة بما يتجاوز قدرتها على التعبير، العلاقة الناشز، النتوء، الفشل، وكيف لها أن تصنع وجهة نظر فى الحياة وتؤثر على تلقينا لها.

أما مفهوم التقاطع (intersectionality) الذى أطلقته كمبرلى كرينشو فى دراستها عن اضطهاد المرأة الأفرو- أمريكية والذى تبنته نظرية النقد النسوى منذ نهاية الثمانينيات، فهو مفهوم يفضح العلاقة بين أنظمة الهيمنة التراتبية وبين التصورات السائدة عن المرأة سواء بالإقصاء خارج المجتمع البطريركي، أو بتجاهل العلاقة الوثيقة بين النوع والعرق والهوية الثقافية والوضعية الاجتماعية والثراء والعمر إلخ.

التقاطع، هذا المفهوم الراسخ فى مجال العلوم الاجتماعية اليوم، من شأنه أن يؤصل لبعد استطيقى جديد للعلاقة بين الأدب والفنون البصرية، بنقد هيمنة النص الأدبى وفتح النقاش حول تعددية السياقات والمصادر والمسارات فى شبكة العلائق المؤسسة للعملية الإبداعية برمتها. التقاطع لا الصراع والتراتبية هو ما يسمح لنا بفهم الحوارية بين النصوص والخطابات المختلفة، وتأويلها ضمن سياقاتها الثقافية والنوعية المختلفة.

فى مجموعتى القصصية الأخيرة، عين سحرية، محاولة لفهم التقاطع بين الواقع والسينما من خلال مشاهد قريبة من أفلام ال ميكنج أوف، التى تصف كواليس صناعة فيلم أثناء صناعته، وكذلك محاولة إدخال خيال المتفرج ليتقاطع مع خيال الممثل أثناء أداء الدور. أعطى مثالا على ذلك من قصة «شرع المحبين» فى المجموعة والتى تستعيد فيلم «دعاء الكروان» لبركات المأخوذ عن رواية طه حسين الأقل شهرة من الفيلم.

ركضت آمنة، تسلقت التل حتى بلغت النخلتين وارتمت فوق القبر باكية بحرقة، هى التى اشتهت حبيب أختها المقتولة. مثلا هنا، فى تلك اللحظات المؤثرة، كان من الممكن أن تظهر صورة هنادى مطبوعة فوق صفحة السماء، بين النخلتين، لكن بركات (لحسن الحظ) لم يفعل ذلك، فالتزمت هنادى الصمت وكظمت غيظها. نسيها بركات وسينساها الناس فى غمرة انسياقهم وراء حكاية آمنة والمهندس. واكتفى الجميع بحضور الكروان بديلا عن غيابها. هكذا قرر الكروان وهو يحط على قبر فوق التل بين نخلتين عاليتين إن الخطيئة ستكون من نصيبها والتكفير عنها من نصيب المهندس. تموت هى فى الخطيئة ويموت هو مطهراً بحبه لأختها آمنة.

بعبارة أخرى يسعى سؤال العلاقة لفهم الحوار بين الأدب والفن وأدوات كل وسيط على حدة ومعا. هى محاولة لفهم حركة الوصل والفصل وإعادة التدوير، حين تتقاطع النصوص وجماليات الأدب والفن ضمن شبكة معقدة من الدلالات اللانهائية.

أستخلص من الإشارات السابقة لتلك المفاهيم المؤسسة (الجذمور، الكاونتربوينت والتقاطع) أن العلاقة بين الأدب والفنون البصرية يمكن أن تتأسس على ثلاثة ملامح رئيسية (لا يعنى هذا أنها الملامح الوحيدة المتاحة للنقاش):

• العلاقة بين الأدب والفنون ليست ثنائية الأطراف، بل هى شبكة من الخطوط تربط بين عناصر متعددة تتجاوز النصوص ذاتها وتنفتح على خطابات الجمال وماهية الإبداع ووظائفه

• العلاقة بين الأدب والفنون هى عملية تركيب وحضور دائم وتحاور بين نصوص متجاورة، سابقة وتالية على عملية التناص

• العلاقة بين الأدب والفنون هى علاقة تعدد ونفى للتراتبية والأسبقية، تحيل بصورة من الصور لضرورة التفكير فى تاريخ النظر، تاريخ لا تنفصل فيه الكتابة عن الفنون، نطل منه على العالم فتتسع رقعته إلى ما لا نهاية.

مقالات من نفس القسم