جورج حنين.. عدواً للرداءة

جورج حنين
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

زينة الحلبي

الثائرُ على الرداءة

نعم، نحن اللا النافية ونحن المهرطقون. لنا العنف الذى سوف يدمّر أسيادنا! مضى زمنٌ كنّا نقول لهم فيه نعم. آن الأوان كى نقول لهم كفى

.جورج حنين، نشيد العنيفين، 1934

فى مجلة «Un Effort» التى أسستها جماعة «Les Essayistes» باللغة الفرنسية، كتب جورج حنين أوّل مقالاته السجالية وأكثرها حدّة، مستعدياً الرداءة بجميع أشكالها السياسية والفنية والأدبية. ومن خلال هجائه هذا، تتّضح القيمُ التى سيدافع عنها حنين طوال حياته: الحداثة العالمية فى مواجهة الاستشراق؛ الفكر الطليعى كنقيض لقيم البورجوازية ولإرث الرومانسية والرمزية؛ والإيمان المطلق بحرية الإبداع والعدالة الاجتماعية. كان جورج حنين آنذاك لم يتجاوز العشرين من العمر، وقد رسم مبكراً ملامحه كمفكّر نقديّ، يضع معايير للرداءة ويصوّب سهامه على كلّ من يجسّدها.
فى العام نفسه، كشف حنين عن أسلوبه الساخر والغاضب الذى طبع بداياته النقدية، وذلك فى مراجعته لرواية «Palais-Egypte القصر-مصر» (1933) لفرنسيس كاركو، كان الروائى والشاعر الفرنسى قد اشتهر بروايات تتناول شخصيات باريس البوهيمية والهامشية، وتقع فى صلب مفهوم حنين للرداءة الأدبية: الرومانسية المبتذلة، والسرد المزخرف، والاستشراق الغرائبي. يكتب حنين مراجعة، هى فى الحقيقة هجائية مقتضبة، على شكل رصاصة سامّة تستقرّ فى رواية كاركو كما فى شخصه.

يصف حنين الرواية بال«العديمة…عدم ساحق، قاطع، هائل، خارج كل منافسة». ليست الرواية، فى نهاية المطاف، سوى «بطاقات بريدية مزخرفة تُرسل إلى الأهل المساكين»، من جملة «المصائب» التى لا تقرأ «حتى فى القطار»، لكاتب «لا بد أنه بحاجة إلى المال» (1). لكم أن تتخيّلوا وجه حنين عندما انتُخب فرانسيس كاركو عضواً فى أكاديمية غونكور الفرنسية عام 1937، حدث قد يكون بداية نفور حنين من التكريس الرسمى، لا سيما من مانحى الجوائز الأدبية والحائزين عليها.
لكن كان لأقسى مقالات حنين الهجائية أن تنتظر اعتناقه السرياليّة التى قدّمت له معجماً نقدياً وإبداعياً سيرتكز إليه لتفنيد الرداءة فى الثقافة الفرنسية آنذاك. تعرّف حنين على السريالية خلال إحدى زياراته إلى باريس فى منتصف الثلاثينات، فنشر قصيدة «De lIrréalisme عن اللا-واقعية» (1935) التى هى بمثابة بيان أعلن فيه أن «لا شيء عديم الجدوى مثل الواقع»، ووضع فيه ركائز الإبداع المعاصر كما يراه: رفض للأدوات المعرفية العلمية وللأعراف والقوانين الثابتة فى الإبداع، والإيمان المطلق بالحرية وبالإبداع الفردي. لم تكن تلك القصيدة إلا بداية علاقة طويلة جمعته بالسرياليين الأوروبيين، لا سيما بالكاتب والشاعر الفرنسى أندريه بريتون، ومهّدت لرحلة مصر مع السريالية.

