مبارك السعداني
« بعيني، اللتين سيلتهمهما دود الأرض، رأيت غرابا يواري جثة أخيه النافق عند ضفة الوادي أسفل الجبل… »
قالت الجدة وهي تحدث حفيدها عن والده (الذي تصرُّ أنه مات مسموما) في حضور زوجها، وابنتهما الوحيدة المنشغلة بسعف النخيل تصنع منه أطباقا ومشغولات أخرى… تبدو غير مطمئنة لما تحكيه والدتها لابنها من أخبار عن أبيه جمعتها بناء على احتمالات وتلفيقات من مصادر معادية. وجهة نظرها مغايرة، على الأقل، تحفر في اتجاه بعيدٍ عن التطرف، هي من عاشت الأحداث وعايشتها عن كثب. وغالبا ما تتدخل بصرامة، غير معهودة، وبمباركة من أبيها المتضايق، لتضع حدا لاسترسال والدتها في تحريض ابنها ضد أهل والده، وتقول مُتَبرِّمة :
-الله يهديك، الطفل ما زال صغيرا، لا يفهم كلامك، ومَنْ (تسودين قلبه عليه) هو شقيق والده، ومن المستبعد أن يسيئ إلى دمه.
رجعت (الجدة) إلى نفسها، بعدما أخذها الحماس لإذكاء جذوة من نار تتلظى في دواخلها منذ خمس سنوات خلت، في حفيدها، لعله يخمد نارا اضطرم أوارها لأول مرة بين ذرى الأطلس، وحملت فتاة قبسها بين ضلوعها. لم تستطع أربعة عقود ونيف قضتها بين أسوار المدينة، أن تنسيها حرقة أحداث عاشت تفاصيلها، مع أم لاحول ولا قوة لها، إلا رحمة أحاطت بحماها أبناءها الخمسة، حماية لهم من أبناء عمومة ران الطمع على قلوبهم، وأعمت غشاوة الحقد عيونهم…
في الحقيقة، حكاية الغراب لم أعشها عيانا، ربما سمعتها من أمي في إحدى الأماسي الباردة، في قريتنا الجاثمة بين قمم جبال الأطلس الكبير، وهي تحكي لنا حكاياتها عن رجل قوي العزيمة، قال “لا” لغطرسة أبناء عمومته، فوضعوا حدا لحياته غدرا… كنا نحن – بناتها وابنيها- الشيء الوحيد الذي بقي لها من رائحة زوج تحدى كبراء الأسرة وحماة أعرافها وتقاليدها، ووضع يده في يد كبير أسرة مناوئة، استجابة لنداء قلبه. كل أهل القرية يعلمون حيف (الأعور)، وتنكيله بنا. هو مجرم قاتل، لكن لا أحد كان يجرؤ على الوقوف في وجهه، أو مخالفة أوامره.
ولربما سمعتُ حكاية الغراب من أبي وهو يدثرني، أنا صغيرته الأثيرة ، بجناح (سلهامه) الدافئ، حينما كان يحكي لنا، عن غولة تسكن في بيت من بيوت القرية، يعرفه الكبار ويجهله الصغار، تظهر بالليل والناس نيام، تخطف رجلا لا يخيفه ظلام الليل. تذهب به إلى أعلى قمة في الجبل، هنالك تمتص دمه وتترك جثته في العراء نهبا للضواري…
وقد أكون سمعت خبر الغراب من الفقيه عمّار زوجي. كان كل ليلة يحملني على صهوة حصان أبيض، يجوب بي عوالم مدهشة أبطالها أنبياء وصُلاّح وفرسان يحاربون الأشرار. خرج ذات فجر إلى المسجد القريب من بيتنا… انتظرته، ولكنه لم يعد. قضيت أياما وأنا أبحث عنه. لم أعثر له على أثر. بعد مرور أيام، تصاعدت من بئر ميضأة المسجد، حيث كان يؤم الناس، رائحة كريهة. بعد جهد جهيد، أُخْرِجَتْ من البئر جثة متورمة، دلت ملابسها على أنها تعود إلى الفقيه. آنذاك بدأ المصلون، وهم ثلة من الشيوخ، يربطون بين أحداث ذلك الفجر؛ لما هموا بالخروج من المسجد، رأوا ثلاثة رجال غرباء، في عجلة من أمرهم، يسألون عن الميضأة، ينوون أداء صلاة الصبح قبل انصرام وقتها الضروري، بعدما تعذر عليهم حضورها مع الجماعة. شوهد الفقيه وهو يتقدمهم إلى الميضأة…
دفن الفقيه، وترك في أحشاء زوجته علقة ما فتئت تنمو. تعددت أقوال الناس، فمنهم من جزم بأن الغرباء ليسوا سوى رجال تابعين للسلطة الاستعمارية، أدبوا الفقيه على لسانه الذي لا يتوانى عن شتم الاستعمار وأعوانه الخونة. ومنهم من قال غير ذلك…
ومع تعدد الاحتمالات، يبقى للحقيقة وجه مرجح جدا، يضيق به صدر، متيقن من أن الروح (عزيزة عند الله)، وسَيُعْلَمُ، طال الزمن أو قصر، أن ثلاثة رجال، غسلا لعارهم، وفدوا إلى المدينة من قرية بعيدة ، كان الفقيه ” مشارطا” فيها؛ يَؤُمُّ الناس في الصلاة، ويعلم الصبيان القرآن، وفي حجرة تابعة للمسجد يستقبل النساء اللواتي يعانين من الأرياح والعين والعقم وأمراض أخرى. وذات صُبْحٍ استبطأ المصلون إمامهم، تفقدوا مطرحه، فما عثروا له على أثر. واختلفت بعدها الأقوال حول سبب اختفائه. روى شيخ ضرير أنه سمع في الهزيع الأخير من الليل حركة قرب المسجد، ووشوشة صوتين تبين منهما صوت الفقيه، وآخر لا عهد له به. وتتبع وقع الخطوات وهي تبتعد باتجاه مخرج القرية… بعدها صار خبر الفقيه في القرية سرا من الأسرار تتداوله الشفاه والآذان. وقد بيت رجال أشداء من أسرة ذات شوكة أن يعثروا على الفقيه، بأي ثمن، ولو كان في الربع الخالي. لم يَطُل انتظارهم، إذ اكتوى الفقيه بنار الخيانة والغدّر…
بعدما خلا له الجو، انتظر ابن خال الفقيه، وهو مكمن أسراره والعارف بأحواله، بفارغ الصبر اكتمال شهور عدة أرملة ابن عمته، والتي لم تنته إلا بوضعها لمولودة أصبح لها أبا، لم تعرف سواه، بعد أن عقد على أمها.
………………….
*كاتب وقاص من المغرب