الفانتازيا الذهنية فى الرواية عند “أحمد عبداللطيف”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
د. أمانى فؤاد

من رؤية فنية واضحة لكنها مفتوحة بوسع الآفاق تنطلق نصوص المبدع “أحمد عبد اللطيف” الذى صدرت له رواية “صانع المفاتيح” عام 2010 عن دار العين، وحصلت حديثاً على جائزة الدولة التشجيعية لعام 2012، كما تلتها روايته “عالم المندل”، والتى صدرت عن نفس الدار عام 2012.

مع هذين النصين يمكنك أن تحلق فى عوالم مفارقة، حيوات أوجدتها “الفانتازيا الذهنية” المعنية بحلم الممكن لا الكائن، والقادرة على دمج العلائق بين الواقعى واللاواقعى، بين الحقيقة والحلم، عوالم تخلخل الحدود وتجعلها فى حالة من الاندماج المنسجم، قد نشعر بالغرابة، لكن المؤكد أنه سيتملكنا الشغف، عالم من الدهشة يصنعه تقديم الأفكار المتمردة فى تقنيات شكلية مميزة.

يعتد الروائى بمفهوم “الخلق الفنى”، الخلق الذى يلامس الواقع ليسرق ناره، كما تقول الأسطورة اليونانية، حيث يأخذ النور والوهج ثم يرتفع بهما لتطال رأسه السماء، يبرع فى هدم المتحفى ليعيد صياغة عناصره وتركيبها على نسق آخر، مستعيناً بملكات خيال منطلقة، فتتخلق عوالم مغايرة، قادرة على خلق الصور، وهو ما تعنيه الفانتازيا فى اللاتينية، حيث يتجلى الخلق إبداعاً وليس إعادة إنتاج، ولا يعنى هذا قطيعة مع الواقع بل هو طرح إبداعى يعيد رؤية الواقع ويعيد تفسيره. يرى الإبداع رؤية وتشكيلاً فعل مواكبة ومجاوزة وسبق، لا اقتفاء نهج وضرورة المرور بمراحل فكرية حتمية خاصة فى ظل هذه الثقافة الكونية المتسارعة.

وانطلاقاً من ثقافة متسعة ودراية راسخة بالموروث الحكائى العربى الذى اعتمد على منطق الفانتازيا، ودراساته للغة الأسبانية وأدب أمريكا اللاتينية، وترجمة الكثير من الأعمال الإبداعية والفكرية لكبار الكتاب، تشكلت لديه رؤية فنية خاصة للإبداع، لا متأثراً أو مقلداً بل مبدعاً مبتكراً، مغموساً حتى النخاع فى العناصر الخاصة لثقافة ومعطيات مجتمعه المصرى، خلقت هذه الإطلالات الواعية المثقفة ذهنية خيالية تجمع جرأة الأفكار، وتناسبها مع الواقع الثقافي الخاص.

يحتفى الكاتب بالجوانب الميتافيزيقية وعوالم التصوف فى الجانب المعرفى للإنسان، ويبصر بهما مناطق إضاءات فنية تبعده عن مركزية العقل البشرى أو منطقه الصارم بمسافة تتيح له أن يغازله بتشكيلات فنية ومنطق معرفى آخر، يتتابع جيئة وذهاباً بين الخيال والعقل، فعل مراوحة ومزاوجة واشتباك وقفز، وكلها رؤى وتقنيات تصنع عوالم من الجدل الثري، ويقع نص “صانع المفاتيح” فى محيط تعريف الفانتازيا الذهنية، أى القدرة على تجلية تقاطع الواقع باللاواقع.

يرتكز الروائى أيضاً فى إبداعاته على الثقافة الشعبية التى تحتفى بعوالم السحر والتعاويذ والأحجبة، وتتكئ على المندل، قراءة الكف، والأحلام وتفسيرها، ويمتح من الموروثات الدينية والأسطورية والملحمية وكلها آليات تشكل بامتياز ما يطلق عليه تيار الواقعية السحرية فى الأدب. ويؤلف من المعطيات السابقة مادة فنية ثرية تشكّلت بتنوع ملحوظ فى نصيه “صانع المفاتيح” و”عالم المندل” فلكل نص منهما عالم شديد الخصوصية.

فى نصه “صانع المفاتيح” يخلَّق شخصية “يوسف” الذى سأم وضاق بكل مظاهر الحياة التى شوهت فى قريته لاستشراء الفساد فيها، بعد أن تحكم بمقاديرها شبكة منظمة من المفسدين فيصَّنع مفتاحاً يغلق به سمع الإنسان، وبالفعل يستمر فى صناعتها لأكثر من ستة شهور لأهالى القرية لضيق الجميع بما يحدث بها، يتطور الأمر وتصبح هناك مفاتيح تغلق البصر واللسان، لم يرتض يوسف أن يصنَّعها، لكن صبيه وفرها لأهالى القرية فأصبحت قرية أقرب إلى الموتى.

فى نصه “عالم المندل” يعرى الكاتب الموروث الثقافى الخاص بالمرأة فى مجتمع تحكمه ثقافة ذكورية شوهت تكوين المرأة ذاته، فيصور حال فتاة قبل زفافها بخمس وعشرين ساعة وقد حلمت بأنها أصبحت رجلاً من الجانب البيولوجي.

يعتمد الروائى على فكرة فانتازية وليدة التجاوز، ويوظف من أجل تنميتها الموروثات الثقافية المتنوعة بما يتسق مع العالم الروائى لكل عمل، يتكئ على الخيال الذى يقع علي الواقع، يساءله ويضعه تحت عدسات ذات أبعاد مبتكرة، تخلق صوراً جديدة للعالم، تفسره تحت معطيات وأحداث وأفكار غير ما عهدها الإنسان.

اللافت للنظر أن بمقدور أحمد عبد اللطيف صناعة عجينة إبداعية روائية ثقافية متعددة العناصر، واشتغالها بعناية فائقة، مازجاً بين عناصرها دون أن يشعر قارئه أن هناك انفصالاً ما، انفصال بين الفكرة الفانتازية والعالم الواقعى الذى تتعاطى معه ويوفر لتشكيله النصى خبرات تكنيكية وآليات تكوين على نحو مميز.

هذه البيئة الفانتازية التى اعتمد عليها الروائى لا توظف فى النص منفصلة، جانب متخيل يأخذ خيطاً عجائبياً فى الرواية بجانب الخيوط والمحكيات الأخرى الواقعية أو الاجتماعية التاريخية، كما أنها ليست بنية تناصية. يضفرها المبدع مع محاور نصه. تندمج الخيوط الواقعية والاجتماعية التاريخية فى بنية الفانتازيا لديه ولا يظهر الفصل بين فوق الطبيعى والطبيعى، بين الغرائبى الخارق وقوانين العقل فى بناء العوالم الحكائية والدلالية والمعرفية. فالواقعى والمتخيل، المادى والروحى، الألفة والغرابة، الطبيعى والشاذ، الزهد والطمع، اليأس والتمرد، والثورة والرضوخ، الموروث والمتغير، تتفاعل جميعها فيما بينها وتتداخل مشيدة عالماً متكاملاً يحمل أسئلة وجودية أزلية، ورفضاً واعتراضاً على أوضاع مجتمعية مستعيناً ببنية الفانتازية الرمزية.

