“الشرق يبدأ في القاهرة” .. فاسيولينسى وإحداثيات أدب الرحلات

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

"نحن أيضا نحتضن حلم تغيير حياتنا، أو على الأقل حشوها بمادة أقل تفتتا من حطام الأيام، عبر الرحيل من هنا. تشعر بحنين غريب نحو ما لم تراه أعيننا، حنين نحو كل الأماكن باستثناء مكاننا، كما قال شيرازي بافيري في مرة: المرء يحتاج إلى وطن، حتى ولو كان ليرحل عنه."

 بهذه السطور يستشرف إكتور أباد فاسيولينسى فصول كتابه في أدب الرحلات “الشرق يبدأ في القاهرة” الذي صدرت ترجمته للعربية عن دار صفصافة بترجمة رائقة وعذبة لمحمد الفولي. يستهل الكاتب رحلته بالتساؤل عن إحداثيات الأماكن وجدواها: “أين ينتهي الغربي الذي يخصّنا؟ وأين يبدأ ذلك الشرق البعيد؟” ليشاركنا بعض المشاعر أو التساؤلات الوجودية الكبيرة وتلك الرغبات المتواترة في ترك الأماكن التي ألفتنا وألفناها حد الملل.

فعلى مدار ثلاثين فصلا متفاوتة الكَم –ما بين صفحتين إلى 22 صفحة- يسرد لنا الكاتب الكولومبي تجارب وتأملات زيارته للقاهرة برفقة زوجتيه. وقد أفرد مساحات كبيرة لفصول بعينها كفصل الفنادق، والنساء، وهوس الموت. ما يميز كتابنا أن صاحبه ينتمي لعالم أمريكا اللاتينية أي أنه لا يطل علينا من برج عاجي للعالم الأول ونظرياته الاستشراقية. هنا حكي بعين غربية مختلفة، عين غريبة قريبة وإن استعار في سرده بمقولات رحالة غربيين مشهورين بين ثنايا تجربته الذاتية.

ينفي صاحب رواية “النسيان” عن نفسه الانتماء للعالم الأول بأسلوب ساخر، ففي فصل “رحلة إلى القاهرة” يذكر لنا تجربته مع “دول ومطارات وشركات العالم الأول” التي “دائما ما تحتفظ بمفاجاة لمواطني العالم الثالث”. يعرض في هذا الفصل وغيره بخفة دم لا شية فيها مشاعر مختلفة خلال رحلته ك “الرعب المبجل الذي يسمح لهؤلاء الهنود –أي نحن- بالدخول لأراضي الأطهار” وثمن الخطو “ستة أمتار فقط فوق أراضي الشينجن المقدسة” الذي يدفعه “كفار جنوب العالم”. وفي سياق متصل يقول علاء الديب عن شعوب أمريكا اللاتينية: “بيننا وبينهم شىء قريب وغريب: قد يكون الفقر والتخلف، قد يكون الاستعمار الأوروبى، والعلاقة التنويرية والتدميرية مع المركزية الأوروبية، قد يكون العلاقة بالدين والتاريخ القديم، وقد يكون الجهل والأمية والخرافة.. قد يكون كل هذا وغيره. المهم أن هناك الكثير لكى ننظر فيه ونتبادله معهم”.

كما راقني كثيرا تفنيده لمظاهر الإسلاموفوبيا أو رهاب العرب بشكل عام في الغرب متمثلا في سرده عن حادثة رحلة مصر للطيران الشهيرة بقيادة البطوطي “لأن جنون العربي الذي ينتحر هو الفرضية التقليدية في العالم الأول ضد العالم الثالث”. كما يكمل تأملاته في الفصل الخاص باللغة العربية مشيرا إلى أن “وحده الجهل والأحكام المُسبقة المعادية للإسلام هي ما جعلت هذه اللغة الجميلة تصبح، بالنسبة لآذاننا الحمقاء وعديمة الخبرة، مرادفا للضوضاء”.

يستمر فاسيولينسى في نزع الأحجبة عن مصر بداية من اللغة مرورا بأحجبة النساء ووصولا للحجاب الثقافي الذي يرى وجوب كشفه وإلا سيعود الرحالة لبلده “بنفس العمى”. وعلى ذكر الحُجب فقد وُفق مصمم الغلاف للنسخة العربية في اختياره لصورة تبرز ألوانها سماء القاهرة المخنوقة بالأتربة وهو ما أشار إليه الكتاب بشكل عارض ذاكرا معاناة كاتبه من حالة ربو نفسية في أيامه القاهرية.

وكأي غربي يعرج إكتور أباد على فكرة التقسيم الجندري للأماكن في مصر وخص المقاهي فيها بسرد قارن فيه بين مقاهي القاهرة المخصصة للرجال والمقاهي المخصصة للسيدات في مدريد التي عومل فيها الكاتب “بصورة أسوأ من زوجتاي في المقاهي المخصصة للرجال بالقاهرة”!. كما دلف على مقهى ممر زهرة البستان الشهير بوسط البلد ولتدابير القدر قرأت مقالا للكاتب المصري الراحل مكاوي سعيد (أحد أعلام المقهي) عن رواية إكتور آباد الأشهر “النسيان” أشار فيه لكتاب “الشرق يبدأ في القاهرة” متمنيا ترجمته للعربية وإطلاعه على الترجمة ولكن للقدر حسابات أخرى حالت دون ذلك.

وفيما يخص الترجمة للعربية فقد راعى المترجم استخدام لغة سلسة كما ذيل بعض الصفحات ببعض المعلومات عن الشخوص والأعلام التي يحيلنا إليهم الكاتب أو السرد أو استيضاحا لمعلومة اختلط فيها الأمر على الرحالة. كما ذكر الكاتب والمترجم ياسر عبد اللطيف في تعليقه المنشور على موقع جودريدز أن الكتاب ” تجربة هامة في أدب الرحلة. يتمتع إكتور آباد برؤية ساخرة تستند إلى ثقافة عميقة، أول كتاب اقرأه له وسوف اقرأ النسيان بعده من ترجمة مارك جمال. موقع الراصد الأجنبي للواقع المصري نهايات القرن العشرين وبدايات الألفية جديد ومختلف. كاتب لاتيني في القاهرة! ومن أول لحظة، منذ شرائه لتذكرة السفر ومرورا بمغامراته في المطارات والطائرات وجولاته بالفنادق المصرية الرخيصة والمتوسطة والفخمة والمقاهي وحتى مغامرته الأخيرة في خان الخليلي أنت بصحبة سرد ممتع لا يخلو من خفة الدم والذكاء. الترجمة ممتازة. محمد الفولي يثبت جدارته كمترجم من العمل الأدبي الأول.

 

 

“يا كتاب مصر، لن يترجم هذا الكتاب بكل تأكيد للعربية، ولكن بالإسبانية التي تأثرت باللغة الجميلة التي تتحدثون بها وتكتبونها أرسل لكم تحية إعجاب وتضامن.” حينما قرأت هذه العبارة في أحد فصول الكتاب شعرت أنها ربما هي المدخل لمقال عنه، وعن الترجمة وعن اليقين والقناعات التي تذوب بمرور الزمن وبفعل الكتابة والتلاقح الثقافي. بعد جمل كهذه ترتسم ابتسامة على وجهك كتلك الابتسامات المصاحبة للأمل في فرص التواصل البنَّاء ورسائل المحبة بين أطراف هذا العالم صعب المِراس والقابل وغير القابل للترجمة في آن. 

مقالات من نفس القسم