ناهد السيد
لم أعد خائفة. أترك يديّ مفتوحتين للفضاء كجناحى فراشة تحلق على رؤوس اليتامى والمساكين، تنفض عليهم دفء الرب الذى علق بقدميها، تقف بين أنفاس عاشقين اختلفا للتو وتمسك كل منهما برأيه فترف بجناحيها كحمامة سلام ليبصقا العناد ويسترجعا اللهفة.
لم أعد حذرة.. صرت أشبه دبة تخطو على صدر صاحبها لتصل إلى زلعة العسل.. صرت أسير عكس الاتجاه المحتوم فى الملفات ومفترق الطرق، طالما أن عمري قصير.. فماذا يضير؟
لا ضير أن أدير ظهري للطريق السريع وأسير بخطى بطيئة بين صفير سرعات متفاوتة تصم أذنيّ عن صخب الحياة، فأسير نحو الآخرة.
لا أخشى شيئا، بل لم تعد لديّ مشاعر يندرج تحتها مسمى الخوف ..الحذر. الانتشاء والاهتمام كلها مفردات صارت عتيقة.. مهملة .. مهما انجلى عنها الصدأ لا تغوينى ولا أنجذب نحوها.. صرت أسخر منها فى سرى وأشفق على من يعتنقها..إنها مجرد حروف ثقيلة تحمل معانى معقدة لا يفرزها هرمون ولا تقوى على تشغيل أجهزة جسم أو تنفخ عضلات ولا ترمم عظام .. فلماذا إذن نحتفظ بها؟
كلمات تصب فى مرمى الآخرين .. نهتم لكى يسعد الآخر..نخاف من الآخر .. نشقى لأجل الآخر .. نحذر لكى لا نقع فى شرك الآخر !
تجمدت تلك المشاعر فى دمائى، ما هى سوى كلمات دخيلة ممتزجة بجينات وراثية عفا عليها الزمن، ولا يمكن أن تذيبها آلاف مؤلفة من الحطب وجذوع الشجر الطازجة المقتلعة حديثا من أرض بكر.. تحترق سريعا وكأنها تشتاق الى النار لتجرب حياة اخرى أكثر حماسا من تلك التى عاشتها مغروسه بقوة أسفل الأرض تأكل وتشرب حياة دفينة رطبة.
آن لها أن تتذوق حيوات أخرى وأقدار مغايرة .. قد تصير مقعدا خشبيا فى أحد المصالح الحكومية تستقبل كل يوم مشكلة ساخنة،أو ربما تصبح عصا فى يد عاجز، طاولة لغداء أسرة يدوشها اصطكاك الملاعق فى أفواه تبحث عن دفء أب منشغل وأم منهكة
وربما تصير حطبا .. نارا .. رمادا.. هبة ريح .. عفرة فى وجه المارة تعميهم عن السقوط فى فوهة الدهر. آن لها أن تجرب تلك الحيوات قبل أن تميل ميلة قويه لتقطع آخر طرف فى جذرها المعلق بالأرض .. فتلقى مصير آخر حتى ولوكان بدافع التجديد.