مع السرياليّة، ازدادت جرأة حنين ليس فقط على الكتاب الفرنسيين الأحياء، أصحاب الذائقة السائدة، بل على أعلام المكرّس الأدبى الفرنسى — لافونتين ولابرويير— الذين، بحسب حنين، رسّخوا منذ عصرَى النهضة الفرنسية والتنوير قيماً محافظة قامت عليها الثقافة الحديثة. يتألّق حنين بمواهبه السجالية فى مقال «A propos de quelques salauds عن بعض الأوغاد» (1940) الذى يتساءل فيه عن سرّ استمرار شعبية لافونتين، ليجيب بأن الكاتب الفرنسى يجسّد «خلاصة الفكر البرجوازى، من الافتقار للقلب إلى جُبن النفس».
يرى حنين فى أعمال لافونتين قيم البورجوازية الصغيرة العابرة للزمان والمكان والتى تشمل البورجوازية المصرية، فى حرصها على الترويج من خلال تلك الأعمال لقيم مثل الارتقاء والحكمة والتوفير والحضّ على تجنّب المخاطرة وعدم الخروج من السرب، مضيفاً أن «كلّ مزايا الشخصية المريعة والمحافظة تجتمع فى هذه الأعمال الأحطّ من الأرض». يختتم حنين المقالة بنبرة غاضبة وساخرة يستدعى من خلالها الشاعرَ السريالى الفرنسى رينيه شار: «لافونتين، ولابرويير وأمثالهما؟ خنازير، ليسوا سوى خنازير، وبعبارة رينيه شار الجميلة: أنا لا أساير الخنازير».

أحدثت المقالة هرجاً ومرجاً فى الحقل الثقافى الفرنكوفونى القاهرى، كما كان معدّاً لها تماماً أن تفعل، وأغضبت بعض قراء مجلة «Don Quichotte» الذين كانوا قد تربّوا على المكرّس الأدبى الفرنسى، وعلى القيم البرجوازية التى باتت تُشتم على صفحات المجلة التى يحبّون ويموّلون. كتب أحدهم رسالة إلى المحرّر خصّص فيها جورج حنين: «أنت لا تتجرّأ إلا على الأموات»، فنشر حنين ردّه بموازاة رسالة القارئ المهان والجريح، قائلاً: «أفتحسب نفسك حياً؟» .(2) فلا شىء يفوق رداءة الاستمتاع بحكمة الصرصار والنملة البالية، خصوصاً وأنّ معاصرة رينيه شار المتّقدة تلوح فى الأفق.
تصوّر حنين من خلال نقده للرداءة شكل المرحلة القادمة التى سيكشف عن ركائزها تباعاً: سيكون الإبداع معادياً للفاشية من دون أن يكون ستالينياً؛ معاصراً من دون أن يكون أصيلاً؛ حرّاً من دون أن يتخلّى عن بُعده السياسي. ولعلّ أبرز ما حقّقته تلك السجالات، هى أنها ثبّتت الشاب الفرانكوفونى الغاضب فى صدارة الثقافة المصرية المعاصرة، وهو الذى بدا مذّاك قادراً على جمع التناقضات. كان حنين، على حد قول باسكال رو، ينتمى إلى الطبقة ذاتها التى كان يكتب لها والتى كان يثور عليها. (3) فى ثلاثينيات القاهرة إذاً، كان جورج حنين رديف المشهد الثقافى، وكان الثائر عليه فى الآن نفسه.

**

مُفنِّد الرداءة

فى النهاية، لم نعد قادرين على التمييز مَن الذى طوّع الآخر: الواقع أم الواقعيّون.

جورج حنين، «Pour une pensée sacrilège 

من أجل فكر تدنيسى» (1944)

«26 عاماً، شاعر، سجالى». (4) بهذه الكلمات المقتضبة ولكن شديدة الدلالة على وعيه بموقعه الريادى، عرّف جورج حنين عن نفسه فى بداية الأربعينيات. تجلّت رؤيته للرداءة فى سجالات أدّت أدواراً مفصلية فى الحقل الثقافى الفرانكوفونى المصرى الذى بدأ ينقسم على نفسه جراء صعود الفاشية والحركات الشيوعية والأحزاب القومية. عام 1938، اصطدم حنين بمجموعة «Les Essayistes» وانشقّ عنها بعدما استضافت الإيطالى فرانكو مارينيتى، منظّر التيار المستقبلى وصاحب «البيان الفاشى» ذى المواقف الداعمة لموسوليني. قد تكون تلك اللحظة مفصلية فى جعل حنين يشعر بضرورة التوجّه إلى قرّاء العربية خارج الحقل الثقافى الفرانكفونى.

