عمار باطويل
كانت العمارة الطينية في قريتي خيلة ملهمتي الأولى، ففيها ولدت وداخل غرفها وجدرانها عشت وتعلمت، وأيضاً خارجها رأيت البيت الطيني وهو يحاكي الطبيعة. فقصر الشيخ أحمد سعيد بقشان وقصر أخيه عبدالله سعيد بقشان أثارا في نفسي الطفولية أسئلة وأيضاً البحث والتعرف بما داخل هذه القصور الكبيرة التي لا يسكنها أحد.
كنت في طفولتي ألعب مع أقراني في ربوع قريتي بين النخيل وتحت شجر السدر ونعلب أيضاً تحت بيت بقشان الذي خلد في ذاكرتنا ونحن أطفال بأن هذا البيت مسكون (بالسكن) أي بالجن وكنت أشعر بالخوف عندما أمر تحته في وقت الظهيرة أو وقت غروب الشمس. في مراحلنا الدراسية الأولى كان بداخل هذا البيت فصل دراسي خاص بطلاب خيلة، وكانت أستاذتنا حليمة والتي تنحدر أصولها من أمواج البحر وسواحله الجذابة من مدينة بروم الخلابة. فلهذه الأستاذة الفضل علينا وفي تعليمنا فكانت شابة جميلة وأنيقة وكنت معجباً بالسلسلة التي تتدلى من نحرها الأسمر على شكل قلب. فتعرفت على جدار القصر من الداخل وكانت تجذبني الألوان والرسومات على سقفه وأيضاً لنوافذه الخشبية تميز خاص وقد اتضح لي مؤخراً أن مهرة حضرموت من البنائين والنجارين قد وضعوا بصمتهم في قصر الشيخ أحمد سعيد بقشان وأيضاً قصر عبدالله سعيد بقشان ومن ثم قصر سليمان سعيد بقشان ولكن أفضلهم من حيث التصميم كما يبدو لي هو بيت أحمد سعيد بقشان وخاصة الشمسة التي تقوم بدورها أن تجعل الشمس تصل إلى فناء المنزل وهذه الطريقة في البناء قد شاهدتها عندما زرت دمشق في شهر أغسطس عام 1999 وقد استضافني أحد الأخوة السوريين ورأيت أن بيوتهم من الداخل مفتوحة وتصل الشمس إلى فناء المنزل، وهذه الطريقة مستخدمة أيضا في بعض بيوت ومساجد حضرموت، وكان مسجد قريتي بالطريقة الإسلامية تصل الشمس إلى فناء المسجد وما يؤسف أن بعد الوحدة اليمنية غزا بلادنا نوع آخر من البناء لا شكل ولا روح له، وقد تم هدم هذا المسجد بقريتي والذي تم بناؤه على الفن المعماري الإسلامي القديم والذي يشبه مسجد عمر بمدينة المكلا من ناحية الفناء. فلون القصر ملفت للنظر ولعل هذا الجمال الخارجي منحني الشيء من البحث عن المعنى وأيضا جمال (الشمسة) بداخل القصر كانت تلهمني عندما أنظر إلى الأعلى وأرى السماء متصلة بهذا الفن المعماري الذي جعل البيت يصل إلى الشمس من عدة أمكنة وأهمها (الشمسة). من خلال هذه القصر أو حصون حضرموت وقصورها أو من فوق جبالها تبدأ الحكايات الغريبة عن القناصة أو البيوت المسكون بالجن، فكنت أسمع القصص من كبار السن عن حياتهم أو عن تنقلاتهم في الحياة فهم يسردون قصصهم بطريقتهم الخاصة، فمنذ تلك الفترة تعلقت بالقصص وأنظر إلى أفواه الناس كي أسمع منها الجديد. فقد قرأت قصة الزير سالم ولم يتجاوز عمري أربعة عشرة عاماً، فكنت أنزوي بالكتاب الذي حصلت عليه بالصدفة في قريتنا في خيلة بوادي دوعن وكنت أقرأ القصة بين شجر النخيل في شهر رمضان المبارك، وحفظت شعر الزير سالم وفيما بعد أذهب إلى أقراني وأقول لهم الشعر وأنسبه لي ببراءة وقد انبهروا واعتقدوا بأنني أقول الشعر، وعندما بدأ المسلسل بسنوات تذكر البعض حكايتي مع الزير سالم واكتشفوا حقيقة اشعاري المزيفة، وتعرفوا على الزير سالم من خلال المسلسل المشهور والذي عرضته قناة أم بي سي في بداية الألفية الجديدة. فمن هنا تكونت لدي حكايات عدة قادتني لاحقاً إلى عالم السرد. فمنذ الطفولة وأنا اتخايل الفرسان يخرجون من الجبال راكبين على أحصنتهم وشاهرين سيوفهم للقتال. وكنت أشعر أن البيوت تتحدث، وكنت أنظر إلى قصر الشيخ أحمد سعيد بقشان رحمه الله في قريتنا واتخايل ما قد دار داخل القصر واتخايل اصحابه الذين لا أعرفهم وقتئذ وكنت اكتشف واتعرف على وجوهم من خلال القصر، وهذا حدث معي في سن مبكر، فربما هذا الخيال المبكر علامة من علامة تكويني الروائي. ولشخصية والدي الطويل مبارك باطويل رحمه الله شيء من التكوين الثقافي فكان مجلسه لا يخلو من جميع أطياف الناس، فأنا أكبر أخواني وكان والدي يعتمد عليّ في بعض الأمور كخدمة الضيوف أو جلب بعض الأشياء، فكنت أجلس واستمع لما يقولونه، وأحاول أن أفك اسرار الجرائد التي يجلبها والدي معه من مدينة المكلا إلى بيتنا القابع في وادي دوعن بين أشجار النخيل و أشجار السدر وأيضاً أشجار السمر بل كانت الطبيعة تحوم حولي بصورة مدهشة.
…………………..
*كاتب وروائي من حضرموت