الـعـرس

محمد بنميلود
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد بنميلود

أرادت أمي أن تأخذني معها رغما عني إلى العرس. فضلت أن تتركني عند جارتنا -خالتي رُقَيَّة الزمورية- لألعب مع ابنتها أمينة في السطح لعبة مريضة وطبيب. لكن أمي أصرت على أخذي معها بالقوة، فقررت أن أبكي وأتمرغ في الأرض..

ارتدت أمي”تَكْشِيطَةً” خضراء مخططة بالأصفر، حزمت خصرها “بِمْضَمَّةٍ” تشبه مضمة ذهبية، وزينت وجهها بسرعة حتى بدا كأنه ملطخ، ثم أعادت الكحل والسواك والمرآة إلى الصندوق وأغلقته جيدا بالمفتاح، وخبأت المفتاح عميقا داخل صدرها.

كان شخير أختي الصلعاء المزعج، والمصطنع، المصحوب بأنّات متقطعة لإثارة انتباهنا، قد بدأ يعلو شيئا فشيئا، فمنذ البارحة وهي تمثل أمامنا أنها مريضة للغاية. لتشتري لها أمي -هي الأخرى- تكشيطة خضراء مخططة، ومضمة من الذهب المزور، وحقيبة من البلاستيك لتضع فيها دميتها العارية وأغراضها للزينة: قنينة العطر الفارغة، وقطعة الزجاج التي تقول عنها إنها مرآة.

تذمرت أمي وقالت وهي ما زالت تلوك قطعة السواك في فمها كأنها علكة: أوووف، لقد تأخرت عمتك نعيمة كثيرا! إن لم تأت الآن بالضبط سنذهب نحن قُدَّامَهَا ونتركها تتبعنا بمفردها، فهي ليست صغيرة لتضلّ الطريق، أو لتأكلها الغولة.

في حقيقة الأمر لم تتأخر عمتي نعيمة كثيرا ولا قليلا، كان الصباح ما يزال باكرا ورطبا، حتى أن عصافير الدوري ما زالت تضج وتتعارك دون حذر في فراغ الزقاق، لكن أمي تظن دائما أن الناس تأخروا عنوة، وتركوها تنتظرهم طويلا لسبب غامض تجهله.

في العرس، لعبت مع طفل اسمه كمال. أردت أن أسرق منه قطعة الخبز المليئة باللحم والمرق وأهرب، أردت على الأقل أن يقتسمها معي بالتساوي، لكنه خبأها جيدا تحت سترته الصوفية السميكة المشغولة يدويا بسفافد أمه، وتظاهر أمامي أنه لا يملك أي قطعة خبز مليئة باللحم ومرق البرقوق. بل أكثر من ذلك أخذ يتفاخر أمامي أن لديهم في البيت كلبا كبيرا جدا اسمه روكي، فإن سبّه أحدهم أو لكمه على أنفه أو سرق منه شيئا وهرب، فسيتبعه ذلك الكلب أينما ذهب بسرعة البرق ويعضه بشراسة في عجيزته، وأنه أراد في الحقيقة أن يحضره معه هنا إلى هذا العرس بالضبط، لولا أن أمه رفضت ذلك. تركته يمضي والمرق يقطر من سترته المثقوبة من المرفقين، ومسحت المكان كله بحذر شديد بنظرات جانبية، لأتأكد أنه خال من أية كلاب.

كانت امرأة بدينة ترقص بجدية على إيقاع صاخب ورتيب، رافعة يديها إلى أعلى كأن شرطيا سيفتشها، بينما تعزف امرأة سوداء على “الدَّعْدُوعْ” وتغني بصوت أجشّ، والنسوة الأخريات يعزفن على الدفوف أو”التَّعْرِيجَةْ” أوبالكؤوس على صينية، أو يعزفن فقط بأياديهن المحْمَرَّة إلى حد السواد بالحناء، ويرددن في نشاز لذيذ لازمة قصيرة تصف ألم فراق العروس المسكينة لأهلها الذين ألفوها.

نهضت ورقصت قليلا إلى أن نهرتني عجوز بعكازها لأذهب وأرقص مع الرجال في غرفة أخرى ليس فيها سوى الطُّلبَةْ.

ذهبت إلى ركن بعيد نسبيا كمنفيّ وجلست متكئا على الحائط، ثم بدأت أتسلى مدة طويلة فقط بدفع رجلي إلى الأمام وسحبها، أدفعها ببطء شديد وأسحبها بسرعة، ثم أدفعها بسرعة وأسحبها ببطء شديد، ثم أغير قانون اللعبة دون أن أستشير نفسي فأدفعها بسرعة وأسحبها بسرعة. تسليت أيضا بمحاولة الإمساك بذبابة حامت قليلا حول وجهي قبل أن تحط لحظة قصيرة فوق أنفي، لكنها فطنت لنيتي حين سَدَّدْتُ يدي في اتجاهها برعونة، فطارت بعيدا ولم ترجع لتحط مرة أخرى فوق أنفي أو لتدخل في عيني أو في أذني.

جاءت أختي وجلست إلى جانبي. تجاهلتها في البداية. لكنها اقتربت مني أكثر وبدأت تنظر إليّ نظرات تحدٍّ لم أفهمها. وقفت على يديها ورجليها متخذة وضع جَدْيَةٍ متحفزة. ثم بدأت تتراجع إلى الخلف وتتقدم بسرعة لتنطح صدري برأسها، فأقول أنا: آااايْ.. ممثلا أنها آلمتني كثيرا. فتضحك ضحكات قصيرة. ثم تترقب قليلا، لتنطحني ثانية، وتضحك ضحكات مجنونة هذه المرة. ثم تسقط على الأرض من الضحك وريقها يسيل، وتنهض فجأة لتتراجع إلى الخلف، وتهجم سريعا لتنطحني الآن لكن بقوة أكبر. ثم تضحك من جديد وتحبس ضحكها ولعابها بيدها. حتى مَلّتْ من الضحك ومن نطح صدري برأسها الممشوط بضفيرتين كقرنين زائفين. أمسكَتْ يدي وأخذت تلعب بأصابعي بحنان، فاستكنت أنا إلى هذه اللعبة الغريبة الدافئة وأنا أتأمل النسوة ينهضن للرقص الواحدة تلو الأخرى وسط إيقاع ثابت، وأشم رائحة عطورهن ممزوجة برائحة “الكافور” ورائحة مرق اللحم بالبرقوق اللذيذة الآتية من المطبخ، فأخذ النوم يغازلني قليلا فقليلا.

حتى شعرت بعضّة مفاجئة كادت تقطع إصبعي، صرخت بأعلى صوتي ووقفت مذعورا لأتبع أختي التي هربت بسرعة وهي تضحك وتتعثر، لكنها اختبأت لي جيدا وسط النسوة فلم أمسكها، وعكازة العجوز تحول بيني وبينها، فقررت عابسا أن لا أثق في أحد في هذا العرس كله.

بل ذهبت لأجلس في حضن أمي، وأنتظر كقطّ أن يحضروا العشاء والليمونادة..

مقالات من نفس القسم