بولص آدم
الشعر المعاصر: بين العائلة واللغة الجريحة، من الذاكرة إلى مطاردة البقاء
في زمنٍ تتناسل فيه الأخبار كالعواصف، وتذوب المعاني في ضجيج الشاشات، يبقى الشعر هو البيت الأخير للعالم. بيتٌ بلا جدران ولا أبواب، يسكنه من يعرف أن الكلمات ليست زخارف، بل قناديل لليلة الإنسانية الطويلة. في كل قصيدة تنجو لحظة من الفناء، ويعود الإنسان إلى صوته الأول: الحلم والدهشة والارتجاف أمام الجمال. الشعر ليس ترفاً في عصر السرعة، بل صرخة هادئة تقول إن العالم ما زال يملك قلباً نابضاً خلف كل الخرائط والشاشات.
في السنوات الأخيرة، لم يعد الشعر يكتفي بأن يكون مساحة للحنين أو تأريخًا للأمجاد القديمة. لقد صار مرآة لزمن قاسٍ، لغة تمشي فوق حواف القلق، وتكتب عن الذات والجماعة من داخل جرح مفتوح. إنها قصيدة لا تهرب من الانكسار، لكنها تحول كل تجربة إلى إبداع، وتحوّل الخسارة إلى طاقة للغة، وإلى محاولة لترميم ما انكسر في الروح وفي العالم.
وهنا، يبرز بوضوح لافت أن الأم والأب والعائلة قد أصبحوا في كثير من النصوص البيت الرمزي للشعر نفسه. فالقصائد التي تستدعيهم لا تكتفي بتسجيل الحنين، بل تعيد بناء مأوى بديل داخل اللغة، كأن الشاعر يجد في استحضار العائلة محاولة لمواجهة قسوة العالم. الأم تحضر كرحم كوني، والأب كظل متأرجح بين الحماية والخذلان، والعائلة كأثر نفسي يرمم الشاعر من خلاله ما تسرّب منه. بهذا المعنى تصبح القصيدة بيتًا للشاعر في العالم، بل ربما البيت الأخير الذي يحتمي به العالم نفسه في مواجهة العدم.
1. القصيدة كلغة مذعورة ومطاردة
يتحرك الشعر في منطقة المطاردة بين الحياة والمحو: الكلمات تركض خلف نفسها، تحاول الإمساك بما يتسرب، تكتب بين حضورٍ مهدد وغيابٍ مقيم. لم تعد القصيدة نشيدًا مطمئنًا، بل لغة متوترة، تصنع إيقاعها من الشظايا، ومن صدى الفراغ الذي يطاردها. هذه اللغة ليست يأسًا خالصًا، بل إبداع ينبت من القلق. فالقصيدة الحديثة حين تتحدث عن الفقد، فهي تبتكر شكلًا جديدًا للبقاء في الكلمات، وتحول الصمت إلى خطاب شعري متحرك، كما لو أن اللغة نفسها أصبحت جسدًا يرتجف ويتنفس.
- الأب: بين المهابة والصدع
صورة الأب في الشعر لم تعد صورة واحدة. بين الأب الذي يمنحك القامة كما كتب غوته عن إرثه العاطفي والجسدي، والأب الذي يحرث الأرض بلسانه في عوالم جان آرب السريالية، يتحرك الشعر المعاصر بين الهيبة والخذلان. الأب في هذه القصائد قد يكون: ظلًا يحمي ويعيد بناء البيت في الذاكرة. أو فراغًا ثقيلًا يتسكع في الصور الفوتوغرافية الناقصة. أو كائنًا شعريًا غريبًا يعكس عبثية العالم الحديث، كما في كوابيس الشعر السريالي. الكتابة عن الأب إذن هي بحث عن أصل الصوت الشعري في محاولة لفهم الصدع الأول الذي تشكلت منه الذات.
- الأم: لغة العودة وملاذ الروح
الأم تبقى مركز الجاذبية العاطفية في الشعر، لكن حضورها تطور من الرمز الملائكي إلى كائن شعري متعدد الطبقات: هي لغة العودة الأولى، التي يرجع إليها الشاعر كلما تاه. وهي معبد منزلي يداوي العالم من صخبه وقسوته. وأحيانًا تتحول إلى جرح صامت، أو كائن يذوب في العطاء حتى الاختفاء. القصيدة المعاصرة لا تمجّد الأم بطريقة مباشرة، بل تجعلها أفقًا مفتوحًا للغة والذاكرة معًا.
- العائلة كشظية شعرية
تحوّل خطاب العائلة في الشعر إلى شظية شعرية، لا إلى لوحة مكتملة. البيت لم يعد مكانًا ماديًا فقط، بل أثرًا نفسيًا. العائلة ليست حنينًا خالصًا، بل سؤالًا عن الأصل والغياب. القصيدة ترمّم ما انكسر، وتكتب عائلة جديدة من الكلمات: أبٌ يتحرك بين الهيبة والغياب، وأمٌ تعود كأغنية بعيدة، وطفولةٌ تظهر كجرح أول يفيض كلما حاولنا نسيانه.
- من الذاكرة الفردية إلى الجماعة المتألمة
لم تعد القصيدة المعاصرة حوارًا مغلقًا مع الذات. صارت شهادة مفتوحة تعكس جرح الفرد والآخرين معًا: الذات الفردية تتكلم لكنها مثقلة بأصوات غائبة. الجماعة المتألمة تحضر كظلّ، كأشباح لغوية، كأصداء تتنفس في النصوص. الشعر الحديث لا يكتفي بالنوستالجيا، ولا يستسلم لليأس.. يصنع لغة حية تعيد بناء علاقة الإنسان بالعالم. في كل بيت عن الأب أو الأم أو عن العائلة، هناك وثيقة بقاء: محاولة لتثبيت ما تسرّب، وترميم ما انكسر، وإعادة اختراع الذات بين الحب والخوف واللغة.
القصيدة كبيت أخير للعالم
الشعر المعاصر، في جوهره، هو بيت أخير للعالم: مكان يجمع الذكريات والجروح، لكنه يفتح نافذة على الضوء أيضًا. حين يكتب الشاعر عن أبيه أو أمه أو عن العائلة، فهو يكتب عن صورته في مرآة الحياة: عن حضوره وغيابه، عن ضعفه وقوته، وعن قدرته على تحويل الألم إلى فنّ. القصيدة الحديثة ليست نشيد مجد ولا نشيد سقوط، بل مساحة لقاء بين الجرح والإبداع، بين الذاكرة وما يتجاوزها، بين الإنسان والعالم الذي يحاول البقاء بالكلمات.