تتلخص محاور العمل الرئيسية في ضيق صانع المفاتيح بكل ما يسمع من انحرافات المجتمع، يصنع المفاتيح التى تغلق الحواس، يعتريه الشعور بالراحة نسبياً هو ومن استخدم المفاتيح من أهل القرية، يتأمل الخلق والوجود، ثم يبني مدرسة للاطفال في نظرة استشرافيه للمستقبل، يثور الشباب على قرية لا تسمع ولا ترى ولا تتكلم، تهيمن القوى المسيطرة على الأمر ويسجن صانع المفاتيح.

يتداخل هذا المحور الرئيسى المتخيل بالعمل مع محاور النص الأخرى وأحداثه وشخوصه التى تشبه أو توازى ما نراه بالواقع فعليا، وتعد هذه المحاور المضفورة مع الفانتازى تناسل مولودات نصية وحكائية وتصورات وأحداث، وتوليف عناصر مع أخرى، ومن هنا يتجلى الدمج التام بين الفانتازى والواقعى فى النص وهو ما يحقق ما أطلق عليه الفانتازيا الذهنية، فالنص لا يعتمد على بنية منفصلة استهوت المبدع، لكنه يعتمد على مفهوم خاص للفن وزوايا جديدة لتناوله.

فى “عالم المندل” يقدم الروائى فانتازيا “ماذا لو؟”: مشتبكة مع عناصر “الواقعية السحرية” لتستجلى المسكوت عنه، ليس فقط فى نقد الواقع الاجتماعى المصرى، وتحكم ثقافة ذكورية فى تشكيل ذوات بشرية تعانى الشعور بالنقص والانفصام، بل أيضاً إلى قصد الوقوف على أوجه الاختلال فى منطق الحياة فيما يختص بالجنس البشرى.

المفارقة التى يقدمها هذا النص من خلال محوره الرئيسى: “رأيت فى المنام أن لى عضواً ذكرياً”، وهو بلا شك افتراض رمزى، أن النص يلعب فى معظمه على تداعيات الماضى وأحداثه ووقائعه، أى ما تسبب فى وجود هذه الأزمة النفسية عند شخصية النص، في حين أنني منذ بداية قراءة العمل تصورت أنه سيلعب علي استشراف القادم بتجلياته المتعددة في حياة امرأة حدثت لها هذه الصدمة. اشتبك النص مع ماض متوارث أوجد هذه الأزمة الحلمية الواقعية التى تأخذ شكل بيني ما بين اليقين والحلم.

ربما قد يتبادر إلى ذهني وذهن القارئ سؤال إشكالي: هل الفانتازيا لعبة فنية، تجريب يمارسه الفنان ويتكئ فيه على الغرائبية لخلق عالم مدهش؟ أم أن الفانتازيا رؤية فنية وتقنيات شكلية لا تنفصل عن أزمات الإنسان، عن الأطماع السياسية التى تلهو بالعالم، عن الظلم الاجتماعى وضياع العدل، عن الاستشراف العلمى والتطلع إلى المستقبل، عن الكشف لمناطق الغيبوبة التى وقعت فيها الحضارات البشرية تحت الأساطير والنصوص التي أخذت صفة التقديس؟ أتصور أنها رؤية فنية وإبداعية خلقت آفاقها المتسعة، وكان حضورها أكثر زخماً بعد انهيار الأنساق الفلسفية المتسقة، وتقوض التيارات الأدبية ذات الملامح، فى ظنى أنها نهج إبداعي يشير إلى أزمة القيم العميقة ومقولاتها التى صارت تحت طائلة التفكيك اتجاه يعوّل على الثقافات الخاصة بموروثاتها الفلكلورية وروحانياتها المميزة. الفانتازيا فى الرواية الجديدة لا تحكى العالم وإنما تناوشه، وتعريه، وتختزله، وتدمر التصورات الذاتية عن العلائق والأشياء والبشر، لتفتح عوالم بديلة يتحاور فيها الخيال والعقل والواقع إن صح أن هناك واقعاً خارج ذواتنا وعقولنا ووجداننا.

تجلت الفانتازيا وتنوعت معالجاتها فى أدب أمريكا اللاتينية ودارت حول تكوين الدكتاتور وكشف ممارساته، عبرت عن الطغيان العسكرى، عرّت أوضاع سياسية واجتماعية طالت الشعوب قهراً بلا رحمة أو هوادة، ومن خلالها أوجد ماركيز وفوينتس ويوسا وساراماجو وغيرهم من كبار الأدباء عوالم تكشف هذا الواقع الردئ، وتبعث فى الإنسان توقاً إلى إمكانات أخرى ومعطيات أكثر تحرراً.

فى “صانع المفاتيح” كان الفساد والانحدار الأخلاقى والقيمي المحركين اللذين استدعيا فانتازيا النص، وفى “عالم المندل” كان القهر الاجتماعى وتحكم الخرافة والشعوذة فى مقدرات المجتمع والأفراد هما ما أوجدا هذا الحلم الحقيقي الذى عاشته الفتاة، إن السعى إلى المستحيل توق يأخذنا جميعاً، ويناوشه دائماً الفنان الحقيقي، فكثيراً ما تقع النصوص الروائية التى تعتمد على الفانتازيا فى منطقة حائرة، فلا تتحقق للفكرة المتعالية على الواقع العناصر المجتمعة التى تحولها لعالم فنى مواز للحقيقة، وتند عن مبدعيها بعض أطرافها، فيصبح بعضها كالنتوء الذى يشوه النص ويصيبه بالقلق، كما أن هناك نصوصاً تعتمد على الفانتازيا لمجرد التغريب والتجريب، أو الخوض فى أمور ذهنية شديدة العمق والتنوع وهو ما قد يدفع البعض إلى عدم التفاعل مع الرواية التي تعتمد هذا النهج.

النموذج البشرى والقدرة علي التحول:

يبرز الروائى فكرة التمرد البشرى على المستقر، يتعامل معه على مستويين: فعل إبداعه الخاص ورؤيته للفن.. فهو أولاً يعلو بمفهوم التحول المستند على قدرة الإنسان المبدع على الخلق أو الصنع، على تغيير الثابت وسلطة المستقر الراسخ ليخلق عالم آخر من المحتمل أن يكون، كأنه فنان بروح متصوف، يقف بموهبته ليقول لطاقة الكون أبصرتك عندما أبصرت ذاتى، حين لمست قدرتى على الخلق الفنى، كأنه يعيد هندسة الكون ويلهو بحنكة فى عناصر تكوينه، من منطقة الخلق الفنى وقدرته على التجريب يغوص بالواقع ويرتفع به ليعيد فنياً ترتيب وصياغة ما قد يبدو فيه عشوائياً، أو ما تسببت الممارسات الإنسانية فى إظهار وجهه القبيح على مر الحضارات البشرية فوق هذا الكوكب.