انصبّ تركيز حنين فى السنوات اللاحقة (1939-1941) على إنشاء مشهد ثقافى مصرى ناطق باللغة العربية متمحوراً حول السريالية. فعمل على إطلاق مجموعة «الفن والحرية» وبيان «يحيا الفن المنحطّ»، وشارك بتأسيس مجلة «التطوّر» الناطقة بالعربية والتى ستمنع لاحقاً بسبب ترويجها لأفكار يسارية، وبعدها «المجلة الجديدة» التى لن تصمد هى الأخرى طويلاً تحت ضغط السلطات. على المستوى السياسى، ساهم حنين فى تأسيس حركات وتحالفات يسارية تعرّضت للمضايقات على يد السلطات المحلية. ولعلّ الحدث الأبرز هو انتقاده للأمميّة الرابعة عام 1947 لأنها لم تتمكّن، بحسب رسالة كتبها لهنرى كاليه، «من التحوّل إلى قوّة ثوريّة حيّة وفاعلة… وافتقارها للشغف وإكثارها من المخطّطات»، مضيفاً أنّه «كان لدى تروتسكى شغف وكان لديه نبل وقوة الصاعقة. لا أرى شيئاً مماثلاً لا فى صوت خلفائه ولا فى تصرّفهم».(5)

أفضت تلك التحوّلات فى المشهدين الثقافى والسياسى إلى تحوّل جذريّ، ليس فى موقع حنين فى الحقل الثقافى المصرى فحسب، وهو الذى أصبح المحرّك الأساسى للثقافة الاعتراضية والريادية فى القاهرة، بل فى أسلوبه السجالى أيضاً. فقد ظلّت السجالات وسيلة تعريف بأهمّ الأسماء الريادية فى مجالى الفن والأدب فى مصر وفرنسا كما فى تحديد مكامن الرداءة فيهما، إلا أن موقع حنين الريادى ومسؤولياته المتزايدة، جعلت أسلوبه السجالى أكثر مرونة وأقلّ عنفاً، يتميّز بحسب عبارة رفيقه الشاعر الإيطالى جان موسكاتيلى «ثقل، ثقل رقيق، يمسّ الروح كما القلب». (6) ومع توسّع حنين فى الحقل الثقافى الفرنكوفونى والعربى وتحول أسلوبه السجالى، توسّع أيضاً مفهومه للرداءة، فبات ينظر فى أثر مواقف الكتاب السلطوية على إبداعهم الأدبي.

كان حنين لا يزال يوجّه سهامه نحو المثالية والفاشية والفكر المحافظ عامةً، إلا أن أكثر نقده حدّةً بات من حصّة أولئك الأقرب إلى دوائره السياسية والفكرية، والأكثر خطراً على السريالية: أدباء الواقعية الاشتراكية ذوو الأهواء الستالينية.

كان لجملة حنين «لا شئ عديم الجدوى مثل الواقع» صدى فى مقالاته النقدية التى تناولت رداءة الكتاب الواقعيين. لم يكن حنين يرفض الأدب الواقعى بالمبدأ، وهو الذى أقام علاقة فكرية طويلة وعميقة مع الناشر والروائى الواقعى الفرنسى هنرى كاليه، إلا أنه كان يرى أن على المسألة الجمالية أن تتصدّر الهمّ السياسى، وأنّه لا بدّ للتنازلات الجمالية أن ترسّخ الرداءة. لم يكن الواقعيون، كما كان يراهم، معنيّين بتغيير الواقع، بل ب«إدارته»، عبارة ستتكرّر مراراً فى كتابات حنين التى ينتقد فيها انحسار قيم الحرية الفردية وازدياد منطق المراقبة والتطويع الفكرى. كان الواقعيون، بالنسبة لحنين، «تجّار جملة». (7) (بالمعنيَيْن اللذين تحملهما هذه العبارة)، يبيعون ويشترون كلمتهم الحرّة لقاء امتيازات تقدّمها لهم الأحزاب اليسارية الموالية لروسيا الستالينية.

ولم يتردّد حنين، فى هذا السياق، من تسخير كلّ نقده وغضبه وسخريته للتعبير عن خيبة أمله من الأداء السياسى لكتّاب مكرّسين مثل لويس أراغون وجان بول سارتر ورومان رولان.

