يفتتح صبحي روايته باقتباس لدكتور. سيد عويس من كتابه الخلود في التراث الثقافي، ملخصه أن الظل عند المصري القديم يعني روحه وهو معنى أعتقد أنه بقى متسللا لثقافتنا الشعبية وإلا فما سبب الحذر المبالغ فيه أحيانا من أن يتعمد أحدهم ٱن يدوس على ظلك.
إلا أنني أعتقد أن ظلال صبحي شحاتة لم تقف عند ذلك المعنى والتأويل بل عنت ربما عوالم اللاوعي والخافية، الساترة والكاشفة والمحرضة.
اعتقد فرويد أن خافية الإنسان هي أدنى منه، تحمل رغباته الحيوانية الدنيا والتي قد تتسلل لأحلامه.
إلا أن يونج خالفه في ذلك المعتقد، يونج رأى في الخافية ثراء، رأى مخزون الإنسان من المعتقدات والثقافات والعلوم والفنون والآداب والأساطير، مخزون ترثه أجيال وتورثه، وهو فيض هائل يحدد جل الخيارات دون أن ندري.
فكيف كانت ظلال صبحي شحاتة؟
أعتقد أنها كانت خليطا من كل هذه الصور، مليئة بالتناقضات تماما كالبشر.
يبدأ صبحي شحاتة بسيد الظلال، وهو رجل لا يمل اللعب، نكتشف في ختام الرواية أنه صبحي شحاتة نفسه وذلك عندما يسرد علينا جزء من أعماله ليتبين لنا أن منها روايات صبحي السابقة وتلك التي ما تزال قيد الكتابة أو الطبع.
أعتقد أن صبحي هو من ذلك النوع من الكتاب الذي يهوى الحضور في أعماله ويتعامل مع العمل كرحلة، يتركها لتفاجئه ولتكتبه كما يكتبها.
فهكذا جعل من نفسه رجلا قد مل تبعية ظله له، يحمله ويلقي به بعيدا ويكرر ذلك، يلهو كذلك بظلال الآخرين، في نهاية العمل وفي الاجتماع الذي عقد بمدينة الظلال يصرح السيد أنه كان يفعل ذلك ليعلم ظله معنى الحرية وليجعله غير تابع له، وهو تصريح أعتقد أنه كان فقط لاسترضاء الظلال، فالسيد يلهو ولا مانع أن يكون مع اللهو بعض المعرفة، فكثير من التعلم يأتي من اللهو.
ظل السيد أو سيد الظلال بحسب الرواية قد قرر في لحظة جنون أن يشيد مدينة الظلال وفي سبيل ذلك سرقوا الكثير من الظلال كي يهبوهم الحرية إلا أن معظم الظلال رفضت وبعضهم حاول التشبث بالبشري صاحبه.
إلا أن البشر على الأغلب لا يهتمون بالظلال ولا يلاحظون حضورها أو غيابها أو نهوض البعض والمشي بينهم منتصبون، وكأنهم لا يدركون أرواحهم أو دواخلهم ولا يأبهون لصحبة خفاياهم.
الظلال أنشئوا نظاما اجتماعيا يشبه نظام البشر وجل الظلال تشبه أصحابها فقط ظلا واحدا، ظل (علي) تمرد على أفكاره واعتبره (علي) ظلا غبيا عندما كشف تسلله لحضور اجتماعات ثورة الظلال في مدينة الظلال، الثورة التي نهضت ضد فكرة المدينة واعتبرتها مكانا للأسر، يريدون مغادرته للرجوع لعالم البشر وهدم أسواره لكنهم ممنوعون من ذلك ومن يحاول التسلل خارجا، يقتل متى انكشف.
ظل (آكل نفسه) كذلك كان السبب في قتل صاحبه بكشف هروبه والإشارة لمكانه للشرطة وفي سبيل أن يصبح قائدا لجيش الظلال في مدينتهم.