هذا المنطلق فى فعل الإبداع يشير إلى ميزة الإنسان بين المخلوقات الأخرى فليست ميزة الإنسان أنه حيوان عاقل أو متكلم، لكنه هو الكائن الذى يمتلك طاقة الخيال، القادر على تصور ما يمكن أن يحدث وتجاوز الحادث بالفعل، المخلوق الذى يستطيع تشكيل الموازاة الرمزية للواقع وفيها يتحقق شعور المبدع بالاكتمال والإضافة إلى هذا العالم.

وثانياً يخلق عبد اللطيف نماذج بشرية فى النصوص قادرة على فعل التحول والتمرد على ما هو كائن، نماذج من شأنها أن تفعل، تغير موازين القوى حتى ولو على مستوى التخيل أو الرمز.

فى “صانع المفاتيح” يأتى التحول أو التمرد من قدرة “يوسف” على خلق وتصنيع المفاتيح التى تغلق السمع، فيصم الإنسان أذنيه عما يتردد فى القرية من مظاهر وحكايات الفساد المستشرية والمنظمة بين شبكة من الأفراد يمسكون بأيديهم كثير من عناصر حياة البشر، الاتجار بالأعضاء البشرية ،اللعب علي الغرائز الإنسانية حتي الشاذ منها، ومغازلة حمى الشراء لديه، من خلال الفندق والمستشفى والمشروعات التجارية لا التصنيعية، ويتطور الأمر لتتعدد المفاتيح المصنوعة فتغلق العين واللسان، أى أن يصبح الإنسان أداة لا فاعلية فيها، أى أن تسلب حواسه ويصير لا شئ، فهو لم يعد قادراً على تلقى العالم، تفرض عليه أوضاع خارجية ويختار هو أن يتعامل معها من منطق العجز، أن يكف تدريجياً عن الوجود.

فى نصه “عالم المندل” تتضخم عوالم اللاوعى لتنطلق قوى الكهف العميق للباطن النفسى الإنسانى فتخلق أنثى تعيش فى معطيات قامعة وخرافية، تحلم بأنها أصبحت تمتلك عضواً ذكرياً فى عالم ضبابي ملتبس يقدم فيه الروائى السرد بين الواقع والحقيقة تارة، وبين الحلم وعالم خيالى مواز تارة أخرى.

إذن يبقى التحول وفكرة الخلق الذى يمارسه البشر فى العالم الواقعى أو العالم النفسى الداخلى للإنسان هما اللعبة التى يمارس بها الروائى إعادة هندسة الوجود من خلال نصه الفنى.

يذكر الروائى فى مدونته أنه منذ سن العاشرة وقف طويلاً أمام مرآته ليرى وجهه، تفحصه بعد قراءته ل”دكتور جيكل ومستر هايد” أتتمثل فيه هذه الثنائية؟ يقول: “إن الكابوس الذى سببته الرواية بقى كتعويذة مثلثة مكتوبة بخطوط حمراء”. تبقى إذن فكرة التناقضات والتحولات الموجودة بالكائن الواحد هاجساً يلح عليه، ولذا بدت النماذج التى يشكلها بنصوصه سحيقة الأغوار، تسع المتجاورات والمتناقضات، ويتميز لكل شخصية عالمها الخاص بتركيبته النفسية شديدة التعقيد.

يقول “عبد اللطيف” فى مدونته أيضاً: “كتابة الأدب – أدب لا يقبل الشخصيات ذات البعد الواحد – يتطلب خيالاً لصنع ثلاثة أبعاد للشخصية، الطول والعرض والعمق، وهو ما يعنى ببساطة: الكائن، ليس بوصفه جسداً، بل تركيبة نفسية وعقلية وروحية معقدة تماماً”. تضافر هذا الوعى لديه مع المفهوم الخاص الذى آمن به الروائى للسرد، مفهوم لا يستند على كلاسيكية الحكاية ولا المحاكاة. بل يخلق نماذج من شخوص منحوتة من الداخل غالباً، خاصة وأن بعضهم يتمتع ببعض مزايا وسمات الشخصية التراجيدية أو الملحمية، تتميز شخوصه فى “صانع المفاتيح” باحتوائها على المناطق الحائرة، القلقة، الشخوص ذات الأبعاد المتعددة، ذوات بشرية يحتدم فيها الصراع ويتناوب بين الغرائز والأطماع والقيم الإنسانية.

بين الواقع والملحمة يقدم الروائى شخصية “يوسف” ويهبها بعض الملامح الأسطورية بداية من اسمه ومهنته وقدرته على الخلق دون مثال والتحكم فى الحواس البشرية، كما تتبدى طقوسه وثقافته شديدة الثراء، تتراوح بين عالم مادى أرضى، وعالم صوفى متعال من خلال مناجاته لله وقراءته لمؤلفات ابن عربى، وتأملاته فى الجبل، انفصاله عن العالم عن طريق غلق السمع، ثم رغبته فى بناء مدرسة لتعليم أطفال القرية والخروج بهم من الطبيعة الحيوانية. يهيئ الكاتب لشخصيته منذ أول فقرات الرواية طقس غرائبى يدخله حثيثا في المفارق نسبيا، ذلك حين يحكى أنه يمشى نائماً، ويحلم بعوالم سريالية، وتتنبأ له إحدى العرافات بالغنى ثم الموت محبوساً.

كما يرسم له الروائى طفولة مفارقة فهو معجز لكنه إعجاز يخالف ما تواتر عن المعجزات وقت ولادة الأنبياء والصالحين يقول “عندما ولد صانع المفاتيح، لم تحدث معجزات، فلا الأبقار ولدت، ولا الأرانب تكاثرت، ولا امتلأت صدور المرضعات لبناً، ولا جاء وقت الحصاد قبل أوانه، مع ذلك فرح أهل القرية فرحاً جماً”..” ص112. كأن الروائى يرمى بسهامه مفككاً لمقولات النصوص والموروثات الدينية في سردية حديثة. ويصور الروائى سبق الطفل فى قدراته وملكاته فى النمو، وجمال خلقته، ثم يبرز به جانباً عاطفياً حين تعلق بقطة وعشقها، لكنها ماتت فيتحول لطفل متوحش، إلى أن يستقيم سلوكه مرة ثانية، ويعود إلى طبيعته السمحة حين يفهمه والده أن قطته بالجنة.