بدا رولان، اليسارى المناهض للحرب والحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 1915، متعاطفاً مع ستالين ويعمل على توطيد علاقة الفنانين الفرنسيين بالاتحاد السوفياتي. فلم تحمِهِ مكانته فى الحقل الأدبى الفرنسى من نقد حنين اللاذع، الذى وضع فيه ماضى رولان المشرّف أمام حاضره المتخاذل فى «Hommage aux inflexibles \ تحية للعنيدين» (1936): «بالأمس، كان لرولان كلمة يقولها، الآن لم يعد لديه، للأسف، إلا كلمة يُسكِت بها. كان سيدّ الضمير، قبل عشرين عاماً، لا بل قبل عشرة أعوام. اليوم لا يسعنا أن نراه إلا سيد الضمير الغائب.» تكمن رداءة الأداء السياسى، إذاً، فى تخلّى الكاتب عن قيم العدالة والحرية التى لطالما شكلّت وعيه السياسي. ولكن حنين خصّص نقده لرداءة من نوع خاص، رداءة الكاتب الذى يُعلى شخصه على نصه الأدبى، وهنا يحضر جان بول سارتر.

ما كان يرفضه حنين ويضعه فى خانة الرداءة هو مفهوم مسؤولية المبدع، أى بحسب باسكال رو عندما «يخضع الحقل الأدبى لسيطرة السلطة السياسية والقضائية». (8) كان الالتزام السياسى الذى وضع أسسه سارتر فى «ما الأدب؟» (1947) والذى لم يرَ فيه تناقضاً مع موالاته لروسيا الستالينية، نقيضَ كل مكونات الشعر لدى حنين، تحديداً قيماً مثل «العزلة، والحرية، وسيادة فرادة الأفراد — التخيلات والأحلام والنزوات». فى رسالة إلى كاليه، يصف حنين سارتر الذى كان قد بدأ يستقطب الحقل الثقافى العربى، ب«بقّال الوجودية الصغير، البارع فى تزويد البرجوازيين بموضوعات مثيرة واختزالات تستدعى القشعريرة». تتجلّى رداءة سارتر كما رآها حنين فى جعل نصوصه الأدبية مرآة لمواقفه التى اتضحت فى مسرحيتيه، حيث «الابتذال غير المُجدى فى التعبير ينافس المشاعر غير الصادقة». ها هى الرداءة فى الأداء السياسى المتمثلة بالتواصل مع الأنظمة السلطوية المهيمنة، وقد باتت تتجلّى رداءةً جماليةً فى النص الأدبى. ولعل أهمّ من مثّل لحنين هذا التضافر بين الرداءة السياسية والرداءة الأدبية هو الشاعر لويس أراغون.

الرصاصة من «المسافة صفر» هى الأقسى. لم يسامح جورج حنين لويس أراغون على خطيئتيه الأصليتين: الأولى انشقاقه المفاجئ عن أندريه بريتون والسرياليين الفرنسيين وتبنّيه الصادم للواقعية الاشتراكية (1930)؛ والثانية، توظيفه لرأسماله الرمزى كى يقدّم اعتذاريات ل«محاكمات موسكو» التى أسفرت عن إعدام بوخارين وغيره من المفكرين الشيوعيين (1936-1938). (9) وقد رأى حنين كيف كافأت موسكو أراغون من خلال تعيينه الناطق غير الرسمى لها فى الحقل الثقافى الفرنسى ما بعد الحرب، فازدادت آراؤه سلطويةً وفقدت حريتها: «لا يعنى رأى السيد أراغون أحداً. هذا ليس رأياً، بل بيان رسمى»، كما كتب فى «Pour que l on ne sache pas \ كى لا نعرف» (1936). فعندما لا يلتفت الكاتب إلا للسياسة ولا يهمّه إلا إعلاء المصالح الحزبية والسلطوية من أجل تحقيق مكاسب خاصة، فإنما يتحوّل أدبه إلى دعاية، كما حاجج حنين مراراً، لا سيما عندما كتب عن أراغون فى «?Qui êtes-vous, Monsieur Aragon \ مَن أنت، سيّد أراغون؟» (1945): «فى اللحظة الراهنة، لا يلفتنا أراغون لا كشاعر ولا كناشط، بل كظاهرة اجتماعية. يمثّل أراغون قمّة الخديعة المعاصرة، النصب العاطفى الكبير الذى يستولى شيئاً فشيئاً على صدق القلب واستقلالية الفكر النقدي». الكاتب الرديء هو الذى يضع مشاعره وفكره النقدى، كما قصيدته، فى خدمة الممارسات الشمولية.

