العصر الأموي والعباسي والواقعية السحرية

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 17
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. نعيمة عبد الجواد

مجرد ذكر مصطلحي “العصر الأموي” و”العصر العباسي” يتداعى لذهن القارئ سلسلة لا متناهية من الإنجازات والإخفاقات والفتوحات والهزائم. وفي خضم كل هذا، يلح على الأذهان أسماء شخصيات لم يستطع التاريخ بعنفه وقسوته أن يطمس صفحاتها الزاهرة؛ نظرًا لما أسدته من تقدم مذهل في العلوم والفنون والآداب، ولا يزال تأثيرهم واضح حتى يومنا هذا، ولا يزال أيضًا العلماء والأدباء والمفكرون يدينون لهم بكل الفضل.

وبنظرة ولو خاطفة لهاتين الحقبتين الزاهرتين، يلاحظ أنهما أشبه بدفعة من الخيال الذي قرر أن يهبط من ممالك العدمية والهلوسة إلى أرض الواقع ليحقق ما لا يستطيع العقل استيعاب حدوثه في فترة زمنية يمكن اعتبارها – بالقياس التاريخي – وجيزة وملغزة بالنسبة لظروف تشأتهما. وبالتمعُّن بعين فنّية فيما حدث في هذين العصرين، يلاحظ أنه من الواجب نزعهما من الأطر التاريخية الجامدة، ونقلهما إلى واقع سحري الخيال جنباته وأرض الواقع كيانه.

ولذا، بجدر تفسير العصرين الأموي والعباسي على أساس أسلوب الواقعية السحرية Magical Realism الذي يضفي ملامح سحرية إلى تفاصيل حياة واقعية؛ تمامًا كما يحدث في قصة “علاء الدين والمصباح السحري”. والواقعية السحرية يمكن تعريفها ببساطة أنها ضرب من الأساليب الفنية والأدبية التي ترسم رؤية واقعية للعالم الذي يحيا فيه بشر مألوفين، لكنها في نفس الوقت تضفي عناصر سحرية لهذا الواقع، والتي من شأنها طمس جميع الخطوط التي تفصل بين الواقع والخيال. ولقد تلقَّفت الأعمال الأدبية والعروض الواقعية ذلك الأسلوب حتى تضفي حياة وأبعاد جديدة للعمل الفني. والأعمال الفنية و الأدبية التي تعتنق الواقعية السحرية أسلوبًا لا يجب تصنيفها على أساس أنها أعمال “فانتازيًا”؛ لأنها تقدّم أعمالًا تهتم بإبراز قدر كبير من التفاصيل الواقعية لكنها تضفي عليها عناصر سحرية لإثبات وجهة نظر معينة حول الواقع. وعلى النقيض، فالأعمال الفنتازية تهتم بفصل القصص الخيالية عن الواقع. وعلى هذا، يجب اعتبار الواقعية السحرية عملية لدمج عناصر وتفاصيل واقعية، وأخرى خيالية لانتاج لونًا كتابيًا يحتوي على أفكار ومضامين أكثر شمولية تفوق كل من الواقع والخيال.

ويجب الأخذ في الاعتبار أن ذاك الأسلوب الأدبي هو بالأساس وصفي وليس نقدي قواعده يجب تطبيقها بشكل صارم. وطبقًا لتعريف “ماثيو ستريتشر” Matthew Stretcher  (1999)، فإن الواقعية السحرية هي “ما يحدث عند غزو بيئة شديدة التفصيل والواقعية بشيء شديد الغرابة لا يمكن تصديقه.” ولهذا، فإن المعاملات الناجمة من تفاعل شيء عادي بآخر غير عادي يجعل منها مرآة لواقع يكون فيه الخيال جزء أصيل من الحياة اليومية. وتمزج غالبًا الواقعية السحرية التاريخ بالخيال؛ حيثما تجد التفاصيل وكذلك الأحداث التي تبدو وكأنها خيالية عند التدقيق فيها مرة أخرى.

وسجل ذاك الأسلوب الأدبي أول ظهور له عام 1925- وكان يسمى حينها بالواقع السحري Magic Realism – من خلال الناقد الفني الألماني “فرانتز روه” Franz Roh في كتابه “بعد التعبيرية الواقعية السحرية”، والتي كان يصف فيه “اللون الجديد من الموضوعية”؛ وهو أسلوب في الرسم كان شائعًا حينذاك في ألمانيا، والذي ظهر كتيار بديل للرومانسية التعبيرية. وغرض “فرانتز روه” من استخدام مصطلح “الواقع السحري” هو التوكيد على أنه قد يظهر في عالم الواقع أشياء سحرية وفانتازية وغريبة بالرغم من كونها معتادة إن أمعن الشخص في النظر إليها؛ أي أن الواقع ذاته يحدث فيه أشياء غريبة لا يصدقها عقل واعي ولاكتشاف ذلك يجب التمعن فقط في حقيقة الأشياء.