ملامح متعددة يوفرها الروائى لشخصية “يوسف” تجعل منه ذاتاً أرضية وسماوية فى اللحظة ذاتها، كما يحمَّل المبدع الشخصية ظلالاً متعددة، وفى كل ظل هناك إحالات لعدد من الأنبياء أو بعض المتصوفة، وطريقة سلوكهم، وهو ما يمنح الشخصية الجانب الأسطورى وملامح المقدس، ليس على شاكلة السابق لكن أقرب إلي شخصية أرضية ذات صفاء، ويعد هذا التكوين النفسى والتاريخى ليوسف متسقاً مع الحدث الفانتازى الذى أقدم عليه بطل العمل.

كما يقدم شخصية “لاللي” المستثمر ذى الأصول الأوروبية، وهى تتضمن جانباً فنياً وفكرياً متجرداً نزقاً، يتبدي لاعب ماهر يحرك العالم وكأنه يتحكم بعرائس الماريونت، يلهو بضعف البشر وشذوذهم، بجهلهم ومرضهم، بجانب ما يحتشد به من رغبة فى الاستحواذ والأطماع، ولا يعدم القارئ أن يجد لديه جانباً إنسانياً خيراً خاصة مع الدكتور فى بداية حياته، لكن ربما يعود ذلك لرغبته فى ممارسة التعالى والمنح والتسلط على كل من هو حوله، يبعثنا نموذج “لاللى” لطبيعة الإمبريالية التى تتسلط بالهيمنة والاستحواذ على مقدرات المجتمعات النامية، وتعمل على إرباك منظومة القيم المستقرة بها ومواردها الطبيعية والبشرية فى الوقت ذاته. يستيقظ الجانب الخير من شخصية “الدكتور” ابن صانع المفاتيح بعد أن يمارس نزع قرنيات أعين المرضى النفسيين، ويبيعها لمن يستطيع أن يدفع، كما يحاول أن يجد له منطقاً يبرر به أطماعه، تستحوذ عليه أحلام معذبه ويعاني من وسواس التطهر المتكرر بعد كل عملية يجريها. يستيقظ ضميره فيرى جانباً خيراً بداخله، طمسه فى السابق إحساس بالدونية والفقر والعوز، فيتزوج من جميلة لعلمه أن الجميع قد طاله التشوه بصوره المتعددة.

يهتم الكاتب برسم الشخصية: ثقافتها، ومعطيات بيئتها، وكهوفها النفسية، وما يستجد عليها من متغيرات، كما يضع يديه بمهارة على نقاط التوتر فى الشخصيات وزوايا التحول، وهو ما يميز شخصيات نصوصه فهى فاعلة وإن بدت مقهورة، شخصيات لا ترضخ للكائن، تتطلع للتغير حتى وإن بدا فانتازيا فهو أول الغيث.

يدفع الروائى بجنين مشوه ليس له عينان فى حياة الدكتور وجميلة وصانع المفاتيح، وأتصور أن لهذا الكيان بالنص أكثر من تأويل، فيمكن أن يعنى به أن مخاض كل ما يموج بعصر سمته الفساد واختلال فى القيم مصيره مستقبل مشوه لا بصيرة أو بصر فيه. وربما يكون وجود هذا الكائن باعثاً على الأمل، فهناك وليد بعد كل هذا العقم، وليد يشير إلى المستقبل وأنه منتقص في حاجة إلى رعاية من الجميع. من المحتمل أيضاً أن يكون هذا الجنين الذى بلا عينين شاهداً معذباً، وجد بحياة الشخوص ليذكرهم دائماً باختياراتهم اللاأخلاقية، تتعدد التأويلات، لكن وجوده بالعمل ينثر التساؤلات.

كما تبدو شخصية جميلة الفتاة التى عشقها الدكتور منذ طفولتهما، ثم باعها والدها من خلال زيجة لأحد الشيوخ العرب حائرة بين الفضيلة والحب أو ممارسة الدعارة كنوع من عقاب الذات ودفعها إلى الضياع المحقق، تهين ذاتها نوعاً من معاقبة الآخرين الذين دفعوها دائماً أن تصبح مفعولاً فيه وبه، لا فاعلاً أو مختاراً.

تقدم جميلة بالنص رؤية خاصة لملكية المرأة لجسدها تقول بعد أن يعرض عليها الدكتور الزواج “أنت مجنون تتجوز مين، دا أنا اشتغلت مع “لالى” علشانك، علشان ما أفكرش فيك، علشان أقطع كل أمل فيك” ص85.

منطق عجيب يقدمه الروائى على لسان شخصيته، أمن أجل رجل شوه هو الآخر تهين المرأة جسدها وروحها، كيانها مكتملاً، كأن انتهاك المرأة لجسدها أو صونه أداتها لمعاقبة ذاتها والآخرين، يقدم المبدع المرأة وكأنها حبيسة هذه الأبعاد الجسدية، وهى رؤية محدودة تكرس للمرأة الجسد فقط، لا الكيان الإنسانى المتكامل، أتتحدد حياة المرأة كلها بحسبان أن محورها رجل يرضى عنها أو يرفضها؟ فهى حين تمنح تهب جسداً، وحين تعاقب تنتهك جسداً، ففى أحد المشاهد بالرواية يصور الكاتب أول لقاء للحبيبين فيتبدى سلوك جميلة وتعاطيها مع الموقف سلوك عاهرة لا امرأة تعشق، وتلتقى أخيراً برجل أحلامها، يقول السارد: “.. وود مضاجعتها، لكنه خجل أن يبدى هذه الرغبة، فأبدتها هى. نهضت من مجلسها، تحولت لأخرى لم يرها من قبل، وخلعت عنها ملابسها.. وقبل أن تبدأ فى الرقص سألته كم امرأة ضاجع فى حياته، فأجابها بأنه ما زال بكراً.. ووعدته بليلة لم يرها رجل من قبل. وأن تقوم هى بكل شئ..” ص77. قد يكون ما دفع الروائى لتصوير نموذجه النسائى على هذا النحو الإجرائى الفج تاريخ جسدها المنتهك، صفقة زواجها، وطبيعة مهنتها التى أصبحتها فى فندق “لاللى”، لكننى أتصور أن هناك منطقة فى الكيان الإنسانى “الأنثى” لم يضعها الروائى فى حسبانه، المرأة التى تمتلك العقل والمشاعر والقدرة على الفعل، بعيداً عن كونها مجرد جسد أو أداة للمتعة، وكأن وجودها لم يزل لا يطاله التطور ومجاوزة حدود غرائزها وغرائز الرجل نحوها، للمرأة وجود آخر، نعم هو لا يفارق جسدها لأن تلك الثنائيات أصبحت متحفية، وإنما هو وجود منصهر ومندمج فى كيان واحد، جسدها أحد أطرافه، والرجل فى هذا الوجود محور أساسي وسط محاور أخرى هامة تشغل المرأة الإنسان،مثل قضايا الفكر والوجود وتحقيق استقلال الكيان.