مع تطور الأحداث نكتشف أن التأثيرات متبادلة بين عالم الظلال والعالم الحقيقي، وأن بعض البشر زاروا تلك المدينة أو علموا بها، أن الديكتاتور على سبيل المثال كان يستغلها بمساعدة ظله بل تابع نشأتها وبث فيها جواسيسه وحكمها من وراء الستار بمعونة ظله.
عالم الظلال ملئ بالتنوع والتناقضات وهو ما يخلق جوا مشحونا طوال الوقت، فالظلال أحيانا يبدون كعبيد يحاولون التحرر، الغريب أن التحرر في الحالتين عبودية، فهم عبيد نظرة ظل سيد الظلال أو رغبة ظل الديكتاتور ومن خلفه الديكتاتور، عبيد في المدينة التي يسمونها حرية أو كثوار يرغبون في التحرر من المدينة والعودة للانكفاء على وجوههم من جديد تحت البشر.
الظلال كذلك تلك الأرواح الخفيفة تتمنى الجسد، زوجة سيد الظلال تتمنى أن تذوق نشوة الحب وتستمتع بغرائز الجسد وكأن الجسد تحقق وهناك سخرية من حكماء ومفكرين رغبوا في التحرر من الجسد، فهي خفيفة بلا جسد لكنها معذبة لذلك.
صبحي شحاتة يمارس السخرية من كل شيء وكل سلطة، علوية أو أرضية ويسخر كذلك من الساخرين من السلطة فيبدو أحيانا وكأنه يسخر من كل نظام ومعتقد قام أو سيقوم وأحيانا تبدو الثورة كفعل مقصود في ذاته وأنه فور أن يشكل نظاما فسيكون كذلك ممجوجا، وهي مأساة الإنسان الذي يبدو كظل عبد في كل الأحوال إلا في حالة الثورة والتي أبدا لن تكفل شيئا في ذاتها.
صبحي يسخر من أبو عمر المشتاق لتفجير العالم ليكون طوفانا يقتل الجميع في هستيريا فينقذ أرواحهم من ذلك العنت والشقاء ويطهرهم ويحملهم للجنة ثم يعفو الله عنه كما يسخر من الأستاذ المنظر، سخر منه حتى عندما قرر النزول للجماهير، يسخر من كل وأي شيء، ويفكك كل شيء ويشحذ الدماغ.
في الرواية حبكة لكن صبحي لا يعرضها بشكل متسلسل زمانيا، فالرواية متعددة الأصوات وباكتمال الأصوات تكتمل الحبكة في تقديم وتأخير وتعدد كاشف لوجهات النظر ومزاوجة رائعة بين الحقيقة أو ما يظن كونه حقيقة وبين عديد من التصورات.
الرواية هي رحلة نفسية وفلسفية ولا يكاد يخلو فصل من وجهة نظر فلسفية للعالم، حتى من يملكون ذات وجهة النظر لا ينتظمون في ذات رد الفعل المبني عليها وكأنه لا حقيقة ثابتة وكذلك لا رد فعل ثابت لذات التصور.
الأكيد أن ظلال صبحي كلها لها وجهة نظر واضحة وفلسفية حتى لو كانوا بلطجية أو متبطلين وذلك لأن الظل هو تكثيف لثقافة جمعية بحسب يونج، تكثيف مختلف التجليات.
رواية صبحي شحاتة مميزة وتستحق القراءة، ورغم ذلك فهي صادرة عن سلسلة محدودة التوزيع وفي طبعة محدودة النسخ وهو ما يثير علامات استفهام كبيرة عن معايير النشر ويحتاج لحلقات نقاش لاستكشاف خلل المنظومة.
الرواية كذلك ظلمت في تجميعها وتنسيقها ومراجعتها فهناك الكثير من الأخطاء التي لولا جمال الرواية لأعاقت المتابعة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب وروائي مصري