الضحك والبكاء، أيهما يحكم العالم؟

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

Normal 0 false false false EN-US X-NONE AR-SA /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman","serif";}

قراءة: محمد عبد النبي

لفترة طويلة عرفنا صبحى شحاتة قاصا دؤوبا ومتميزا، عرف كيف ينتقل من الكتابات التقليدية والتركيز على الهموم الاجتماعية المباشرة ليحلق إلى آفاق رحبة من اللعب الفكرى وشطح الخيال. كما نعرفه كاتبا لأدب الطفل وله فى ذلك خبرة ودراية وجوائز ومؤلفات، غير أنه آثر أن يكون كتابه الأول، فى أدب الكبار، هو رواية قصيرة ومكثقة بعنوان الضحك.

تدور الرواية، والصادرة قبل سنوات قليلة عن دار فكرة، حول مسابقة يعقدها كل عام مجموعة من الأثرياء، فى يخت خرافى على سطح النيل، يتبارى المتسابقون خلالها فى استدرار دموع الجمهور من الأثرياء المرفهين الغارقين فى اللهو والمسرات والمتع ..و هى فكرة تذكرنا ببعض الأعمال السينمائية مثل “إنهم يقتلون الجياد، ألا يفعلون؟” و” قشر البندق” أو حتى “كابوريا”….. غير أن  السرد، وعلى عكس ما هو متوقع، لا يدين جماعة الأثرياء بتخمتهم وتلاعبهم بالآخرين و التفرج عليهم كأنهم حيوانات فى سيرك.

نرى بالتتابع عشرة نواحين، أو متسابقين، يظهرون تحت بقعة الضوء واحدا بعد الآخر، ليواجه هذا الحشد الضاحك الساخر العدمى أحيانا واللامبالى لأقصى درجة ومحاولة دفعه إلى الشفقة والحزن، وبالطبع إلى البكاء وهو معيار الفوز فى المسابقة بمبلغ مالى كبير وتمثال على شكل وجه باك. فهذا نواح  يحاول أن يلفت نظر هؤلاء إلى ما يجرى فى العالم من فظائع وكوارث، تبثها وسائل الإعلام ساعة بساعة، وآخر يحاول دفعهم إلى ملاحظة ما فى الكون من عظمة وجلال، ونواح ثالث فاحش الثراء مثلهم لا يطمع فى جائزة بقدر ما  يشجعهم على إيجاد معنى لحياتهم وهدف جليل، ومنهم الفقير الذى جاء يتذلل ويتوسل بكائهم أو يهددهم إذ تملك منه اليأس، وعلى الجانب الآخر يتبدى الجمهور – أغلب الوقت – فى حالة تامة من اللامبالاة وقادر على كشف زيف المتسابقين بدورهم، والسخرية الجارحة والأليمة من كل المواجع والأهداف السامية التى يحاول كل متسابق أن يشدهم إلى أرضيتها.

يمكن اعتبار هذه اللعبة، بما أنها لا يمكن محاكمتها بالرجوع إلى أصل ما لدى ما اصطلحنا على تسميته بالواقع، على أنها مجاز كبير للحياة الإنسانية، وخصوصا التصارع على كسب وعى الجماهير، أو تعاطف الآخرين، أو جذب طبقة بعينها إلى المنطق السليم. ولكن أى من هذه هو المنطق السليم و أيها هو الطريق الصحيح؟ هذا ما لا تحاول الرواية أن تجيب عنه، بل على العكس، تؤكد على ضرورة أن يبقى السؤال مطروحا على الوجود إلى ما لا  نهاية؟

“هل جربتم لذة الانخطاف ورعشة القلب أمام عظم الكون وسر الوجود؟” هذا كلام أحد النواحين،  ولعل هذه هى نقطة انطلاق أغلب النواحين فى محاولاتهم إبكاء الجمهور الذى يتمتع بقسوة قلب تعز على آلهة الأولمب. ولعل رعشة القلب أمام سر الوجود هى أيضا محرك الرواى،الذى لا تخفى علاقته بالروائى نفسه، فهو كاتب قصص ومثقف ويطمح لجائزة تريحه من السعى وراء لقمة العيش، بل وينوى كتابة رواية بعنوان الضحك، سوف تقلب الدنيا رأسا على عقب، لابد أنه استلهمها من تلك السهرة الغرائبية فى مسابقة النواحين السنوية. ملمح السخرية من الرواى وأحلامه موزع على صفحات الرواية وكذلك من الشخصيات الأخرى العابرة، وهو ملمح يكشف عن انحياز الرواى للضحك والسخرية والتهكم، مقابل الجدية والبكاء والنواح.