على نفس مستوى التمرد والتجدد التى تنطلق منها رؤية الكاتب لفعل الإبداع توقعت تحرراً مماثلاً لتقديم نماذج إنسانية قادرة على تجاوز ما رسخته ثقافة ذكورية مضللة عن طبيعة المرأة.

تتكثف تلك الرؤية وتستبين ملامحها فى نص “عالم المندل” فشخصية النص المحورية تعانى تشوهاً غائراً فى ذاتها وأنوثتها صنيعة كل عناصر المجتمع بداية من أمها وجدتها حتى أبيها وصديقاتها، ووصولاً إلى خطيبها وكل موروثها الثقافى تقول: “فى ساعة مثل هذه ولدت، جئت للعالم عبر عضو ملعون، لعنه الكتاب المقدس حينما جعل المرأة أصل الخطايا، وجعل لعنته مستمرة بالنزيف الشهرى وآلام الحمل والولادة. أى ذنب ارتكبته المرأة سوى أنه ليس لها عضو ذكرى؟.. أى كتاب سماوى احترم المرأة؟ لسنا سوى أوعية، مجرد أوعية..” ص41. يتبنى الكاتب صوت المرأة المقهورة ويستنطقها مآسيها، لكنه حين يريد أن يحررها يهبها معطيات رجل، العضو الذكرى، البنطلون الكتان والتي شيرت، الشعر القصير، صدرها المفتوح للحياة، للمرأة أن تنال حريتها وفق طبيعتها فالأنوثة ميزة لا وصمة.

تتحول شخصية الأنثى فى “عالم المندل” وتقول “.. أنا الآن امرأة أخرى. أردد بصوت مرتفع. امرأة قادرة على خلق الطرق التى ستسير فيها حياتها، ولا تهتم سوى بصوتها الخاص.. الشئ الوحيد الذى تغير، ويجب أن يتغير لأنه قرر ذلك، هو أنا، أبتسم للحصان الأسود الجامح، ابتسامة امرأة عرفت، بعد أن قضت نصف عمرها المفترض، إن الإنسان إله فى ذاته” ص42.

كأن الحلم الذى صار حقيقة وأصبحت بعده لديها عضواً ذكرياً هو الذى جعلها تتحول لتصبح لها صوتها الخاص، وقادرة على خلق الطرق، وأن بها طاقة الإله، وقدرته على الفعل والتغيير، كأنها وقت أن اقتربت من الرجولة شعرت بحريتها.

تتبدى القضية إذن فى “العضو الذكرى” أو ما يرمز إليه من حرية وانطلاق واستقلال، من قوة وجرأة وتحدى، ولولاه لما استطاعت أن تتحول، بدونه كانت ستظل هذا الكائن المهمش بالحياة. أما أن الوقت للدفع برؤى أخرى أكثر تمرداً على أوضاع اجتماعية خانقة كبلت المرأة وحصرتها فى وجود منتقص.

النص والفكر والتقنية

في ظني أن هناك بعض القضايا الفكرية التى تستمر تحسم وتتحدد تباعاً فى نصي أحمد عبد اللطيف “صانع المفاتيح” و” عالم المندل”.

فى “صانع المفاتيح” أتصور أن الكاتب كان لم يزل فى مرحلة من احتدام الصراع فيما يختص ببعض المقولات والأساطير الدينية، والرغبة فى تفكيكها، يخوض فيما يبدو مقدساً وهو معنياً بتفكيك المقولات، خلخلتها والنيل منها برشق أحد سهام فكره أو تصوراته فيها كأن يقول عن “الدكتور” ابن “يوسف” صانع المفاتيح “وهو صغير، بدأ يعتقد أن الله لا ينظم الأرزاق، بل إنه يلقيها من سمائه، ومن يسبق يأخذ” ص55، ثم يكمل فقرته فى لباس ساخر، كما أنه يقرن صناعة المفاتيح والانتهاء منها بقصة الخلق التوراتية، وبدلاً من تمام الخلق فى ستة أيام ينهى يوسف المفاتيح فى ستة أشهر، ثم يصعد إلى الجبل للتأمل، وكأن الإله أراد أن يستريح بعد الخلق فى العهد القديم، وأتصور أن الروائى يشير إلى الجانب الفنى فى الموروث لا الفكرى.

على مستوى آخر وفى كثير من تقنيات السرد يتكئ على المقولات المقدسة، وعلى المذكور فى نصوص العهد القديم والإنجيل، والتناص مع كثير من نصوص القرآن الكريم، كما يصدر المؤلف نصه بالآية القرآنية “صمٌّ بكمٌ عمىٌ” وهى ما تجمع عناصر الفكرة المحورية المتخيلة بالنص.

إن تفكيك المقولات الدينية ودحضها فكرياً، ثم استخدام التقنيات الفنية والتشكيلية التى تتناص مع الموروث الدينى فى إنماء النص والتطور به لهو موقف ينبئ عن حالة من الجدل المستمر بين المبدع ومعتقداته الفكرية، وبين ما يستقر بوجدانه وثقافته التى تراكمت وشكَّلت فى لا وعيه العميق، بين الرؤية الفكرية وتشكيلها، ولهذا الجدل الدائر بين الفكر وآليات التشكيل أثراً فى تخلق نص حيوى لا يدعى يقين، لكنه يثير تساؤلات ويترك قارئه فى فضاءاتها.

فى نصه “عالم المندل” ولاختلاف شكل المعالجة والمحتوي يغادر المؤلف هذا العالم المعترك نسبياً فى “صانع المفاتيح” وتبدو فكرة الرواية أكثر تحديداً وتنحو إلى الداخل الإنسانى، لكنه أيضاً يصنع ما يشبه الصدمة للمتلقى منذ أول سطور النص بهذه الفكرة التى من شأنها أن تهز كيان أنثى مستقر ومستسلم لأكثر من ثلاثة وثلاثين عاماً. فى هذا النص يبدو الطرح نفسياً واجتماعياً، ولم يخطو الكاتب منه إلى عرض وضع المرأة فى المقولات المقدسة فى النصوص الدينية، وهى مناطق قلقة ومتشابكة للغاية، تطفو منطقة أخرى ينطلق منها الروائى فى نصه وهو الموروث الشعبى والعادات والتقاليد التى رسخت لهذا القهر والذى أتصور أنه لا ينفصل كثيراً عن تصور المجتمع وتفسيره لما ورد فى النصوص الدينية، ووضع المرأة فيها، وهى بلا شك منزلة أقل من منزلة الرجل، وهو ما يحتاج كثير من المناقشة من خلال الأعمال الفنية والفكرية.

