الفنّيات في أدب المقاتل.. مقاربة لـ”كتابة القتل” لـلكاتبة د. آمنة الرّميلي

كتابة القتل في الادب العربي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إلهام بوصفارة

هذا الكتاب لذيذ لذّة القتل وطبعا لا أتحدّث هنا عن القتل في مدلوله المرجعي الواقعي بل في دلالته الفنّيّة الإنشائيّة في طبقات الخطاب اللّغويّ في نصوص المقاتل. وحلاوة هذا الكتاب أنّه اهتمّ بالعنف في هذا الصّنف من الكتابة “أدب المقاتل” فاهتمّت صاحبته برموزه ومعاجمه ومولّداته ووظائفه السرديّة حتّى جعلت من العنف حدثا فنّيّا لذيذا في أبعاده النّصّيّة يستهوي كلّ الدّارسين.

ولئن اتّخذ الأصفهاني من مائة صوت مختارة بأبياتها وألحانها مادّة أوليّة لنقل عديد الأخبار والقصص الشائقة للإمتاع بإثارة كوامن القارئ واستفزازه بدوائر الألم والإيلام والتعذيب والقتل، فإنّ الكاتبة آمنة الرّميلي حاورت هذه النصوص واتّخذتها منطلقا للتحليل الأدبي وفكّكت نصوص المقاتل وحاولت تركيبها مجدّدا بالقراءة والاستقراء.

ما هي علامات الأدبية ومسالكها التي رصدتها الكاتبة في كتابة أخبار المقاتل عند الاصفهاني؟

وكيف تجلّى الصّراع في لعبة السرد بين راوي خبر المَقاتِل والباحث فيه؟

نهج الكتاب:

هذا الكتاب هو بحث تحليليّ أدبيّ عميق لامست فيه صاحبتُه قضيّة “القتل” في الأدب العربيّ القديم شعرا ونثرا وخبرا وفكّكت بُنى نصوص القتل تفكيكا مسنودا بنظريّات الانثروبولوجيّين والنفسانيّين والسوسيولوجيّين وحتّى البنيويّين إذ نظرت إلى الخبر الأدبي كيانا لغويا مستقلّا “إنّ منطلق البحث في “القتل” حدثا سرديّا قائما بذاته، مالكا خصائصه التعبيريّة وشبكاته الرّمزيّة، هو منطلق أدبيّ علميّ محض”([1]) ومن ثم نصبت اهتمامها على تحليل النص من حيث بنيته وترتيب أفكاره ولغته وألفاظه وكيفيّة بناء جمله وتراكيبه ومجازاته وصوره الشعرية ولم تنزلق في الحكم عليه بالجيّد أو الرديء، ودرست النص من حيث مستوياته الصوتية، والصرفية، والمعجمية، والنحوية، والدلالية، والتداولية، والرمزية.

وأحسنت المؤلّفة حين لم تكتف بالاهتمام ببنية النص الداخلية باعتبارها بنية مغلقة بل نظرت إلى الظروف والسياقات خارج النصية ولم ترفض في بعض بحثها أن تعير اهتماما بالسياق التاريخي أو المجتمعي لأخبار القتل في كتاب الأغاني فهي تريد أن تفهم نصوص المقاتل في هذا “الأثر” في حقيقتها المرجعيّة على غرار تحليلها للخطاب السردي في خبر بشّار بن برد ومقتله فذكرت:” وخطّة الخطاب السّرديّ الملتبس بالخطاب الدّيني السياسي تقتضي طمس الدافع الأصلي (الهجاء) وإظهار دوافع جديدة تليق أكثر بتنفيذ فعل القتل في الشاعر“([2]) ولعلّ ما يبرّر استئناس المؤلّفة بمختلف النّظريّات النقديّة التي تخدم أطروحتها أنّ النقد الأدبي علم إنسانيّ يهتم بدراسة الظاهرة الأدبية التي أنتجها فكر إنساني وتطوّر باعتماده أساليب ومناهج أدبيّة جديدة ومتعالقة كانت أغلبها وليدة العلوم الإنسانية.

طرائق الرّاوي:

ومن هذا المنطلق يكون كتاب “كتابة القتل” في فصوله الخمسة بحثا طريفا يخصّ الكتابة وطرائق صياغة فعل القتل في أخبار الاصفهاني، بل هو محاولة للنّظر في روائع أخبار القتل ومحاصرة علامات الأدبيّة في خطاب المقاتل ، علامات الأدبيّة التي اختزلتها الكاتبة في:

– الأسطورة: لتوليد العجيب والغريب في خطاب المقاتل وفتح سبل التأويل

– الشعر: لتحويل فعل القتل من حدث تاريخيّ إلى حدث فنّيّ لأنّ الشعر هو الرّحم المولّد للصّورة الشعريّة.

– الإخبار: لتكملة الأشعار في إنتاج الدّلالة والإحاطة بحدث القتل

ركّزت الباحثة في نصيب طيّب من كتابها على الخصائص الجماليّة التي تجعل لغة السّرد في أدب المقاتل متوهّجة تنفذ إلى الذّات وتبقى تفاصيل المقتل حاضرة بعنف في وجدان القارئ.

وراحت تستقصي طرائق الرّاوي في تصوير الألم في مجموعة من أخبار المقاتل لترصد بعض التقنيات مثل الاقتضاب بجمل بسيطة سريعة الحركة متشابهة البنية أو تقنية التكثيف للحظة الألم فلا تجد سوى جملة واحدة بسيطة التركيب شديدة القصر (مثلما هو الحال في خبر عديّ بن زيد: رماه بسهم، وضعه بين كتفيه، فلق قلبه) أو بالتكثيف الحادّ بتصوير مشهد سرديّ مرعب ينعقد على فعلين: واحد يجمل والآخر يفصّل (كالحال في خبر خالد بن جعفر بن كلّاب: قطّعه إرْبا إربا حتّى قتله) ووقفت عند آليّة التفصيل التي توسّع من تصوّر فعل الألم والإيلام حين تتحوّل الشخصيّة من متألّمة إلى مؤلمة (مثل خبر رياح بن الأسكّ: والفارس المستدمي يقطع كرسوعيها بنصله) وأبانت عن طريقة أخرى من طرائق تصوير الألم أيضا وهي التركيب المشهديّ في خبر طويل من أفعال وأقوال وأحوال وهو مشهد حركيّ كثير الفواعل والأحداث يُسلّط فيه الألم على الفارس وفرسه (كمشهد مقتل زهير بن جذيمة العبسي) وحلّلت القصد من هذا التصوير وهو الإيغال في الإثارة واستفزاز كوامن الذات المتلقّية لتمثّل الإحساس بالألم (مثلما يُستقرأ ذلك في أقوال حندج وهو يصف ما علق بطرف سيفه من دماغ المضروب بعد أن ضرب به رأس زهير بن جذيمة”: ورأيت على ظُبَته مثل ثمر المُرار وذقته فكان حلوا).

ولا تني الكاتبة تعدّد طرائق الرّاوي في لعبة السّرد لصياغة أخباره لتستجلي تقنية التخطيط لاسيّما من خلال التركيز على خبر بشّار بن برد هذا الشاعر الذي خضع إلى النهي والمنع استجابة للمؤسّستين الدّينيّة والسياسيّة فتوسّعت محنته. وأثبتت الباحثة أنّ الرّاوي في خبر بشّار اعتمد خطّة في خطابه السّرديّ تقتضي طمس الدّافع الأصليّ للقتل (الهجاء) وتأسيس دوافع أخرى تناسب تنفيذ فعل القتل(السكر والزندقة) وتبرّرالكاتبة احتفاء السّارد بمقتل بشّار لأنّه حدث منطقيّ لتطاول بشار على رموز الدّين والسّلطة لذلك ينسج الرّاوي للقارئ اللّحظة السّرديّة بتفاصيل مؤثّرة في ذات المتلقّي وباستدعاء أدوات القتل وروايات أخرى تقتضيها لعبة السّرد فيروي الحدث الواحد بأشكال مختلفة لتكتشف الباحثة أنّ هذه الرّوايات ليست إلّا خططا لإحياء لحظة الموت وإثارة كوامن القارئ.

وما تركيز الباحثة على تتبّع اختيارات الرّاوي وطرائقه في تصوير الألم القاتل إلّا لتؤكّد على أدبيّة أخبار المقاتل وإتقان صنعتها وعلى تفنّن الرّاوي في بنائها وعيا منه بمقروئيّة هذا الصّنف من الأخبار وشغف الجمهور بخصائصها التعبيريّة ورغبةً في تقوية خوف الإنسان من سلطة الألم الجبّارة باستفزازه وإثارته.

وما تركيز الباحثة على تتبّع اختيارات الرّاوي وطرائقه في تصوير الألم القاتل إلّا لتؤكّد على أدبيّة أخبار المقاتل وإتقان صنعتها وعلى تفنّن الرّاوي في بنائها وعيا منه بمقروئيّة هذا الصّنف من الأخبار وشغف الجمهور بخصائصها التعبيريّة ورغبة في تقوية خوف الإنسان من سلطة الألم الجبّارة باستفزازه وإثارته ولا نغالي إن قلنا إنّ كتابة القتل هي عمليّة إحياء للحظات القتل وما أدب الموت والمقاتل إلّا أدب الحياة والمحافل.

و تمكّنت الباحثة من تتبّع مسالك الأدبيّة في كتابة أخبار القتل لتقف عند أهمّها وهو المسلك التراجيدي أو” السّمت المأساوي” وأشارت إلى أنّ المأساة لا تستقيم دون ألم وعنف: فيهما ترتفع درجة التعبيريّة برسم ملامح الشخصيّات المعنِّفة\ المؤلمة والمعنَّفة\ المتألّمة وبالتفنّن في وصف الإيذاء والتعذيب معجما وتركيبا وتصويرا فيتحوّل كلّ من الألم والعنف من الواقع إلى عنف اللّغة باعتبار هذه الجماليّة اللّغويّة الرّهان الفنّيّ الأهمّ المولّد للأدبيّة في أخبار المقاتل في الخطاب السّردي والقادر على توليد أقصى إثارة في المتلقّي.

وبتدبّر عميق أثبتت الباحثة أنّ هذا السّمت المأساوي الجامع بين الآداب والثقافات بناه الرّاوي في خبر المقتل بناء متقنا ونسج سرده وفق بناء حكائيّ مدبّر يبحث عن توازن بين البداية والنهاية حتّى أنّ بعض الجمل تتصادى في الخبر وتتماثل (مثل الخبر المتعلّق بزيد بن عديّ ومقتل النّعمان الذي التقى زيدا في صيده فقرّبه وهنا تتصادى الحكايتان فمثلما أوصل عديّ بن زيد الأب النعمان إلى العرش ليقتله الملك فيما بعد يوصل النّعمان زيدا بن عديّ الابن إلى السّلطة ليتسبّب في قتله بعد حين.)

وتستمدّ الأخبار المأساويّة طاقتها التأثريّة من الشخصيّات التي تمتلك ملامح مهمّة من ملامح الأبطال التراجيديّين الذين يختارون السقوط المدوّي بعد أن يفقدوا كلّ قواهم حاملين مسؤوليّة ذنوبهم وخطاياهم بمفردهم متأمّلين في معاني الحياة والموت. وكلّ هذه الشخصيّات فذّة قادرة على الصّراع، واجهت عن وعي مصيرها وصارعت قوى لا قبل لها سواء أ كانت غيبيّة كالقدر والغيب أم بشريّة متمثّلة في السلطة مسحوبة إلى نهاية محتومة معلومة: الموت، نهاية ترشح بالانكسار والألم والوعي الحادّ بشراسة القوى الغالبة (وضّاح اليمن\ بشّار\ ابن المقفّع \ عديّ بن زيد\ النعمان بن المنذر..):” كلّ أخبار القتل التي جاءت مضمّخة بالمأساة مبنيّة على صور المواجهة التراجيديّة بين الإنسان والقوى المحيطة به تدفعه بلا هوادة نحو مصيره المحتوم“([3]) فالرّاوي إذن لعب دورا في بناء هذه الأخبار وصناعة هذا السّمت المأساوي: “ويبني الرّاوي أجواء المقتل بملامح مأساويّة لا تخطئها عين القارئ” ([4])

إذن عقدت الباحثة مبحثها على استقراء المدوّنة وتتبّع بعض المقاتل لتقف عند صناعة الخبر في القتل وإلى أيّ حدّ تصرّف الاصفهاني في الجانب المرجعي في سبيل أن يحقّق فنّية الخبر وطرافتَه ومتعتَه حتّى يكون خبرا جيّدا فخطّط له فنّيّا بالتفصيل والتضخيم في صورة البطل السّردي ليقوده إلى مصيره الحتميّ: القتل.

 الثأر في لعبة البحث:     

انبرت الباحثة تحاول الكشف عن لعبة الرّاوي وخطّته في أخبار الأغاني كيف بناها:”ولكن للرّاوي ومن ورائه المؤلّف خطّة أخرى هي بناء خبره“([5]) فانخرطت في لعبة فنّيّة تطارد فيها نوازع الرّاوي وتحاصر حيله وتكشف تواطؤه لتدفع به نحو مضيق التحليل لتصيبه في مقتل وتجهز عليه بكشف حيله وألاعيبه وقتل هيبته الفنّيّة في الخطاب السردي:” والأمثال في محاورة جذيمة مع قصير كانت حيلة من حيل الرّاوي ليجعل من الحدث حدثا ضخما“([6]) إذن الرّاوي يواجه قوّة غالبة تدفعه نحو التعرّي والانكشاف والانهزام إلّا أنّه لا يستسلم بسهولة ولا ينقاد إليها بمرونة  بل يلاعب ويتواطأ ويسكت عن التفسير ويوهم القارئ ويستفزّ:” هذا الاستفزاز هو لبّ الحكاية ووجهة نظرها وانخراط فعليّ في الحدث الأكبر حدث القتل“([7])

وتبقى قيمة البحث في هذا الصّراع بين راو فذّ منذور بصفاته أن يخوض الصّراع في مواجهة باحثة قارئة غالبة تترصّد حركته داخل النص وخارجه باعتبارها قوة يدور في فلكها.

وفي سياق خارج النصّ نجد حركة عنف أخرى تفطّنت إليها الباحثة من خلال محاورتها للرّاوي في كتاب الأغاني وأشارت إليها في كلّ فصولها وهي عنف الرّاوي وتعمّده إيلام القارئ وشغفه بتعذيبه وإثارة كوامنه بأخبار القتل بمختلف الطّرائق المذكورة اقتضابا وتكثيفا وتفصيلا وتركيبا وتخطيطا واستطرادا وتضمينا وإن جاز لنا السؤال فنّيا ومجازا:

إن دارت عجلة الثأر من سيثأر لهذا القارئ؟ من سيحوّل هذا الرّاوي من “قاتل” إلى “مقتول”؟

بين الاصفهاني وآمنة الرّميلي دائرة منغلقة انعقدت على وجهين ملتحمين من وجوه الفنّ وهما: الموسيقى والأدب. والطرّيف في الأمر أنّ بين الفنّين يكمن القتل نواة مشعّة في دائرة تستقطب بذات القدر كلَّ الفنون شعرا وسردا وخبرا وموسيقى.

وتنبعث من الكتاب أصوات متعدّدة (التاريخ والدين والشعر والخبر والفلسفة والأسطورة والألحان…) ليستحيل فضاؤه السّرديّ إلى حلبة رقص قاتلٍ تراقص فيه الكاتبة الرّميلي الرّاوي باقتدار شديد بعد أن تعلّمت الرّقص على أغانيه المختارة ومطاردة أخباره المثيرة ومراوغة حيله الكثيرة. فلمن ستكون الغلبة في هذه الحلبة السرديّة المنذورة بالصّراع حدّ الموت؟  والاصفهاني احتال فنّياّ في بناء أخبار المقاتل وكلُّ خبر على حدّ قول الكاتبة: “يبسط شركه اللّغويّ أمام الشخصيّة وأمام القارئ فتقع الشخصيّة في شرك الموت ويقع القارئ معها في شرك الحكاية “([8]) وبما أنّ النصوص أصبحت فضاء صيدٍ وشرك ولا صيدَ دون قتل ودون قاتلٍ ومقتول فمن سيكون القاتل والمقتول في هذه اللّعبة الأدبيّة: باني الخبر في الأغاني أم الباحثة في الخبر؟

تنتصب الباحثة لهذا الرّاوي كالقدر بل كالثأر، كعين لا تنام، تصيد الرّاوي الذي استفزّ القارئ ومخاوفه وآلمه بوصف المقتل وسرد تفاصيله. تثأر الباحثة القارئة للقارئ المهزوم:” وتتشابك في السياق السردي صور الألم في أعلى عنفوانها الدّلالي حين يرحل الوصف إلى تُخوم موغلة في الإثارة ويلامس درجات عالية من القدرة على استفزاز كوامن الذات المتلقّية ومحاصرتها داخل دائرة رهيبة من تمثّل الإحساس بالألم الذي تعيشه الشخصيّة“([9]) فكما حاصر حُوصر ويتحوّل في فضاء الفعل الحكائي من مشروع “راو” إلى مشروع “شخصيّة” لتنقلب الأدوار ويتحوّل من “قاتل مؤلم ” فنّيّا بحشد كلّ الإمكانيّات التعبيريّة لاستثارة ما أمكن من غرائز القارئ أمام الألم، يتحوّل إلى ” مقتول ” باعتبار أنّ كلّ “قاتل” هو بمنطق الثأر “مقتول” فحشدت الباحثة كلّ معاولها لتعريته وكشف حيله.

وتخصّ الكاتبة قصّة “جذيمة الأبرش والزّبّاء” بنصيب الأسد من التحليل والتأويل لشأن في نفسها وهذا الإيثار لخبر ورد استطرادا للقصّة الأمّ ليس اعتباطيّا بل يشي بعثور الكاتبة على ضالّة ما في هذا الخبر وهو ندرة “المرأة القاتلة” في أخبار المقاتل ورأت فيه طرافة وغرابة مثيرة صادمة ومستفزّة بل مخيفة تقلب كلّ توقّعات القارئ عبر شخصيّة “الزّبّاء” التي ثأرت لأبيها من الملك جذيمة واتّخذت الباحثة هذا الخبر مادّة سرديّة مولّدة للدّهشة ومفتوحة على الرّمزيّة والتأويلات:” ولكن مجال البحث والنّقد ليس البقاء في حدود الأثر الأوّل(الدّهشة) على قيمته وإنّما محاولة تفكيك الصّورة والبحث في دلالاتها البعيدة“([10])

وباقتدار مكين قدرت الباحثة على رصد حركات الرّاوي في هذا الخبر وكشفت حيله الفنّية ووسائله الرّمزيّة وتلاعبَه بمتلقّيه لاستثارته بتخيّر أدوات القتل الرّمزيّة ليؤثّث بها مشهد قتل جذيمة من نطع وطست ذهبيّ وأمواس..

وهل من العبث أن تكون هذه القوة القاتلة الغالبة أنثى؟:” والملاحظ في أخبار المقاتل على كثرتها وانتشارها في كتاب الأغاني أنّه نادرا ما يكون القاتل امرأة“([11])

أ لا يكون هذا ردّا من الباحثة على ذهنيّة الرّاوي الذكر الذي يرى أنّ فعل القتل فعل ذكوريّ بالدّرجة الأولى؟ ومن زاوية أدبيّة لفظيّة تخصّ نسيج النّصّ انخرطت الباحثة في لعبة القتل الفنّي ولمّا كان القتل فعل قوّة غالبة تُسلّط على المقتول فقد كان لابدّ أن يكون القاتل متمتّعا بالصفات والشّروط اللّائقة بهذا الفعل: قوّة العقل والقلم. وكما اللّحظة السرديّة التي وضع فيها الرّاوي الملكَ جذيمة الأبرش بكلّ ما يتوفّر فيه من صفات حربيّة مسحوبا بهزيمته أمام امرأة هي نفس اللّحظة التي يوضع فيها راوي الأغاني بما تحلّى به من صفات فنّيّة محاصرا من قبل امرأة دورها في الحكاية نقله من وضعيّة “القاتل” إلى وضعيّة “المقتول”.

ولن يفوتنا هنا أن نتفطّن إلى تصادي المرأتين رغم المسافة الفاصلة بين الكتابة والقراءة، بين الباحث والشخصيّة فتتقاطع صورة الراوي بصورة الملك جذيمة وصورة الباحثة بالملكة الزبّاء ومثلما تغلّبت الزبّاء على جذيمة وحاورته ثم حاصرته في دائرة الألم حتّى الموت في أجواء أسطورية سحريّة فعلت الباحثة وتتبّعت راوي الخبر لتحاصره في دائرة النص حتّى القتل في أجواء فنّيّة أدبيّة. والطّريف في هاتين اللّحظتين أنّ فعل القتل فيهما مبنيّ أساسا على “الحيلة” و”الكشف” رغم تباين الفعلين فالقتل في الأولى فعليّ مؤلم والحركة داخليّة تدور دواليبها بين شخصيّات النصّ والقتل في الثانية فنّي ممتع والحركة في سياق خارجيّ بين القارئ والرّاوي. ولعلّ هذا ما يبرّر احتفاء الباحثة بحكاية جذيمة والزبّاء رغم أنّها استطراد جاءت على هامش الخبر الرّئيسي مقتل مالك بن نويرة. ومثّلت هذه الحكاية أكبر فضاء كشفت فيه الباحثة عن ذهنيّة هذا الرّاوي ونوازعه الخفيّة وحيله اللّغويّة سردا ووصفا وحوارا وقارعته بمطرقة التحليل الصارمة:” ولا نظنّ بأيّة حال أنّ السّارد وهو يستحضر شخصيّة الزبّاء ويرسم ملامحها كان خلوا من تمثّل الذّهنيّة العربيّة لذكاء المرأة وقدراتها اللّامحدودة المناورة والملاوصة والغلبة“([12]) ولا يخفى على القارئ ميل الباحثة إلى شخصيّة الزبّاء لتفرّدها وغرابتها المستفزّة وخروجها عن توقّعات القارئ وقدرتها على توليد الدّهشة وترك الأثر في كلّ قارئ مهما اختلفت أزمنة القراءة. فعانقت فيها حدّ الانبهار صورة المرأة القاتلة النّموذجيّة ففكّكت صورتَها ودلالاتِها البعيدة وهواجس الرّاوي في لعبة السّرد في حدّ ذاتها. واحتفاؤها بهذه الشخصيّة الأنثويّة القاتلة مبرَّر لأنّها شخصيّة متقَنة الصّنعة نحتها الرّاوي باقتدار شديد جعلها مستفزّة مفتوحة على شتّى التأويلات:” ولا تبرير حينئذ لرسم صورة الشخصيّة بمثل هذا الانزياح القويّ إلّا بكونها شخصيّة أدبيّة محضة أو شخصيّة حوّلتها الرّواية من التاريخ إلى الفنّ أو من الواقعيّ إلى التخييليّ حتّى أنّه لا غرض من ورائها إلّا التأثير في القارئ واستفزاز طمأنينته وتوقّعاته“([13])

إن كان وكْد كتاب الأغاني الإمتاع بإثارة كوامن القارئ واستفزازه بدوائر الألم والإيلام والتعذيب والقتل فإنّ هذا الكتاب لآمنة الرّميلي فاقه إمتاعا وهي تفكّك نصوص المقاتل وتحاول تركيبها مجدّدا بالقراءة والاستقراء. والقراءة هنا إبداع ورحلة تضاهي رحلة الكتابة ولا تقلّ عنها معاناة ومتعة. وقد مارست علينا آمنة سلطة جماليّة مخصوصة لا تقلّ عن سلطة الاصفهاني بقدرتها على التحليل بكثير من التبصّر النّقدي والنّفسي في أخبار المقاتل فتمرّر الخبر من حيزه الإنشائي\الكتابة إلى محكّ العقل والتأويل\ القراءة فلم تقرأه كما اتّفق أو قرأته بهواجسها الخاصّة وإنّما التزمت بالمناهج العلميّة فلم يخل تحليلها من وجاهة أدبيّة ومتعة فنّية لا تقلّ عن فنّيات الاصفهاني كاتب الخبر.

فما ألذّ أن نكتب عن خبر القتل وما أعسر أن نكتب عن لذّة الخبر! وتلتقي الجملتان في دائرة اللّذّة فمثلما تمتّع أبو الفرج بالكتابة عن شغفه بأخبار القتل وتلذّذه بوصفها وإثارة كوامن القارئ ومخاوفه العميقة: “الاحتفاء الذي نتبيّنه من خلال لغة الرّاوي السّاردة أو الواصفة فيه ولع ظاهر برواية حدث القتل وبكتابته“([14]) فمثلما تمتّعت آمنة بنبشها في ذاكرة أخبار المقاتل بحثا عن تقنيّات الراوي في بناء خبر القتل وخططه في تنظيم خطابه السّرديّ وهذا التصادي في اللّذّة بين راوي أخبار الأغاني والباحث فيها يؤكّد أنّ هذه الأخبار المعقودة على فعل القتل مبنيةّ بناء متقنا تستحقّ أن تكون مادّة بحث وعناية. 

ولئن كان الاصفهاني في تأليفه للكتاب متأثرا بنزعته الأخلاقيّة وافتتانه وولعه الظاهر بهذا النوع من الأدب أي أدب المقاتل معوّلا على” التواطؤ الذّهني بين الكاتب والقارئ على الولع بأدب القتل والإقبال عليه والاستعداد الطبيعيّ لتقبّله “([15]) بحكم التركيبة النفسيّة العميقة للإنسان، فإنّ آمنة الرّميلي تأثّرت بالمناهج الحديثة في النّقد الأدبي وولعها الشديد والبارز بفنّ التحليل والتأويل وترويض الأخبار بالنظريّات النقديّة دون إسراف أو استعراض وهي لعمري قدرة إجرائيّة فذّة تستدعي صفات تليق بهذه القدرة القويّة كقوّة العقل والقلم وصفة الذكاء والكيد. والكاتبة تغلّفت بصفة المكر وهي تخترق فضاءات حكائيّة انعقدت على القتل والعنف ودون هذه الصفة يكون الانهيار والسقوط في لعبة السرد يسيرا.

وتبقى أرضيّة الكتاب مشحونة بالاستفزاز شخصيّة وراويا وقارئا ويبدو أنّ هذا الاستفزاز هو الذي يحقّق المتعة كتابة وقراءة وهو جوهر الأدب وروحه والباحثة آمنة الرّميلي قارئة لا تنكر وقوعها في شرك الرّاوي واستمتاعها بلعبة القتل الفنّي والاستفزاز اللّغويّ:” شرك لغويّ ممتع هذا الذي تقترحه الحكاية على القارئ“([16])

“كتابة القتل” كتاب مستفزّ مربك لانتظارات المتلقّي… فيه يتفنّن القاتل في تعذيب المقتول ومعه يتفنّن الرّاوي في استثارة القارئ وتتفنّن الباحثة في تعرية الرّاوي وكشف حيله. وعلى قدر فصوله الخمسة تحضر فيه خمسة أطراف متفاعلة فيما بينها تفاعلَ الفصول وهي: القاتل والمقتول والرّاوي والقارئ والباحث وبينهم عجلة الثأر لا تنتهي.

………………………………………..

[1]  آمنة الرّميلي، كتابة القتل في الأدب العربيّ القديم، تونس، دار زينب للنّشر، 2018، ص265

[2] المصدر نفسه، ص78

[3] كتابة القتل، ص97

[4] المصدر نفسه، ص 102

[5] م. ن، ص128

[6] م. ن، ص138

[7] م. ن، ص142

[8] م. ن، ص116

[9] م. ن، ص54

[10] م. ن، ص141

[11] م. ن، ص132

[12] م. ن، ص134

[13] م. ن، ص141

[14] م. ن، ص263

[15] م. ن، ص263

[16] م. ن، ص135

مقالات من نفس القسم