ليام أوفلاهيرتي
ترجمة: عمرو عاطف رمضان.
القناص (1926)، قصة قصيرة شهيرة تدور أحداثها خلال معركة دبلن، وهي سلسلة من معارك الشوارع التي وقعت في الفترة ما بين 28 يونيو و5 يوليو 1922، والتي كانت بمثابة بداية الحرب الأهلية الأيرلندية. نشرت في مجلة أسبوعية اشتراكية أثناء الحرب.
انحدرَ الغَسَق الطويل لذلكَ اليوم مِن يونيو بطيئًا إلى الليل، وغاصَت “دِبلن” في ظلامٍ تامٍ لولا بقيةٌ مِن نور القمر الذي لَمَع خَلف السُحُب الناعِمة، مُرسلًا ضياءً شاحبًا كالفجر المُقبل فوق الشوارع ومياه “اللّيفي” المُظلمة. وحول مباني المحاكم الأربعة المُحاصرة، رنَّت أصوات البنادِق. هُنا وهُناك، خِلال شوارع المدينة وأزقَّتها، راحت المسدسات والبنادق تَكسِر سكون الليل، بشكل متقطّع، ككلابٍ تنبح في حقولٍ بعيدة. كان الجمهوريون وحركة الأيرلنديين الأحرار يُسعِّرون نيران الحرب الأهلية.
وفوق سطح مبنىً قرب جسر أوكونيل، كان ثمّة قنّاص جُمهوري يرقدُ مراقبًا. بجانبه بندقيته، وأعلى كتفيه يستقرّ زوجان من النظّارات المَيدانية. كان وجهه وجه طالب، رفيع، نحيف، لكن عينيه قد لمعتا بذلك البريق الثلجي للمتعصب. كانتا عميقتين، رصينتين، عينا إنسان قد اعتادتا النظر للموت وجهًا لوجه.
كان يلتهم ساندوتشًا في جوع. لم يكن قد أكل شيئًا منذ الصباح. كان في حالة عصبية لا تسمح له بتناول الطعام. أنهى ساندوتشه، وسحب قارورة الويسكي من جيبه. تجرع قليلًا ما روى ظمأه، ثم أعاد القارورة إلى جيبه. توقف قليلًا مفكرًا إن كان من الصواب أن يشعل سيجارة، كان الأمر خطيرًا، فمن الممكن أن تُشاهد الشعلة في الظلام، والعديد من الأعداء يراقبون. في النهاية قرر أن يخاطر بالأمر.
واضعًا سيجارة بين شفتيه، أشعل عود كبريت، واستنشق دخان السيجارة على عجل وهو يطفئ النار. في اللحظة ذاتها تقريبًا، احتكت رصاصة مارقة بأعلى حاجز السطح، سحب القناص نفسًا آخر من السيجارة، وسارع بإطفائها، لعن في صوت خافت ثم زحف إلى اليسار.
ببطء شديد، قام برفع نفسه وأطل من فوق الحاجز، كان ثمة وميض، وأزّت رصاصة وهي تمرق فوق رأسه. في لحظة أسرع بالنزول. لقد رأى مصدر الوميض، لقد أتى من الجانب المقابل له.
زحف فوق السور باتجاه قاعدة مدخنة بالخلف، ورفع نفسه بطيئًا ليقف وراءها حتى صار باستطاعته رؤية أعلى الحاجز، لم يكن ثمة شيء ليراه عدا السطح المظلم للمبنى المقابل له أمام السماء الزرقاء، ولا أحد، كان عدوه مختبئًا.
في ذلك الوقت كانت مدرعة تعبر الجسر، وتمضي بطيئًا باتجاه الشارع، توقفت على الجانب الآخر من المبنى على بعد خمسين ياردة، كان باستطاعة القناص أن يسمع صوت اللهاث البطيء للموتور. خفق قلبه بسرعة. كانت مدرعة للعدو. أراد أن يبدأ بإطلاق النار، لكنه علم ألّا جدوى من ذلك. لم تكن رصاصاته لتستطيع اختراق الفولاذ الذي يغطي ذلك الوحش الرمادي.
ثم، على جانب طريق فرعي، عبرت سيدة عجوز غطت رأسها بشال ممزق، وبدأت بالحديث مع الرجل القابع على المدرعة. كانت تشير باتجاه السطح حيث يرقد القناص.
فتحت المدرعة، وظهر منها رأس وكتفي رجل. راح ينظر باتجاه القناص. رفع القناص بندقيته، وأطلق النار. سقطت الرأس مرتطمة قويًا بأعلى المدرعة. اندفعت المرأة باتجاه الشارع الجانبي. أطلق القناص النار مرة أخرى. التفّت المرأة حول نفسها، وسقطت وهي تصرخ داخل مزراب المياه.
فجأة، ومن فوق السطح على الجانب المقابل، رنّت طلقة، وألقى القناص سلاحه بعيدًا وهو يلعن. قعقع صوت بندقيته وهي تندفع على الأرض، حتى ظن أن باستطاعة الصوت أن يوقظ الموتى أنفسهم. انحنى بجسده محاولًا التقاط السلاح. لم يستطع حمله. كان ساعده ميتًا. “لقد أُصبت!” دمدم.
ساقطًا أفقيا باتجاه الأرض، قام بالزحف عائدًا باتجاه الحاجز. تحسّس مقدمة ذراعه اليمنى بيده السفلى. كان الدم يرشح خلال كُم معطفه. لم يكن ثمة ألم، فقط احساس مخدّر، كما لو كانت الذراع قد قطعت بالفعل.
سريعًا، قام بانتزاع مطواته من جيبه، فتحها على متراس الحاجز، وقطع الكم كاشفًا عن ذراعه. كانت ثمة ثقب صغير موضع الرصاصة. لم يكن هنالك ثقبٌ على الجانب الآخر من الذراع، حيث أن الرصاصة كانت قد استقرت داخل العظم. لابد أنها تسببت في كسره. وعندما ثنى ذراعه أسفل الجرح، عاد الذراع إلى موضعه بسهولة. صك على أسنانه كي يتحمل الألم. أخرج كيس ضمادة الحروب، وشقه بمطواته، ثم حطم فوهة زجاجة اليود، وترك السائل المرير يقطر داخل الجرح. اجتاحت جسده كله نوبة شديدة من الألم. وضع الحشوة القطنية أعلي الجرح، ثم لفها بالضمادة، وشدّ وثاق نهايتيها بأسنانه. ثم استند بظهره على الحاجز، مغلقًا عينيه، محتملًا قدر عزمه حتى يتخطّى الألم.
في الشارع بالأسفل، كان كل شيءٍ ساكنًا. كانت المدرعة قد انزلقت في سرعة من فوق الجسر، وقد تدلى رأس الجندي الهامد من بارجتها. كانت جثة المرأة ترقد ساكنة في قناة المزراب.
رقد القناص ساكنًا لوقت طويل، يداوي جرح ذراعه، ويفكر في خطة للهروب. يجب ألا يطلع عليه الصباح وهو لا يزال على السطح، مصابًا. كان العدو على الجانب الآخر قد غطّى خطة هروبه، وعليه، فلابد من قتل ذلك العدو، ودون استخدام بندقيته. لم يكن يملك إلا مسدسًا لتنفيذ الغرض، لذا، فقد فكر في خطة.
نزع طاقيته، وأسندها على مؤخرة بندقيته، وراح يرفع البندقية بطيئًا فوق الحاجز، حتى بدت الطاقية مرئيةً من الجانب الآخر. وعلى الفور تقريبًا، علا صوت طلق النار، وانطلقت رصاصة ثاقبٌة وَسَط الطاقية تمامًا. أحنى القناص بندقيته للأمام، وترنّحت الطاقية ساقطة نحو الشارع. ثم، ممسكًا بالبندقية من المنتصف، ألقى بيده اليسرى على السطح، هامدة ميتة. وبعد لحظات، ترك البندقية تسقط باتجاه الشارع، ثم غطس بجسده إلى أرضية السطح، ساحبًا يده المًعلقة خلفه.
زاحفًا بسرعة على قدميه، راح يشبّ بعينيه إلى جانب السطح. لقد أفلحت حيلته. ظن القناص الآخر، وقد رأى الطاقية والبندقية تسقطان أرضًا، أنه قد نال من خصمه. كان الآن يقف بحذاء صفٍ من قمم المداخن، محدقًا بالجانب الآخر، يظهر سلويت رأسه بوضوح أمام السماء الغربية. ابتسم القناص الجمهوري، وأخرج مسدسه ورفعه أعلى الحاجز. كانت المسافة خمسين ياردة تقريبًا.. هدفٌ صعبٌ في هذا الضوء الشاحب، وكانت يده اليسرى تؤلمه كألف شيطان. اتخذ وضعًا ثابتًا، بينما يده ترتجف من فرط الانفعال. ضامًا شفتيه معًا، أخذ نفسًا عميقًا من منخاريه، وأطلق النار. كاد صوت الطلقة يصم أذنيه، واهتزت يده قويًا بفعل الارتداد.
وعندما انقشع الدخان أخيرًا، تطلع للجانب الآخر، وأطلق صيحة ابتهاج. لقد أصيب عدوه. كان يترنح فوق الحاجز، يعاني سكرات موته، يقاوم كي يظل على قدميه، لكنه كان يسقط بطيئًا إلى الأمام، كما لو كان في حلم. أفلت البندقية من قبضته، اصطدمت بالحاجز، سقطت، انزلقت فوق سقف محل حلاق بالأسفل، واصطكت بالرصيف عاليًا. بعدها، انهار الجندي المحتضر بالأعلى، وسقط إلى الأمام. راح الجسد الطائر يتقلب في الفضاء، ثم يرتطم بالأرض في صوتٍ فاتر مكتوم، يقبع بعده في سكونٍ أبدي.
شاهد القناص سقوط عدوه، وارتجف. خبت شهوة القتال في داخله، وهاجمه فجأة شعورٌ بالندم. ارتسمت خطوط العرق على وجهه. منهكٌ بجراحه، وبيوم الصيف الطويل الذي قضاه صائمًا، مراقبًا على السطح. شعر بالاشمئزاز من مشهد الكومة الممزقة لجثة عدوه. اصطكت أسنانه، وراح يرطن لنفسه، لاعنًا الحرب، ونفسه، والناس أجمعين.
حدق في المسدس المدخّن في يده، وبعزمٍ، قذف به على السطح بجوار قدميه. خرجت طلقة من أثر الصدمة، وأزت بجانب رأس القناص. جعلته الصعقة يرتد سريعًا إلى حواسه. انضبط أعصابه، وانقشعت سحابة الخوف من على عقله، وانطلق ضاحكًا.
عندما وصل إلى الممر الأمامي في مقابل الشارع، اجتاحه فضول مفاجئٌ لمعرفة هوية القناص العدو الذي قتله. لقد أقر أنه كان قناصًا جيدًا، أيًا من كان. راح يفكر إن كان قد عرفه من قبل! لعله كان في فرقته نفسها قبل أن يحدث الانشقاق في الجيش. قرر أن يخاطر بالذهاب ليلقي نظرة عليه. أطل بعينيه إلى ركن الشارع ناحية شارع أوكونيل. في الجانب الشمالي لم يتوقف ضرب النار الكثيف. لكن في هذه الناحية كان كل شيءٍ هادئًا. اندفع بسرعة عابرًا الطريق، انهال عليه رشاشٌ آلي بوابل من الرصاص، لكنه استطاع الهرب، وألقى بجسده، ورأسه مُنكّسٌ للأسفل، خلف الجثة. وتوقف الرشاش الآلي.
بعدها، قام القناص يلف الجسد الميت، ليجد نفسه يحدق في وجه أخيه.