كما يقدم “أحمد عبد اللطيف” فى نصه “عالم المندل” نموذجاً نسائياً خاصاً أظهر فيه صراع الفتاة مع مجتمعها من خلال المظاهر الحسية الجسدية، لا القضايا الإنسانية الكبرى التى قد تشغل النساء أكثر من قضايا “حسد القضيب” عند فرويد، أو الأحراش المكبوتة عند يونج، لم يشتبك هذا النموذج مع الواقع الحياتى للمرأة أكثر من محيط أسرة شبه متوحدة، معوقة بالخرافات والخزعبلات التى تكرس بها النساء، ولم يتفرع الصراع بالعمل إلى قضايا المجتمع والمرأة، ما يتعلق بالموروث الدينى وقضايا الزواج، وأوضاع عمل المرأة مقارنة بالرجل، وقوامة الرجل فى النصوص المقدسة.

تخير الروائى منطقة نفسية لنموذج معوّق داخلياً وخارجياً، شكلاً ومضموناً، وظل الصراع فى محيط الحسية والجسد، لم يتجاوزهما إلى إنسانية المرأة. إلا فيما ندر، عالم النص يقدم من خلال تداعيات تمر بذهن الفتاة تشمل الماضى ومشاهد مؤثرة منه، مشاهد ترسبت وتراكمت وصنعت هذه الرغبة الدفينة للقفز فوق أنوثتها، وتساءل عما يمكن أن يحدث لو أن النساء أصبحن رجالاً وصار الرجال نساءاً، اضطراب نوعى وجنسى يودي إلي فوضى بشرية.

تظل منطقة الصدمة والتساؤل، غرائبية الفن وأشكال طرحه، هاجس أحمد عبد اللطيف الذى أتصور أنه معنى بتنوع نصوصه من حيث المحتوى وتقنيات أدائه، بل والتوحد بهما معاً وهو ما يمكن أن نراه فى مشاريعه ونصوصه الروائية القادمة.

المكان بين الملحمة والفانتازيا والواقع:

يبدو المكان فى نص “صانع المفاتيح” مكاناً بينياً ملتبساً، يدور القص فى قرية صغيرة يهبها الكاتب طبيعة مزدوجة، قد تحتمل الوجود الحقيقى أو الأسطورة، فهناك من المعطيات السردية ما يهبها مواصفات المكان الواقعى مثل: الحكى عن تاريخها، وكيف أنشئت، ولمن كانت الأرض، ثم التحولات التى حدثت لها وأصبحت ذات طبيعة مزدوجة تتضمن ملامح القرية والمدينة، قرية فقدت بكارتها وفطريتها وتحولت إلى مجتمع صناعى يقول: “اختفت رائحة البلح والطين والهواء النقى. يسير فى القرية فلا يشم سوى رائحة حيوانات منوية تأتيه من كل ركن، ولا يرى سوى ذكوراً لم يكتسبوا بعد صفة الرجولة، أو ربما اكتسبوها وفقدوها.. يستيقظ صباحاً فيلعن حواسه التى تجلب له التعاسة” ترسلنا الإشارات السابقة إلى التحولات التى حدثت بالمجتمع المصرى فى أوائل عصر النهضة وتغيره من مجتمع زراعى إلى زراعى صناعى، ودخول الجنسيات الأجنبية، وضياع خصوصية القرية ونقائها لصالح خصائص المدن الكبيرة وانفتاح المجتمع الصناعى، يقول بعد أن يحكى عن إنشاء “عبود باشا” مصنعاً لتكرير السكر فى القرية: “.. ووفد إليها ليعمل بها عدد ضخم من الناس، من الشرق والغرب والشمال والجنوب، كما وطأتها أقدام الأجانب حيث استعان بهم الباشا كخبراء. وسريعاً ما تغير شكل القرية، فاتخذت شكل المدينة الصغيرة المكتظة بالسكان” ص36.

يهيئ الكاتب لهذه القرية المبينة مستوى آخر من الالتباس يهبها طقساً متعالياً غامضاً، وجوداً مقدساً أسطورياً، كياناً ملحمياً له امتدادات تاريخية سحيقة، يصورها محاطة بحبل مقدس، ونهر يخترق أراضيها، ويتجمع بالمكان رموز للديانات والحضارات المتعاقبة لتشير هذه القرية إلى أرض مصر، عمق الوجود البشرى بتحولاته واعتقاداته. يقول وهو يحكى عن تاريخها :”أتذكر أن الله عندما خلق العالم مثله فى صورة خريطة أمام عيون آدم وحواء، فما رأياه حتى وجدا مكانين مضيئين فيه فسألا الله عنهما فقال إنهما هذا الجبل وهذا النهر” ص54.

تحول آخر يطال المكان، يتحول المقدس النقى إلى السواد ويشير الروائى إلى مظاهر الفساد والانحلال وتوغل الأطماع يقول “.. عرفت ما آل إليه مصير القدسية، رأيت شباباً يتعاطون المخدرات، وآخرين يعبثون بأجساد رفيقات، عرفت حينها أن القرية والجبل وجهان لعملة واحدة، فمن بعيد نرى الجبل شاهقاً، جليلاً وما إن تقترب حتى تشم رائحة العفن، من بعيد ترى القرية مضيئة، وما إن تقترب حتى تجدها قرية سوداء..” ص55

وبعد أن انتشرت المفاتيح التى تغلق السمع والبصر واللسان استبيحت القرية: “.. الأجانب ما زالوا يدخلون ويخرجون من القرية، ويأخذون ما يعلمون قدره، ويسرقون تاريخ القرية ومجد أجدادها. وصانعة الزيجات تعمل بعقيدة لا يمكن زحزحتها، والأمطار تهطل لكنها لا تنقى الجو، ولا تغسل البيوت ولا تظهر الأجساد” ص99.

وآن هنا أن نبحر فى براحات الرمز وتأويلاته لفك شفرات هذه الإشارات وعلاقاتها بمراحل من تاريخ مصر والحكام الذين تتابعوا عليها، يتعامل الروائى مع المكان وكأن القرية مكعب متعدد الأوجه، يبرز أحدهم أحياناً ليجعلها قرية صغيرة حقيقية واقعية، وجه آخر يبرز فيه بنيتها بين القرية والمدينة، وأتصور أنه من خلاله يشير إلى التحولات التى حدثت للمجتمع المصرى الزراعى المستقر، وجه آخر يشير إلى مكان ملحمى أسطورى، دينى مقدس. وأرى أن تشكيل المكان على هذا النحو الملحمى الأسطورى يتسق مع فانتازية النص ويمثل ركناً ركيناً فى الوصول بالفكرة محور العمل إلى طبيعتها الفنية الخاصة. يختلف تعامل الروائى مع تقنية المكان فى نص “عالم المندل” فالمكان فى الرواية ينحو إلى داخل الشخوص، إلى كهوفهم الخاصة التى تكونت أخاديدها وملامحها، ظلمتها وإضاءاتها من تاريخ نفسي اجتماعى مركب، المكان غير معنى بالعالم الخارجى إلا بحسبانه امتداداً لمعوقات الداخل البشرى لنصف المجتمع الأنثوى. تدور أحداث النص فى إحدى المدن التى تتحول فيه النساء إلى رجال بيولوجياً، ولطبيعة هذه التجربة النفسية تبدو عوالم النص داخلية فى بوتقة الذات، ولذا يتبدى المكان الخارجي حجرة النوم، والحمام الخاص، والشرفة، وشوارع المدن المعوقة، وفى البيوت المسكونة بالأشباح أو المهجورة، أماكن ضبابية قديمة ترعى فيها الخرافات وعوالم السحر والشعوذة، كلها خيوط تتجمع لتصور عوالم البطلة وأزمتها تحت ثقافة ذكورية ترعاها النساء بامتياز فائق.

