إيما أوكون
ترجمة: نبراس الحديدي
لن يفنى الفنان بداخلك أبداً، حتى وإن سجنته في زنزانة نائية وألقيتَ مفتاحها بعيداً. حتى وإن قمت بتكبيله وانتزاع صوته. بوسعك التظاهر أنه ليس غيرَ شبح سخيف، يرسمك على الورق وحواليك دوامة من الناس، ولكن عندما تتملَّصُ من كل ما يعيق تركيزك، ستنطلق إلى ذاك الفضاء المهجور عند الثالثة صباحاً، وسيغدو بمقدورك سماع الصوت في عقلك بوضوح شديد، لأن الفنان سيعود لمطاردتك.
لن يركل هذا الفنان الباب بعنف مهدّداً حياتك بخنجر، لكنه سيرنّمُ من أعماق الأرض. سينشد أغنية ساحرة تذكرك بوميض النار مقابل ضوء القمر، بدفقة يدك الطفولية في دلو من الطلاء الأزرق، بجريان الدم وإيقاعه المتدفق إلى حيثما ينبغي أن يتجه.
وسيبدو الأمر كما الحنين، مستحيل وبعيد جداً. سيتسرب الألم إلى أعماقك. فتدفعه بعيداً عن الذاكرة، لا لأنه سيصدمك ويجعل عظامك تتحطَّم، بل لأنه ألم ناعم رقيق، ينسلُّ إلى أكثر لحظاتك إعراضاً عن المنطق.
وبينما أنت منتظر في طابور داخل السوبر ماركت، ترى طفلاً يجري نحو جدّه العجوز، ويسحب يده بقوة. والجدُّ يتطلُّع إليه بذهول، ثم يبتسم. يتغضَّن وجهه كأنه ورقة؛ وها قد كُتبت عليها أبيات قصيدة، يخاطبك الفنان الداخلي بصوت خفيض.
تشيح ببصرك بعيداً، لأنك إن أصغيتَ السمع لثانية إضافية، سيتلو عليك الفنان السطر الأول، وأنت لا تحوز الوقت لمثل هذا الهراء.
لن يفنى الفنان بداخلك أبداً، لكنك ستفنى. ببطء.
ستنقضي السنين تباعاً، إلى أن تدرك أنك لم تتَّقد شغفاً منذ أمد بعيد. أقسمت فيما مضى أنك سترجع إلى فنانك مستقبلاً، عندما تكون يداك فارغتين، وحين تعيش حياة آمنة. لكنها لن تصبح يوماً آمنة. ونتيجة لشعورك بمرارة الذنب، والندم، ستُقدم على استحضار الفنان الرابض في زنزانته من جديد.
وستلقى الفنان بداخلك حيَّاً بلا ريب، وعلى أتمّ الاستعداد للخلق والإبداع، لكنه صار هزيلاً بعد سنوات طويلة من التجاهل، وما عليك الآن سوى بذل أقصى الجهود وتوظيف حياتك في سبيل استعادته كما كان بهيئته الأولى. بينما ينتابك الشك فيما إذا كنت تملك ما يكفي من الحياة لتحقيق هذا الهدف.
لذلك لا تتجرأ وتدفعه بعيداً عنك كما فعلت سابقاً. وعندما يحدّثك، عليك الإصغاء، أو على الأقل عليك أن تحدّد موعداً معه وتلتزم به حتى وإن كنت مُنشغلاً. الفن صورة مصغَّرة عن الروح، والروح شديدة التعقيد وتطرأ عليها العديد من التغيُّرات بأقل لمسة محتملة، ولا يسعُها البقاء على صورة واحدة.
والفن الذي تُحدِثه غداً، لن يكون باستطاعته القبض على الفن الذي كان بمقدورك ابتكاره البارحة إطلاقاً. فكل تغافل هو خسران أبدي: كل عمل فني لديه فرصة وحيدة للوجود لا غير، فإذا ما ضاعت تلك الفرصة، تبدَّد إلى عدم دون رجعة.
فنانك الداخلي ليس متطلّباً للغاية. يدرك أن لديك نهاراً حافلاً بالعمل، وأن أطفالك يستحقون أن توليهم الكثير من الاهتمام، وكل ما يطلبه هو نافذة صغيرة من الوقت خلال الـ 24 ساعة من يومك، دقيقة فائضة عن حاجتك، وساعة تضيُّعها باستمرار وأنت مستلقٍ على الأريكة تقلّبُ القنوات.
لوح الحجر الذي كان من المفترض أن تحيله إلى شيء مثير لم يخطر ببالك قطُّ، نوتة الموسيقى الباردة الفارغة، جميعها في انتظار ذاك الفنان. قد يبدو من السهولة بمكان أن تدير ظهرك وتهرب، لكن تذكر إحساسك بالندم، تذكر كم هي ثمينة هذه اللحظة، وتلك الأنشودة.
تذكر أن الأمر لا ينبغي أن يكون جميلاً دوماً، كل ما عليك فعله هو أن تبدأ، وسيتكفَّل الفنان الجاثم في الأعماق بإكمال ما بدأته.
لا يكترث فنانك بالإطراء أو الجوائز، بالرفض الشديد أو القبول، بل بك أنت. يتراقص ويدعوك للرقص معه. لا تعنيه التعليمات ولا الأوامر في شيء، لأنه روح جامحة تركض حافية القدمين في غابة وقت بزوغ الفجر.
ليس مهمَّاً من تكون وما حقيقة ذاتك، لأن خلق الفن هو رحلة العودة إلى الوطن. هذه الرحلة تحتاج جهداً ليس باليسير، وكلما كنت حاضراً لأجل الفن، مكرساً وقتك ووجودك في سبيله، ستجني المزيد من المكافآت المجزية، وسيجمع فنانك العالم أجمع في راحة كفّه، ليجعله يهيم حبَّاً بروحك، تماماً كما يفعل الفنان المحِبُّ بداخلك.