د.مصطفى عطية جمعة
أصبح الفنان ما بعد الحداثي ينتج حسب ما هو مطلوب في صالات العرض التشكيلي ليحضر معه مفهوم السلعة Commodity، في ضوء غياب المعايير الجمالية، فالعمل الفني يُقيَّم طبقا للأرباح التي يأتي بها، ضمن معطيات السوق وتغيرات الذائقة التي تسعى إليها الشركات الرأسمالية ([1]). وهنا تكون واقعية جديدة، تتسع لكل الاتجاهات، مثلما يتسع رأس المال لكل الاحتياجات، بشرط وجود القوة الشرائية، أما الذوق فلا حاجة لأن يكون المرء رقيقا حين تأمل أو حين يعرض نفسه وغابت الأفكار الكبرى، أو بالأدق تراجعت اليقينيات الميتافيزيقية / السياسية / الدينية، التي ظن العقل أنها تميز الواقع، مع تسيّد العلم والرأسمالية ([2])، فالحداثة ارتبطت – في مذاهبها – بوجود أفكار يقينية أو يتخيل أصحابها أنها تقدّم تفسيرات للعالم، وبعضها ارتبط بالفلسفة والبعض الآخر ارتبط بالدين والمرجعيات الفكرية.
وتعدّ قضية “التوفيقية” من القضايا التي يأخذها البعض على فنون ما بعد الحداثية بوصفها مرتبطة بمعطيات سوق رأسمال وسلطته، حيث يرون الفن ما بعد الحداثي، يعبر عن تعددية ذات إنسانية تعيش في مجتمع متعولم، يستمع المرء فيه إلى موسيقى الريجي Reggae ، ويشاهد فيلم وسترن، ويتناول طعام الماكدونالد (الأمريكي ) في غدائه، والطعام المحلي في عشائه، ويضع عطرا باريسيا وهو يعيش في طوكيو، وملابسه توحي بالماضي Retro وهو يعمل في هونج كونج ([3])، وهو في كل ذلك، لا تفارق عينه القنوات الفضائية وما تبثه شبكة الإنترنت، الذي يحمله على يديه في هاتفه المحمول أو جهاز حاسوبه.
فالجديد في الفن ما بعد الحداثي أنه يسعى إلى تقديم قواعد جمالية جديدة، وإدراك للواقع مختلف، بغض النظر عن البعد التسويقي أو التجاري فيه، فهذا جزء من حركة ما بعد الحداثة، لا تنسحب على الكل بالضرورة. فأبرز سمات الفن ما بعد الحداثي أن الفنان يقدّم اللذة والألم ( وكلاهما متناقض ) معا، فاللذة تتمثل في سعيه لتجاوز كل تقديم سبقه، وإبداع الجديد، ومن هنا ينشأ ألم المعاناة التي تعيشها المخيّلة، في سعيها الدائم لنزعات فنية جديدة ([4]).
وقد جاءت الفلسفة الظاهراتية لتمثّل تفسيرا وتحليلا لأعمال فن ما بعد الحداثة، فالعمل الفني إنتاج بشري، ولابد أن يخرج من كونه إبداع متشكلا، إلى النظر إلى وجوده الإبداعي كما هو كائن أمامنا، وذلك برد العالم التجريبي ( الإبداعي ) إلى ذواتنا كي نفهمه فهما خاصا بنا، بوصفنا ذوات فاعلة قارئة لما يتجلى أمامها([5])، ومن ثم تقرأه الذات قراءة وجودية ظاهراتية، بأن نقرأ العمل الإبداعي في تجسده الحالي أمامنا، بدون البحث في الماهية والتكوين، وكما يبدو لذاتنا وهي متفاعلة مع وجوده ومع ما يطرحه من رؤى ، فلا يتوجب علينا البحث الدقيق والانشغال بتكوين العمل التشكيلي، وخاماته، وإنما النظر إليه كما هو، ومن ثم تذوقه جماليا.
من خلال التنظير المتقدم، يمكن فهم فنون ما بعد الحداثة، والتي سعى فنانوها إلى تقديم أشكال فنية جديدة، تحاول التمرد على التمثيلات / التقديمات / الإبداعات الفنية السابقة، وتقديم الجديد المغاير. وهو ما وضح جليا في فنون عديدة، ارتبطت بقوة بالتعبير عن رؤية ما بعد الحداثة التي تهضم الأفكار، وتجمع المتناثرات، وتبني أشكالا جديدة متعددة المصادر، متباينة الأبعاد.
فلا يكتفي فنانو ما بعد الحداثة باقتباس مواد وعناصر من مصادر شديدة الاختلاف بما فيها الرسم والنحت بل تتعمد في توظيفها لهذه العناصر أن تقاوم أي نزعة لتنسيق العناصر هذه في وحدة فنية متكاملة بل إن بعض الفنانين يسعون نحو تضخيم إحساس المتلقي بالتناقض والصراع بين هذه العناصر عن طريق اتباع أسلوب يتبني مبادئ : التناقض والتقابل والاقتباس، بأسلوب تتجاور فيه النصوص والصور والمتتاليات المألوفة وتعارضها بعضها البعض كما تتجاور الأشياء في “عصر ما بعد الحداثة ” وحسب ما يقول الفيلسوف ليوتار فإن ما بعد الحداثة لا يمكن أن تتحقق إلا في صورة محاولة لتدمير كل التصنيفات والتقسيمات والإفلات منها وفي صورة تشكك جذري في كل ما هو مألوف ومعروف والثورة عليه. وهذا ما نجده في أعمال جمعت خامات من مصادر عديدة، كما جمعت الصور الثابتة والمتحركة، فمن خلال الجمع بين هذه المتباينات تتحقق غواية الفن ([6]).
ونجد فيما يسمى الفن التجميعي Assemblage تطبيقا واضحا، وهو فن ظهر في حقبة الحداثة، ولكنه انتعش بقوة فيما بعد الحداثة متخذا أشكالا جديدة، وهو يعتمد على مفهوم جمالي، أساسه امحاء الفواصل بين مجالات الفن المختلفة من نحت sculpture، و تصويرpainting، و رسم drawing، وعمارة architecture، بل يسعى إلى إعادة النظر فيما يسمى التصنيفات الكلاسيكية لتلك الفنون والتي راجت في حركة الفن التشكيلي لعقود عديدة، ومن ثم بناء عمل فني مركب / التجميعي على أمل الوصول إلى انصهار تام بين مجالات الفن المختلفة , بما يمكّن العمل الفني من توظيف مفهوم تكوين الصورة، مع مفهوم الكتلة في النحت في عمل فني واحد , وقد يستخدم تقنية بناء الأشكال ثلاثية الأبعاد معتمدا على المتغيرات التي لم تكن معهودة من قبل في حركة الفن التشكيلي، وخاصة فيما يتعلق بمفهوم الأداء على مسطح التصوير، إنه فن يرتكز على فلسفة الاستهلاك في الحياة اليومية والتي باتت علامة على مجتمعاتنا المعاصرة، ومن ثم تحويل البيئة بكل ما فيها لتصبح هي بحد ذاتها العمل الفني , حيث يقوم الفنان بطرح وجهة نظر خاصة للتعبير عن مضمون اجتماعي من خلال الجمع بين عناصر أو مفردات ذات دلالات رمزية([7]).
وهذا ما يفسر بانتشار ما يسمى ” الفن المفاهيمي ” الذي يعتمد على الانسياق الفكري، حيث أصبح الفضاء والعلاقات الفراغية هي الموضوع الرئيسي للفنان المفاهيمي، و أصبح الفن حدثا عارضا من خلال خروجه عن إطار اللوحة بحيث يمكن تسجيله في فيلم وثائقي، ليكون شاهدًا على الحدث الفني، كأن نسجل فيلما عن الجمال الذي نجده في الطبيعة، كما في صخور نيفادا أو حفريات الثلج. وهذه استفادة عملية ومباشرة متزامنة لثورة العلم والتكنولوجيا التي أمدت الفنان بالكثير من الأدوات والرؤى، وأدخلته مرحلة جديدة من الإبداع الجمالي، وصار الفنان يبحث عن الجديد والأكثر تعقيدا في النوحي التكنيكية والتكنولوجية ” وارتبط الفن بتطور الأساليب التقنية وتنوع الوسائط التشكيلية المختلفة وتداخلها مع بعضها البعض ([8]).
ففي الفن المفاهيمي تعلو الفكرة على العمل الفني، ويكون مجاله تأملا عقلانيا نقديا، عبر الالتقاء بين عناصر منهجية مثل العلاقة بين المجسد المرئي والكلمات المكتوبة إذا اجتمعت في عمل تشكيلي. فالفكرة هي فن المفهوم والذي هو الأداة التي تصنع الفن بدلا من العمل الفني نفسه، وتعتمد في تفسيرها على السيموطيقا Simiotics لفهم دلالاتها وتفسير علاماتها، بعيدا عن مفهوم الشكلانية Formalism، فالفن المفاهيمي يكون فنا وثائقيا لأفكار فنانيه. وهو أيضا اتجاه فني يضم جميع الأحداث والأنشطة الفنية والأشياء التي لها طابع عقلي، وتختلف معاييره الجمالية عن المعايير التقليدية([9])،، بل إن الفراغ أصبح جزءا من العمل وتلك قضية غاية في الأهمية، لأن الفراغ Space الذي له مجالات مختلفة تكسبه معناها وبالتالي فإن دلالته تُدرَك من خلال المجال الذي تستخدم فيه ؛ وهو ما نجده في الفن التشكيلي جليا، خاصة في ما بعد الحداثة، ولن نفهم الخطوط والأشكال إلا بعلاقتها مع الفراغ الذي تصنعه حولها أو يتخللها أو تبثه في ثناياها، أو حتى في الفراغ المحيط بالعمل الفني إذا عُرِض. وقد استثمر فنانو ما بعد الحداثة مفهوم الفراغ بشكل حيوي كما في فن العامة Pop Art ، مع تأكيدهم على أن تجهيز الفراغ حول العمل الفني غير قابل للتوظيف التجاري، فهو تنظيم لعمل فني داخل حيز مكاني، أو في فراغ خارجي، كي ينسجم مع البيئة في وحدة فنية متكاملة، مع تفاعله مع الفراغ في داخل العمل نفسه،ليكون الفراغ جزءا من وعي الفنان أثناء الإبداع وعند العرض([10]).
يمكن القول إن مفهوم التجميعية أحد محاور الإبداع في فنون ما بعد الحداثة، فهو يتجلى أيضا في الفن الفقير Art Povera أو Poor art، والذي يعتمد على خامات حياتية، أي مصنوع بالكامل من خامات فقيرة عبر الاتحاد بين خامات نابضة بالحياة (أغصان شجر، جرائد، رمال، صخور.. ) والتي تتناقض مع الخامات العادية التقليدية والتي تكون ذات تقنية أو تكلفة عالية، ومن ثم تتم صناعة ما يمكن تسميته ” جملا تشكيلية مجازية أو استعارية عن الطبيعة “، أو أمثلة للتصغيرية اللاشكلية ” دون تحديد الأشكال بأنفسهم، وإنما تركو الأشياء لتحدد شكلها مع مصاحبة جزء معماري للعمل ([11])، وعلى هذا النحو يأتي فن الكولاج Collage ونقيضه فك الكولاج Decollage، فالأول يعتمد على اللصق والثاني إزالة صور مركبة فوق بعضها البعض، كما نجد في لوحات المدن المشوهة ببوسترات ملصقة ([12]).
إذن، يمكن نعت فنون ما بعد الحداثة بأنها تستلهم مختلف الخامات والمكونات والروافد والأفكار والرؤى، ما يراه الفنان من مفاهيم، وما تشكله الأشكال الفنية من جمل، تنفتح على النخبوي والشعبي، المتميز والعادي، إنها فنون الحياة، حتى وإن بدت غامضة لدى المتلقي، ولكن هي بلاشك تقدم أحاسيس وذائقة جمالية جديدة تحتاج لمن يفهمها ويعيها، موقنا أنه لن يصل لقواعد تؤطرها، لأن قواعدها متغيرة متناقضة متبدلة، متمرة بتمرد الفنان الدائم.
ولكن لابد من التنبيه على أن التجميعية لا تنفي اللوحة التقليدية، المعتمدة على ألوان الباليت، أيا كانت طبيعة الألوان والخامات المستخدمة فيها، لأننا سنجد كثيرا من فناني بعد الحداثة يؤثرون اللوحة في إبداعاتهم جنبا إلى جنب مع أعمال وتشكيلات أخرى. أي تظل اللوحة التقليدية وسيلة من وسائل التعبير التشكيلي.
يمكن القول إن ما بعد الحداثة في علاقتها بالفن التشكيلي، تقدم تصورا نظريا فلسفيا وفكريا، لفهم مناحي وتوجهات الفن التشكيلي المعاصر، والذي لن نفهمه إلا من خلال فهمنا للحركة الفكرية والاجتماعية والسياسية في عالمنا المعاصر، وهذا ضمن السيرورة التاريخية التي لابد من فهمها.
…………………….
[1] (PO POMO: THE POST POSTMODERN CONDITION, Paula B. Hartness, B.A., A Thesis of Master of Arts, Graduate School of Arts and Sciences of Georgetown University, 2009, p 17 -19
[2] ) الوضع ما بعد الحداثي، جان – فرانسوا ليوتار، ترجمة : أحمد حسان، دار شرقيات، القاهرة، ط1، 1994م، تصدير الكتاب بقلم ” فريدريك جيمسون “، ص106.
[3] ) السابق، ص105.
[4] ) السابق، ص109.
[5] ) انظر تفصيلا : مدخل إلى الفلسفة الظاهراتية، د. أنطوان خوري، دار التنوير، بيروت، ط1، 1984م، ص61- 63.
[6] ) اتجاهات النقد في فنون ما بعد الحداثة، د. خالد محمد البغدادي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2008م، ص102، 103.
[7] ) البوب كمدخل لاستحداث فن تجميعي للوحة التشكيلية، زهراء بنت عبدالله الناصر، رسالة ماجستير، جامعة الملك سعود، 2008م، ص23، 24 .
[8] ) السابق، ص11.
[9] ) الفراغ في الفنون التشكيلية : الحداثة وما بعد الحداثة، صبري عبد الغني، المجلس الأعلى للثقافة في مصر، 2008م، ص166، 167.
[10] ) السابق ، ص178، 179.
[11] ) فنون ما بعد الحداثة..، م س، ص117 – 122
[12] ) السابق، ص129، 130