الضحك والبكاء هما قطبا التناقض فى هذا العمل، وأساس المفارقة التى تقوم عليها هواجس الرواية، وتدور حولهما مجموعة أخرى من التناقضات والمفارقات الأقل وضوحا، غير أننا لا نرى الإنسان خلال العمل تتنازعه المتناقضات قدر ما نراه قادرا على استيعابها بداخله وتجاوزها، حيث يمكن للبكاء أن يكون من فرط الحنان والانخطاف أمام جمال العالم ورعته، حيث تنتفى التناقضات فى سبيكة الفن ولعبته الطليقة، هذا هو مدار الرواية فى ظنى، أن نعيش الحياة وكأننا نمارس فنا من نوع ما.

وعلى هذا نلمس فى الرواية حرصا على تناول اللعبة الفنية ذاتها، سواء جاء هذا التفكير مضمرا وخفيا من خلال المسابقة، أو بوضوح تام فى صورة حديث مباشر على لسان السارد، بل ونرى قصصا قصيرة ومونولوجات مسرحية تندمج فى جسد الرواية، إلى جانب التحليلات الطريفة، من قبيل تناول فيلم الزوجة الثانية لصلاح أبو سيف من زاوية  نظر جديدة تماما، ثم التعليق على هذا التحليل من قبل شخصية أخرى، وهكذا… والمقصد أن اللعبة الفنية بحد ذاتها شغلت الراوى والرواية، فتغاضى عن تتبع أى علاقات درامية كان من الممكن تطويرها أثناء هذه المسابقة أو الحفل العجيب، والسؤال البارز هل يعد الفن لا شئ أكثر من حرفة التلاعب بالمشاعر،وهل تعد هذه اللعبة مبتذلة إلى حد كبير؟

فى بعض مواضع الرواية نضع أيدينا على تقدير عظيم للعبة الفنية يضعها فوق أى اعتبار أو عقيدة أو أيديولوجية، لأنها شأنها شأن مسابقة النواحين قادرة على الرصد والكشف والتحليل والانطلاق نحو أسرار الوجود، كل هذا دون فقدان خيط المتعة والطرافة.

تلتزم الرواية بوحدة المكان والزمان والحدث، وكأننا أمام دراما إغريقية حديثة، دون أن يفقد السرد شيئا من مغامرته، أو سخونته، وربما أثقله المساحات الكبيرة التى أفردت لعرض أفكار ومناقشتها، وكذلك الاستعانة باستشهادات واقتباسات عن نيتشه أو ديستوفوسكى، وخاصة عندما يكون المعنى المراد إيصاله ليس بحاجة إلى صك اعتراف من اسم كبير للتصديق عليه، من قبيل إن الإنسان حيوان يعتاد على كل شئ. لولا أن هذا كله قد يجد مبرره لدى الرواى المثقف والفنان. ومن يقرأ ما يقوم به كل نواح والمونولوج الخاص به سيجد نفسه أمام مسرحية صغيرة أو قصة قصيرة، من السهل فصلها عن السياق والتمتع بها كقطعة فنية منفصلة، غير أنها فى مكانها تشكل وحدة أساسية فى تشكيل الصورة العامة، والتى استهدفت محاكمة الوجود الإنسانى من جوانب عديدة، وكشف زيف الكثير من الخطابات الإنسانية، المسئولة عن تشويه الإنسان وقمعه وترويض طاقاته ونتف ريش أجنحته، تلك الأجنحة التى حلق بها صبحى شحاتة، ضاربا عرض الحائط بالمواضعات والتقاليد، لحسن حظنا جميعا.

مقالات من نفس القسم