ولعل من أبرز الأحداث التي جعلت من الدولة الأموية واقعًا سحريًا قيامها على أنقاض الخلافة الراشدة وانفتاحها على دول أخرى مجاورة. ولم يمر وقت طويل حتى أصبحت الدولة الأموبة لا تماري فقط تقدم وحضارة تلك الدول، بل تتفوَّق عليها. وبمجاورة نشأة الدولة الأموية بإنجازها الثقافي والحضاري الذي تم بناءه في وقت شديد الإيجاز، يلاحظ أن ما حدث هو ضربًا من ضروب السحر الذي مسَّ أرباب بيئة صحراوية قفر وجعل منهم سادة يتوافر لديهم السلطان والهيبة، وعلى رأس أولوياتهم كان التقدم العلمي والازدهار الثقافي والحضاري، وكأن الجني خادم مصباح علاء الدين قد حقق كل هذا تحت رغبة من يملك المصباح.

أمَّا الدولة العبَّاسية في عصورها الثلاث فهي واقع سحري بكل المقاييس؛ فانتزاعها السلطة من الأمويين وطريقة إرساء قواعد دولتها على أسس متينة تخالف أي تعاليم وتوقَّعات، فرض هيبتها على الجميع. وبحد السيف، تم قمع الاحتجاجات والراغبين في زعزعة أركان الدولة. وأمَّا المتمردين، فتم التمثيل بهم وجعلهم عبرة حتى لا يقوى أحدهم على الخروج على الحاكم ووضع بذور القلاقل. وبناء على ذلك، ظهر “العباس” وكأنه مزيج عصري لكل من الزعيم النازي “أدولف هتلر” والزعيم الشيوعي “جوزيف ستالين”، وكأن واقعه قد قفز من الماضي وانفتح على أدوات الحكم في العصر الحديث. وكما كان الوضع بالنسبة ل”أدولف هتلر”، فلقد اهتم العباسيون على مدار عصورهم بالآلة الإعلامية، وعرفوا أهميتها في بناء دولة ثابتة الأركان، واستخدموها في شحذ همم الشعب، وترهيبهم عندما يقتضي الأمر، وخاصة عندما تحتد النزعات الشعبوية.

وأسرع آلة إعلامية في ذاك العصر كانت الشعر؛ لكونه الأكثر تأثيرًا وقربًا من مزاج الشعوب المختلفة الأجناس والأعراق بداخل الدولة العباسية. ولهذا السبب، تصدَّر الشعراء المشهد الأدبي والسياسي، وكانت لهم حظوة كبرى لدى الحكَّام، وكان يتسارع أبناء الشعب في تعلُّم الشعر وإتقانه لعله يصير لهم طوق النجاة من الفقر ووسيلة ناجعة للشهرة.

وبوضع الشعراء والأدباء في إطار إعلامي حديث، يلاحظ أن توظيفهم بهذا الشكل يضاهي ما فعله “أدولف هتلر” عندما قام بتوظيف السياسي المحنَّك “يوزيف جوبلز” Joseph Geobbels  مستشارًا إعلاميًا له، والذي بالفعل نجح في تقريب طوائف الشعب من “هتلر” وزيَّن اتباعهم لخطاه، بل وأيضًا نجح في إرهاب الدول الغربية التي يقوم بغزوها، ونشر ما يرغب من أفكار من شأنها أن تجعل ميزان الحرب يميل لصالحه. وبالقفز زمنيًا بدور الشعراء في العصر العباسي لتقريب فكرهم للأجيال المعاصرة يمكن ملاحظة أن الشعر والشعراء كانوا بمثابة اللجان الإلكترونية في عصرنا المرقمن.

قراءة العصر الأموي والعباسي في إطار تاريخي جامد هو قولبة مجحفة قد تفضي إلى الزهد في تقصّي أخبار أعلام ذاك الزمان؛ فهذان العصران كانا بمثابة واقعًا سحريًا له القدرة على التنقل عبر الأزمنة بحريَّة بالغة لنشر أفكار وعلوم لا تزال مرجعًا هامًا لا يمكن إغفاله أو حتى طمسه.

مقالات من نفس القسم