بولص آدم
في زمن يثقل كاهل الإنسان بالحروب والصراعات، وتنهشه الأزمات الاقتصادية، وتلاحقه ظلال الجوائح والكوارث البيئية، يجيء نص “الفرح البشري” للروائي والقاص المصري محمد الفخراني كأنشودة نثرية مضيئة، تنحاز إلى جوهر الإنسان وقدرته على الاحتفال بالحياة رغم كل شيء. هنا، الفرح ليس ترفًا أو لحظة عابرة، بل هو قيمة وجودية، أشبه بما رآه أنطوان دو سانت-إكزوبيري في الأمير الصغير: “إن أهم الأشياء لا تُرى بالعين، بل تُرى بالقلب”، وكأن الفخراني يعيد صياغة هذه الحكمة حين يقول: “الوقت كله هنا، وكل شيء هنا، داخل لحظة الفرح البشري”.
في نبرة النص، نجد صدى لأودات بابلو نيرودا التي احتفت بأبسط تفاصيل الحياة بفرح طفولي: “أضحك مثل مياه صغيرة فوق الحجارة”، وهو الفرح ذاته الذي يلتقطه الفخراني في مشاهد صغيرة: غداء جماعي لعابري سبيل، أو صخب التلاميذ بين حصتين، ليحوّلها من تفاصيل عابرة إلى لحظات إنقاذ للروح. ونجد أيضًا روح خليل جبران في النبي: “إن فرحكم هو حزنكم وقد انكشف”، إلا أن الفخراني يتجاوز ذلك، مانحًا الإنسان حتى حقه في أن يموت من الفرح: “الإنسان، الكائن الوحيد القادر على الموت فرحًا”.
في خلفية النص، يطل ظل ألبير كامو في أعراس حيث يمتزج الاحتفاء بالحواس بمواجهة عبثية العالم: “في قلب الشتاء، اكتشفت أن في داخلي صيفًا لا يقهر”. والفخراني يجعل من هذا “الصيف الداخلي” قوة مقاومة لبرودة الواقع، فيكتب نصًا ينتمي إلى الإنشاد النثري (Prose Hymn)، تتوزع موسيقاه الداخلية عبر تكرار محوري لعبارة “الفرح البشري”، وبنية إيقاعية صاعدة هابطة، تشبه مقطوعة موسيقية تصعد إلى ذروة ثم تهدأ.
هذا الصوت، رغم انتمائه للأدب العربي المعاصر، يجاور نصوصًا كبرى: من إنشاد جبران التأملي، إلى أودات نيرودا الاحتفائية، إلى رسائل ريلكه المفعمة بحس فلسفي، وصولًا إلى فلسفة آلان باديو الذي يرى الفرح “إشارة إلى الحق”، وسلافوي جيجك الذي يرى في الفرح الجماعي لحظة نادرة لتجاوز الأنا.
إنه نص إنساني كوني، يعلن أن الفرح البشري، في بساطته وعمقه، فعل مقاومة ضد القسوة، وحقٌّ يوازي في أهميته الحق في الحياة. ولعلّ أجمل ما فيه أنه مكتوب بروح من يعرف أن العالم، إذا خلت لحظة منه من أي فرح جماعي، سيتوقف عن النبض.
يندرج “الفرح البشري” فيما يمكن تسميته أدب المقاومة الوجدانية؛ نصوص ترفض الاستسلام لقسوة الواقع، وتعيد للإنسان وعيه بقدرته على خلق المعنى والجمال من أبسط ما بين يديه. في هذا الإطار، يقف الفخراني على الضفة ذاتها التي وقف عندها نيكوس كازانتزاكيس، حين جعل من الرقص والنبيذ وضحكة الصديق انتصارًا صغيرًا على المأساة. وكما كتب كازانتزاكيس عن الإنسان الذي يرقص على حافة الهاوية، يكتب الفخراني عن الإنسان القادر على ابتكار لحظة فرح وسط رماد الحروب وضيق الأيام.
الفرح هنا ليس زينة للحياة، وإنما هو من لحمها ودمها؛ تجربة وعي كامل بالحاضر، يختزن في لحظة واحدة هشاشة الجسد وقوة الروح. وهذا ما يجعل النص قريبًا من قلوب القراء في كل الثقافات، لأنه يذكّرهم بأن الانتصارات الكبرى قد تبدأ بابتسامة صادقة، أو بمائدة عابرة تجمع غرباء، أو بصخب أطفال بين حصتين. إنها كتابة تعرف أن الفرح البشري، حين يتحقق، يصبح فعل حرية، وجسرًا يعبر به الإنسان فوق جراحه نحو ضوء لا ينطفئ.
اقرأ أيضاً: