القاتل الأزرق

mohammed helmy
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد حلمي

بحكم النشأة في دلتا النيل، كانت الترعة أول نافذة لي على عالم الماء. مياهها الطينية كانت مرآة صغيرة للطبيعة: أشجار، بيوت طينية، وأرض قريبة الأعماق. كل شيء واضح، يمكنك أن ترى منتهاه بعينيك.

ثم جاء البحر.

كنت طفلًا في مصيف عائلي رتيب. البحر بالنسبة لي لم يكن أكثر من رمال، ماء مالح، وشمس تلسع الجلد لتترك علامتها كإثبات على “جودة الحال”. علاقتي به ظلّت باهتة، أفتقد فيها الدهشة.

مع الوقت، صار حمام السباحة أكثر جاذبية. ماء صافٍ، فتيات بملابس زاهية، ولا أمواج تقلقك. البحر كان مخيفًا، وأنا لا أجيد السباحة. كنت حذرًا دائمًا، والخوف كان سر نجاتي.

لكن البحر ظل حاضرًا في الخلفية، كشبح لا أرى له ملامح.

ثم أحببت.

وفي الحب تتشكّل الأشياء من جديد.

كانت حبيبتي الوحيدة، صامتة لكنها تبوح. حبّها للبحر جعلني أراه بشكل آخر. قالت لي إن البحر يرسل لها رسائل مشفّرة، تخصّ كل محب بقدر محبته. كانت تذهب إليه كل صيف، وتعود بلونٍ جديد، بإحساس مختلف.

كأن بحرها ليس بحري.

ثم، في رحلة جامعية إلى الإسكندرية، جلسنا معًا أمامه. نظرت إليه كأنها المرة الأولى. لكنّي كنت منشغلًا بها أكثر من البحر.

في شهر العسل، جلسنا عليه حتى الغروب. صار بيننا نحن الثلاثة شيءٌ ما.

أدركت أن لكل منا “بحره”

حتى لو جلسنا متجاورين أمامه، فكلٌّ ينتظر رسائله الخاصة. ومع الوقت، صرت أسمع رسائلي منه، شيئًا فشيئًا.

البحر يحتويك، لكنه لا يسمح لك بالتوسّع. يعطيك الأمان، بشرط ألا تتمادى. حين تسبح عند شاطئه، تشعر أنك في حضن الكون، لكنه يحذّرك: لا تتوقف، لا تسكن، الحركة شرط النجاة.

وعلى الشاطئ ترى الحركة في كل شيء: الرمال، الشمس، القمر. كلّها تهمس: “تحرّك… وإلا هلكت.”

وحين تنظر إلى لونه، يُصبغك على قدر طاقتك. تركيبة الألوان تتغير مع السحب، كأنها تبادل أماكن بين الشمس والقمر لنفرح بلحظات جديدة.

وحين تغرب الشمس، لا تعرف أهو وداع مؤقت أم دفن لولادة جديدة. لحظة الوداع تلك تكسو البحر بالأحمر القاني، كأنه طقس قتل مقدّس.

ويا للعجب… نحب القاتل.

نحب البحر… القاتل الأزرق

مقالات من نفس القسم