ولذا يضفر الروائي بنصه تلك الرسائل التى ترسلها أم الفتاة لجدتها ومن خلالها تتأكد الفكرة التى ألح على إبرازها باستمرار لكشفها وتعريتها ألا وهى “قهر المرأة للمرأة” إعاقة عقلها وجسدها ومسيرة وجودها مكبلة بكافة القيود التى تتنازع المرأة، فالمرأة هى ما تكرس وتحمى ثقافة ذكورية بامتياز، وتعد النساء أفضل الأدوات التي استخدمها الرجل لتثبيت سيادته ومكتسباته فى مجتمع معوق. كما تتيح الرسائل هذا البعد الزمنى الممتد والذى يعمق ويؤصل فى ذات الوقت للزمن الروائى الذى قد يبدو مختزلاً فى ساعات معدودة.

إن عناية الروائى بأشكاله وتقنياته الفنية جعلته يوائم بين المحتوى وشكل أدائه، فالعمل قائم على مشاهد تتداعى على ذهن الفتاة، منذ تفتح وعيها على وجود الأب وعلاقته بالأم وكونها طرفاً ثالثاً حتي في المستقبل مع صديقاتها، خطيب لا تعرفه ولا تري معه شكلا للقادم، كما يعرض الروائي موروث من الرسائل المرسلة بين والدتها وجدتها تفسر العوالم الخرافية التى تسيطر على عقول النساء.

تتبدى الشخصية النسائية فى عالم المندل ذات مكونات خاصة فهى جامعية وتعمل، ذات ثقافة متوسطة، لكنها تمتلك القدرة على نقد الواقع الحياتى ومحاولات التمرد عليه، لكنه تمرد سطحي لا ينفذ إلي عمق الأشياء وجوهرها، ولذا يرعى بالعمل عوالم الخرافة والأحلام، ويصبح الحل من وجهة نظرها ما تمنته من تحولها إلي الرجولة، وتظل الشخصية المحورية بالنص ترفل فى معطيات قاهرة لمجتمع مكبل بقيود متعددة متوارثة يشير هذا التكوين الثقافى للبطلة إلى المكونات الثقافية العامة للمجتمع بصورة شاملة، فهى نموذج مشوه للجنسين امرأة ورجل فى هذا المجتمع الذى يتباعد عن الموضوعية والعقلانية والسواء.

يمثل عالم المندل المتمثل فى مرئيات تتشكل فى قاع فنجان، مرئيات وهمية، عالم ضيق تسكنه الخيالات والأشباح وتحركه التعاويذ ومناخ من الجهالات والانغلاقات، يمثل هذا العالم شخصية الرواية ومحتواها واتصور ان اختيار الروائي لهذا العنوان اختيار ذكي يتضمن غموض الفن الشفيف المحبب، فعلى فردانية وذاتية كهوفنا النفسية التى تشبه قاع فنجان إلا أنها تتسع وتتسع لتخلق عوالم لا متناهية، عوالم قد تسكنها الحقيقة أو الأوهام، لا أحد يعلم الحدود الفاصلة، كما لا نعرف صدق المندل أو وهمه.

ينضغط الزمن فى عالم المندل ويفارق الامتدادات التاريخية فى “صانع المفاتيح” ليستعرض الزمان حياة بطلته وعالمها فى خمس وعشرين ساعة، ويتقافز فى هذه الساعات المحدودة فى أزمنة تمثل استرجاعات تستدعى دون تسلسل مواقف من ذاكرة الشخصية، تنتقى بعناية كل المعطيات الحياتية التى تكرس لأزمة البطلة التى لا يسميها الكاتب (ظناً أنها تمثل فئات عريضة من النساء؟)، تلك الممارسات التى تتمثل فى الثقافة الشعبية من قراءة الكف أو طقوس بعض النساء لشعورهن بوجود أرواح، بقايا موروثات من الخرافات القابعة فى اللاوعى الشعبى، تتشكل كائنات عالم المندل فى النص وتقترب من مواصفات الجن والشياطين، يعتمد الروائى أيضاً على المناطق العجائبية والميتافيزيقية مثل ليلة القدر فى الموروث البيئى، منطقة الأحلام بكل علاقاتها السريالية وما يكتنفها من غموض.

اللغة والفانتازيا الذهنية:

يحظي نصي “أحمد عبد اللطيف” “صانع المفاتيح” و”عالم المندل” بلغة جارية منسابة لا تعوقها صخور صلدة ولا يمنع استرسالها رغم موضوعاتها المتخيلة والرمزية تعبيرات متكلفة مصنوعة، بل يجرى موجهاً متتابعا ليعانق شاطئ المعنى الخفى الذي يركن علي الميتافيزيقي، كما يلتقط نار الواقع ويمزجهما فى منطقة “الفانتازيا الذهنية”.

فى نصه “صانع المفاتيح” يقدم الروائى فى بعض الفقرات لغة تعمل على تفكيك النصوص المقدسة، بمفردات وأساليب المقدس ذاته، أى أنه يستخدم نفس تكنيك المقدس مع اللغة وتكوين جملها، ونفس مفرداتها وإيقاعها الداخلى، وخاصة فى نهايات الجمل من أجل أن يدحض الموروث، يتآلف فى هذا الاختيار للطقس المقدس فى اللغة، مستوى آخر من لغة ذهنية تقترب من استرسال ونصاعة المواجهة الحقيقية للواقع وتناقش أحداثه، يقول: ” فى اليوم الأول من الشهر الرابع لصناعة مفتاح السمع، قامت مجموعة من الشباب الذين لم يمتلكوا مفتاحاً بعمل تظاهرة. قاموا بعمل لافتات وكتبوا عليها “لعن الله قرية لا تسمع”، وجالوا فى القرية من أقصاها لأدناها، وعندما اقتربوا من فندق “لالى” استخدموا ألفاظاً قبيحة… فخربوا ما استطاعوا وخرجوا..”. ص81.