كما فعل مع رومان رولان، يضع حنين الشاعر الذى كان سريالياً ذات يوم أمام مرآة نفسه كشاعر أصبح فى قمة الابتذال. يضمّ حنين إلى نصه جدولاً يضع فى مقلبه الأول شعر أراغون السريالى وفى الثانى شعره الوطنى، تحت عنوان: «أراغون ضدّ أراغون». يذكّر حنين أراغون بالحرية التى كان يتغنّى بها، هو الذى كان يحتقر جميع أشكال الوصاية، ليعود وينتقد شعره الوطنى المشروط بالقمع.

«10» أمّا جمالياً، فيلوم حنين أراغون على عودته إلى القافية، والأشكال الأدبية الكلاسيكية والصيغ الشعرية البالية، أى السقوط فى رداءة الابتذال الشعبوى. لم يتوانَ حنين عن هجاء أراغون طوال حياته، وعند كل فرصة كان يودّ أن يدلّ فيها على أثر رداءة الموقف السياسى على رداءة الإبداع.

لم يكن الأداء السياسى للكتّاب الأقرب لحنين وحده رديئاً، بل كان العالم الذى تجلّى بعد الحرب العالمية الثانية على القدر ذاته من الرداءة. تسعة أيام فقط بعد مقتلة هيروشيما، نشر حنين كتيّباً تحت عنوان « Prestige de la terreur \ هالة الرعب» (1945) لدى دار «Masses» التى كان قد أسّسها فى القاهرة. قد يكون «هالة الرعب» من أشجع وأبلغ إسهامات حنين فى إدانة انحدار نظام القيم العالمي. ينصبّ غضب حنين فى تلك الهجائية على ازدواجية المعايير الأخلاقية التى جعلت الرأى العام العالمى يتقبّل مقتل آلاف اليابانيين بعدما ما كان قد أدان المجازر التى قام بها الفاشيون فى غرنيكا وغيرها. كانت قنبلة هيروشيما، بالنسبة لحنين، دليلاً على أن الفاشية قد تسلّلت إلى أنظمة أوروبا الديموقراطية. نسفَ من سمّاهم حنين «المفجّرين الديمقراطيين» مفاهيم كالعدالة والأخوّة وتحرير الإنسان التى كانت قد ألهمته فى شبابه، والتى أصبحت فارغة.

ها هو العالم الجديد يتجلّى أمام حنين، عالماً قائماً على عبادة الشخصيات والهرمية المضلِّلة والقبض على الحقيقة وكذب الدولة والترهيب الأمنى للمواطنين المتمسكين بحسّهم النقدي. يظهر فى غضب حنين بعض السخرية التى بدأت تكشف عن مرارة ستتكثّف مع الوقت: «مار جرجس يبالغ. بات يبدو لنا كريهاً أكثر من التنين».

ولكن كيف وصل العالم إلى ذلك الدرك؟

كان منطق ال«أفضل من لا شيء» فى صلب الرداءة الفكرية والسياسية التى أدانها حنين فى كتاباته فى تلك المرحلة. رأى حنين أن التكيّف مع الوضع القائم هو المسؤول عن ترسيخ الممارسات السلطوية والشمولية التى حجّمت دور الأفراد والجماعات. توقّف حنين عند رداءة عبارة «أفضل من لا شيء» التى رآها تتكرّر بعد اتخاذ أى قرار سياسى خاطئ: الانتساب إلى الأحزاب الشيوعية الداعمة للستالينية، وتقسيم البلدان، وانتخاب قادة دون التوقف عند تاريخهم السلطوى، وتطويع الفن والأدب لصالح السياسة، حتى العلاقات الشخصية، كانت كلها تُبرَّر بعبارة «أفضل من لا شيء». رأى حنين كيف أن تلك العبارة، بما تمثّله من رداءة فى الأداء السياسى والأخلاقى والتقاعس عن تغيير الواقع، أصبحت «توظيفاً، فلسفة، وضعاً قانونياً، سيدًا، دعابة، ذريعة، صلاة، سلاحًا، عاهرة، بكاءً، قاعة انتظار، دورانًا، فن التصدق، بوصلة للمراوحة مكاننا، شاهد قبر، 8 أغسطس 1945…».

كان الأصعب بالنسبة لحنين رؤية تلك العبارة تتسلّل إلى السرياليين المتمرّدين على الواقع، لا سيما أندريه بريتون الذى استخدم العبارة ذاتها لتبرير ركاكة مواقف السرياليين كما إنتاجهم الإبداعى فى نهاية الأربعينيات. كان تفوُّه بريتون بتلك العبارة أمام حنين كفيلاً بجعل الأخير يحتجّ ثم يبتعد عن السريالية الأوروبية. فقد بدا عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية لجورج حنين وكأنّه فقدَ معاييره الأخلاقية، وباتت تحدّد معالمه رداءةٌ تكثّف فيها العنف.

فى بداية مشواره مع الكتابة، كان حنين رديفاً للمشهد الثقافى فى القاهرة، وكان الثائر عليه معاً. أمّا فى نهاية الأربعينيات، فكان حنين لا يزال فى المشهد، إلا أن المشهد نفسه بدأ ينزلق نحو الرداءة.\

 

مُراقب الرداءة

أنا؟ أنا منشد الصمت المتجوّل، الذى يعلى أنين البشر، شاعر القحط الكبير، شاعر التورية عديمة الجدوى، الذى لم يعد واضحاً إلامَ يشير.

جورج حنين، «L›esprit frappeur 

الشبح الطارق» (1980)

غالباً ما يقال إنّ جمهورية يوليو هى التى وضعت حدّاً لمسيرة جورج حنين. إلا أنّه فى نهاية الأربعينيات، أى قبل اعتلاء الضباط الأحرار الحكم بسنوات، كان حنين قد وصل إلى خواتيم مشروعه السياسى والإبداعى معاً. عام 1948، أدان حنين تروتسكيّى الأممية الرابعة، وواصل انتقاده اللاذع للستالينية، وانسحب من التنظيمات اليسارية المصرية. إلا أن ذلك لم يعنِ انتقاله إلى الضفّة القوميّة، بصيغتها المصرية أو العربية، بل بقى خارجاً عنها ومنتقداً لمنطقها الإقصائى حتى النهاية. فنّياً وفكرياً، انسحب حنين من تجمُّع السرياليين الفرنسيين بقيادة بريتون، فأصبح مشروعه السريالى محصوراً فى القاهرة التى بدأ يصعد فيها تيار فنى وفكرى وأدبى على النقيض الكامل لمشروع حنين وفى صلب تصوّره للرداءة الأدبية: الأدب القومى والواقعى.

لكنّ انحسار مشروع حنين الفكرى والسياسى لم يقده إلى الصمت التام، أقلّه ليس بعد. عام 1950، بعدما كان حنين قد حقّق مكانة كبيرة فى الدوائر الفرانكوفونية، قامت السفارة الفرنسية فى القاهرة بتكريمه، بالرغم من التردّد والامتعاض اللذين عبّر عنهما فى رسائله الخاصّة. فى السنوات الأولى بعد مصر الثورية، كان لا يزال ينشر فى منشورات «La part de sable» ومقالات نقدية فى «La bourse egyptienne» وغيرها من المجلات الفرنكوفونية المتبقية فى القاهرة. ظلّ يكتب عن الشعر وقدامى السرياليين، ويسلّط الضوء على مجايلين له مثل ألبير قصيرى وايف بونفوا (11)، وعلى مواهب شعرية جديدة، وينظّر عن علاقة الشرق والغرب، محاولاً قدر المستطاع الجمع بين الفنانين والمفكرين الفرنكوفونيين المصريين فى معارض وندوات.

كان حنين ينشر بين القاهرة وباريس، إلا أن مقالاته لم تعد سجالية، ولم تعد معنية بالتعريف عن الرداءة وإدانتها. لم يعد هجاؤه للرداءة قادراً على التأديب والحشد، ربما لأن جمهور حنين الفرنكوفونى فقد امتيازاته داخل المجتمع المصرى، أو لأن دور حنين نفسه فى الحقل الثقافى المصرى قد انحسر. تقلّص عالم حنين حتى بات محصوراً بالمشاركة بتنظيم فعاليات ل«الصداقات الفرنسية» تحت إشراف السفارة الفرنسية فى القاهرة، من دون أن يكون فى تلك النشاطات أى ملامح لمشروع فكرى أو سياسى.

بعد سنوات من ريادة الحقل الثقافى المصرى، لا سيّما الفرانكوفونى واليسارى والسريالى، صار حنين يكتب عن الرداءة من موقع المراقب، عن عالم لم يعد له مكان فيه، بلغة فرنسية لم يقلّ عدد قرائها المصريين فحسب، بل ازدادت الشبهات حول ولاءاتهم السياسية. كتب حنين لصديقته الكاتبة الشيوعية الفرنسية دومينيك ديسانتي: «أشعر بأنى عميل مزدوج فى كل ثقافة». (12) فى السنوات القليلة التى سبقت اعتلاء عبد الناصر الحكم، إذن، بدأ حنين رحلته مع المنفى الداخلى.

بعد العدوان الثلاثى على مصر وبداية التضييق على اليساريين والدوائر غير العربية فى القاهرة، ازداد شعور حنين بالعزلة. فى رسالة لهنرى كاليه، يكتب حنين كيف أنه بات يرى «أنّ العنصرية، والوشاية، والكذب، والأمية الإيديولوجية، والاستبداد الثقافى، تشكّل — فى هذا الجزء من الشرق الذى أعرفه — أسس المواطنة الجديدة التى تنسب لنفسها إما المثالية وإمّا الرعاية الإشتراكية». عام 1960، ومع ازدياد التضييق على الناشطين والمفكرين اليساريين فى مصر، استشعر حنين تهديداً مباشراً على شخصه وفهم أن وقت الرحيل قد حان. تحوّل منفى حنين الداخلى الذى كان قد بدأ فى نهاية الأربعينيات، إلى منفى خارجى فى أوروبا.

لم يعُد نقد حنين للرداءة فى صلب مشروعه الفكرى فى المنفى حيث أعاد اختراع نفسه كصحافى. بقى حنين ينشر شعراً سريالياً فى مجلات أدبية، إلا أنّه عمل محرّراً فى روما فى مجلة «Jeune Afrique» ذات البعد العالمثالثى، وكتب فيها عن الأدب، وراجع فيها أعمالاً معاصرة لقرّاء فرانكوفونيين غير متخصّصين، وعلّق على الثقافة الشعبية العالمية وقضايا سياسية راهنة، ونشر مقالات مبعثرة عن الماركسية. إلا أن حنين لم ينسَ أندريه بريتون الذى، وإن كان قد ابتعد عنه قبل سنوات، عاد ونعاه فى مقال يثمّن فيه حرية مُلهمه السريالي: «بريتون المناهض للاستبداد حتى النهاية: رحيل قائد» (1966). كانت «Jeune Afrique» وظيفة جيدة لمن كان قد خسر كل شيء فى القاهرة، إلا أنها لم تقدّم له مشروعاً، أو بالأحرى، لم يعد لحنين آنذاك مشروع فكرى يدافع عنه فى المجلة مستخدماً عدته المعهودة من هجاء الرداءة والدفاع عن قيم الجماعة الأدبية التى ينتمى إليها. مكان الغضب على الرداءة، حلّت المرارة والسخرية من الذات، متمثّلتين فى نصوص خاصة ستنشر بعد وفاته: «جون أفريك تُؤكِلنى وتأكُلنى. حصلت على الترقية ولكن دمى جفّ من الملل». (13)

سيخفت صوت حنين أكثر فأكثر، ويخفت معه غضبه على الرداءة. انتقل حنين إلى باريس ليعمل فى «L›express»، حيث سيواصل الكتابة عن الكتّاب الذين أحبّ: هنرى ميشو وأندريه بريتون وأندريه مالرو، بالإضافة إلى مواضيع سياسية أخرى من دون التطرّق المباشر إلى السياسة أو الأدب فى العالم العربى. (14) يبدو ذلك مستغرباً، لا سيما بعد الصدمة التى تعرّض لها الحقل الثقافى العربى بعد حرب 1967. بالرغم من صمته تجاه تلك الأحداث المفصلية، عمل حنين على نشر Petite encyclopédie politique \ معجم السياسة الصغير» (1969) حول مصطلحات سياسية منها الديمقراطية، والحرية، واليوتوبيا، والتخريب، بأسلوب ونبرة لا يذكّران إلا من بعيد بجورج حنين الثلاثينيات والأربعينيات.

فى سنواته الأخيرة فى فرنسا، يكتب جورج حنين فى نصوص ستنشر لاحقاً كيف أنه أصبح عالقاً بين واقعين: لم يعد لديه الطاقة على إضفاء معنى للعالم، إلا إنه تعب من العيش فى عالم اللامعنى: «أصبحنا رهائن رديئين لقضية لم يعد لها اسم». فمقالاته لم تعد تساهم فى سجالات الساعة أو تنصبّ على هجاء الرداءة، بل قلّت حدتها وتكثّف تجريدها ومرارتها من دون أن تؤدّى دورها السابق فى التأديب والحشد لقِيَم لعلّ حنين نفسه لم يعد متمسكاً بها كما كان فى الماضى.

فى السنوات السابقة لثورة يوليو، كان جورج حنين لا يزال فاعلاً فى المشهد الثقافى وإن كان المشهد بدأ يثور عليه، إلا أنه فى العقد الأخير من عمره، لم يعد جورج حنين فى المشهد، ولأنه أصبح خارجه، لم يعد لديه مشروع فكرى يحدّد قيمه من خلال هجائه للرداءة. بعد وفاة مَن كان يقود الحقل الثقافى المصرى فى الأربعينيات، عثر فى مذكراته على جملة واحدة يصف فيها تلك المرحلة: «أعمل فى الإكسبرس. من الضرورى أن تأخذ الاصانصير وحدك». (15)

نقد الرداءة منهجاً تخريبيّاً

النفى يحيى من جديد.

جورج حنين، «Il n›y a personne à sauver \

لا أحد يستدعى الخلاص» (1956)

لا يتجزّأ نقد حنين للرداءة عن مفهومه للشعر والأدب والفن. كان نقد الرداءة فى صلب تصوّره لمهمة الكاتب التخريبية. كتب حنين فى قصائده، كما فى مقالاته ومراجعاته لأعمال المبدعين الذى آمن بمشروعهم، عن أهمية التخريب فى الممارسة الفنية والشعرية، منهجاً ونظاماً قيمياً معاً أو كما يقول بكلماته: «الأخلاقيات الوحيدة القابلة للتحقيق هى الأخلاقيات الاعتراضية». يتحدّث حنين عن الأخلاقيات الاعتراضية، كما يمكننا قراءتها فى نقده للرداءة، كممارسة منتجة فى العنف، تؤمن بحرية الإبداع المطلقة وتغوص فى عمق اللاوعى بسبيل الكشف عن أثر الأيديولوجيا فى الثقافة. التخريب هو نقيض الرداءة، إذاً، ولعلّ هذا مكمن المعاصرة فى فكر حنين كما فى هجائياته.

…………………………………

-1الإقتباسات ترجمتها الكاتبة من الأعمال الكاملة لجورج حنين ومن المراجع الفرنسية الأخرى. Henein, Georges, and Pierre Vilar. Oeuvres : Henein Georges. Paris: Denoël, 2005.

2- Roux, Pascale. Georges Henein: Écritures polémiques. Université de la Sorbonne- Paris III, 2009: 226. أطروحة باسكال رو مرجعية في تحليلها البنيوي لسجالات حنين وللحقل الثقافي الفرانكفوني آنذاك

3-Roux: 152.

4- Oeuvres : Henein Georges: 1005.

5 كتب حنين لكاليه طوال حياته ونشرت رسائله في: Henein, Georges, and Henri Calet. Lettres Georges Henein – Henri Calet. Paris: Association Henri Calet, 1981. كما قام حنين بمراجعة أعمال كاليه عام ودافع عنه عندما تعرّضت روايته Le Mérinos للهجوم.

6- Bornier, Evelyne M., Georges Henein, Poete Des Marges.» (1999). LSU Historical Dissertations and

7- Henein, Georges, “L’apport Albert Cossery,” Oeuvres : Henein Georges: 576.

8- Roux: 200.

9 راجعوا مقالة حنين «Le procès de Moscou—Lumière sur un crime officiel \ محاكمات موسكو—إضاءة على جريمة رسمية» (1936).

10 راجعوا مقالة حنين التي يتحدّث فيها عن نفوره من الوطنية في «A propos de la patrie \ عن الوطن» (1935).

11راجعوا مقالة حنين “L’apport Albert Cossery \ إسهام ألبير قصيري (1956) و De Beaudelaire à Bonnefoy / من بودلير إلى بونفوا (1958)

12- Bornier: 80.

13- Bounoure, Gilles, “On ne se soulève que pour la vie: parcours et actualité de Georges Henein, Contretemps, numéro 11, septembre 2011: 183.

14سخر حنين من الممارسات السلطوية في مقالات متل «?Aimez-vous Baas \ أتحبّون البعث؟» (1966) وقصة «نزهة المستبدّ الفلسفية \ La promenade philosophique du dictateur

15- Idem.

16- “Petite encyclopédie politique,” Oeuvres : Henein Georges: 912.

مقالات من نفس القسم