تمتد هذه الفقرة وما يليها لتكشف عن ظلال من النصوص المقدسة مجتمعة: العهد القديم والجديد، وبعض تعبيرات القرآن، وبعض إيقاعاته، لتوحى خاصة الفقرات الخاصة بيوسف بنوع جديد من النبوة، ليست النبوة الموروثة التى نعهدها، ولذا يفكك طقس المقدس القديم ليموت بزخم الواقع وأحداثه وقبح ما يحدث فيه، يمارس الروائى عن طريق استخدامه للغة المقدس تفكيك ما وقر فى الأذهان من أساطير وحكايات “عندما ولد صانع المفاتيح، لم تحدث معجزات، فلا الأبقار ولدت، ولا الأرانب تكاثرت ولا امتلأت صدور المرضعات لبناً..” ص102.

كما يلعب الروائى بالضمائر وأساليب الخطاب المسرحى المتنوع وهو ما يستخدم بالنصوص المقدسة ويضاهيها ليصنع أسطورته أو فانتازيته الذهنية يقول:”جاءوا فرادى، ثم جماعات، ثم تكاثر العدد وأصبحوا يكونون صفوفاً طويلة. حدثهم أن بهذا المفتاح يمكن فتح السمع وإغلاقه..”.

يبنى “عبد اللطيف” ويهدم، يبنى أسطورة “صانع المفاتيح” الأسطورة البسيطة الأرضية، ويهدم أساطير أخرى كثيرة اكتوى بها البشر طويلا، وتصبح اللغة أداته الطبيعية  لإيجاد صيغ اسلوبية ناصعة تصيب الهدف بدقة، لغة تعرف مقاصدها وتذهب إلى عمقه دون مراوغة، تتبدى أساليب الروائى ناجزة حتى وإن تنوعت الأحداث والأفكار وجاءت واقعية أو متخيلة أو وقائع حلمية، وهوما ينبيء عن رؤية وثقافة ناضجة عند المبدع. وهو أيضا ما يأخذ بيد قارئه لكشف حالة الشخوص الفكرية والنفسية ويصور عوالمهم وأحاسيسهم الداخلية، يصف حال “الدكتور” طبيب العيون الذى يتاجر بقرنيات المرضي النفسيين، يقول: “.. وتذكر أنه لم يمشط شعره. مشطه بلا تعجل ونظر فى المرآة إلى عينيه فلم يجدهما، اقترب أكثر، فتح حدقتيه بسبابته وإبهامه لم ير سوى دائرتين فارغتين فانقبض قلبه، سريعاً ما تذكر أنه يرى” ص47، لن يجد القارئ صعوبة فى انتقالات مستويات اللغة فى نصوص الروائى بل سيشعر أن هناك تمكناً من الكاتب للغته وتلوينها حسب سياقاتها.

فى نصه “عالم المندل” يستخدم الروائى لغة رمزية موازية لواقع النساء المحبط، ومحاولة إحداهن الخروج من هذا الواقع ،تقول وهي تصور النساء ككتلة من البخار المتراكم الذى يحاول أن يهرب من قيده” .. أضحك بقلب إله شرير يرى مخلوقاته التى كانت كتلة واحدة تتفتت بحثاً عن خلاص، دون أن يمد يده ليفتح النافذة. أضع يدى على صنبور الدش لأغلقه، فأتراجع، بيدى أن أمنع ميلاد بخار جديد، لكن اللعبة تحلو لى، أشاهد تسرب كتلة بيضاء بانتظام عبر النافذة، وأفكر أنه من المستحيل أن تعود من جديد بعد أن طارت فى عالم أرحب..” ص71.

ويقترب الروائى من واقعية اللغة لنقل مأساة نموذج نصه “عالم المندل” حتى أنه يورد بعض الألفاظ والشتائم الفجة التى نالتها من الآخرين لقبحها، ثم تنتقل مستويات تعامله مع اللغة بأساليب ذهنية موازية حين يجعل بطلته تفكر فى موقع السائق من عربة الحياة ،وترى أن القيادة أفضل موضع يمكّن الإنسان من أن ينجو بذاته، قد تبدو الفقرة دخيلة على استرسال النص لكننى أتصور أن الكاتب قصد منها فسحة ذهنية تتوازى مع مصير بطلة تبحث عن حريتها هى وبنات جنسها، متعة عقلية يقدمها القص فى تدريبات ذهنية تشبيهية موازية.

وتتنوع لغة “صانع المفاتيح” لتتسق مع لغة شخوصه برغم أن النص يقوم على سارد فوقى فى مجمله، يتخلله أصوات ضمنية يتنقل سرد النص من خلالها، وتنتقل اللغة فى الحوار إلى لهجة عامية، ويلعب الروائي على أوتار لغة نفسية داخلية، لغة تكتب من خلال استبطان الأعين والمشاعر لتتحول إلى سرد منطوق يقول: “كانت عيناها تبعث له سؤالاً: لم لا تتزوجنى؟ فترسل عيناه جواباً صارماً حاسماً رافضاً من الأصل طرح هذا السؤال، فلنبدأ من جديد. لا جديد بلا قديم..، صرخت فى وجه أخيراً: أشرف منك على الأقل، أجابها بهدوء الدنيا أنا أحسن منك مية مرة..”. بدأ الحوار بين العاشقين القديمين بالأعين، وامتد سؤالاً وجواباً، بدا هادئاً، ليتحول مع احتدام الصراع وتعرى كل طرف أمام الآخر إلى الصراخ. ينبئ المشهد برمته وبتقنيته الحوارية على هذا النحو بالهزائم والانكسارات التى يصاب بها شخوص العمل ونماذج مجتمع يحطمه الفساد تدريجيا، يبيع الجميع فيه ذواتهم رجلاً أو امرأة، جسداً، ضميراً، وقيم أخلاقية ومهنية. وفى نصه “عالم المندل” يتخير الروائى أن تكون لغة الرسائل الموجهة من أم بطلة النص إلى جدتها لغة حلمية تميل إلى الميتافيزيقا بلهجة عامية، وهى فى ذات الوقت تعبر عن قطاعات عريضة من النساء اللائى يفرزهن مجتمع رجعى على هذه الشاكلة.

تقول أم الفتاة لوالدتها “.. وأنا باكتب لك دلوئتى فى حد بيهمس فى ودانى إنى هموت يوم السبت الساعة ثمانية بليل، يعنى بعد تلات تيام. أنا مش خايفة من الموت، أنا عاوزة بس روحى تفضل فى البيت دا علشان تحرس بنتى”.

“حبيبتى ماما ليه ما أولتيليش إنك ما عرفتيش توصلى لحرامى الدهب وإن البيت اللى أنا شفته فى المندل كان فعلاً مهجور؟ مش مهم، لما أروح لك نبئا نتكلم براحتنا” ص80، 81.

يقدم أحمد عبد اللطيف من خلال إبداعاته نموذجا للروائي صاحب المشروع الجاد والمتجدد، وهو الأمر الذي سيدفعنا إلي انتظار إشراقاته الفنية، والتي اتصور أنها تضيف قيمة فنية وفكرية مميزة للرواية المصرية والعربية.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم