السينما وأطياف الذات

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد عبد الرحيم

إنهم يظهرون فى الأفلام. هم خفيون، لكنهم ليسوا الرجل الخفى. هم يوسوسون للأبطال، لكنهم ليسوا شياطين. هم أشباح، لكنهم ليسوا موتى. إذًا، من يكونون بالضبط؟! إنهم ببساطة.. أطياف الذات.

فى أى معجم لغة عربية، ستجد تعريفات لكلمة طيف؛ خلاصتها أنه “ذلك الشيء الوهمى، الذى يراه الإنسان بعين الخيال، ويظل يتابع الإنسان أينما ذهب”. تنبع هذه الصور من الذات، ولا تراها غير الذات، وتتخذ – فى الأغلب – مظهرًا بشريًا، وتستغلها الدراما السينمائية لتكشف ذوات أبطالها. دعونا نراجع صورًا مختلفة لهذه الأطياف من خلال عدد من الأفلام..

الصورة المثالية:

قد يظهر الطيف للشخصية الرئيسية مُعبِّرًا عن مثل أعلى يحتاجه البطل أيما احتياج أبان الصراع الذى يجابهه، حيث يمثّل النموذج السامي الذى يتطلع إليه، والذى – فى أحسن الأحوال – يحقِّقه بفعله فى النهاية.

½8 أو ثمانية ونصف (1963) هو فيلم إيطالى للمخرج فدريكو فيللينى، بطله مخرج سينمائى (أداء مارشيللو ماستروياني) مطلوب منه تسليم فيلم خيال علمى ضخم يكون على مستوى فيلمه السابق الذى حصد نجاحًا عالميًا، وبينما يعانى جمودًا إبداعيًا، محاولًا تأليف ذلك العمل بمشقة، يزوره طيف أنثى ما (أداء كلوديا كاردينالي) ساخرة مما كتبه، ليمزقه ويبدأ من جديد. مثّل هذا الطيف ضمير الفنان القلق الذى يحاسبه بقسوة، وعند ظهورها فى أحلامه كفتنة الحياة، وشربة المياه الشافية، فهى تجسِّد كل الجمال، والنجاح، والرضا؛ أو باختصار الصورة المثالية، أو المستحيل الجميل، الذى يصبو إليه كل فنان، ولا يناله كاملًا أبدًا.

فى الفيلم الأمريكى Play It Again, Sam أو العبها ثانية يا سام (1972) إخراج هربرت روس، وتأليف وبطولة وودى ألن، يكابد ناقد سينمائى الإحباط العاطفى، فيتجلّى لمخيلته الصورة السينمائية للنجم الأمريكى الراحل همفرى بوجارت (أداء جيرى لاسي) لتجسِّد هوسه بالسينما، وبصورة البطل المثالى؛ الأبعد – فى لحظته المحبَطة – من التحقق فى الواقع على يد بشر عاديين. لذا يصاحب هذا الطيف البطل أينما ذهب، كشبح لا يراه إلا الأخير، مُرشِدًا إياه إلى كيفية كسب النساء. ثم يغرم الناقد بزوجة صديقه، وتغرم هى به – على غرار فيلم بوجارت بطلًا Casablanca أو كازابلانكا (1942) – لكنه فى النهاية يقوم بالاختيار الأخلاقى، رافضًا سرقة زوجة صديقه، ليتغلّب على احباطه، وتزداد ثقته بنفسه، مُودِّعًا ذلك “الخيال الطائف” لبوجارت؛ لأنه وجد المثالية فى ذاته، وأصبح – هو أيضًا – بطلًا كما أبطال الأفلام.

رغبات مكبوتة:

تظهر رغباتنا المكبوتة فى أحلام النوم أو اليقظة، وتفنّنت السينما فى عرض النوع الثانى، بعد أن صبّته فى قالب شخصية وهمية تظهر طيفًا فى حياة البطل؛ لتكشف ذلك الشيء الذى يفتقد وجوده، ويحاول تعويضه.

Cloak & Dagger أو مغامرات سرية مثيرة (1984) هو فيلم أمريكى للمخرج ريتشارد فرانكلين، عن طفل (أداء هنرى توماس) يشهد بالصدفة جريمة تجعله مُطارَدًا من القتلة، ويُصاحبه طيلة المغامرة صديقه الخيالى؛ وهو مزيج من بطل لعبته، وأبيه الذى يهمله (دابنى كولمان يلعب الدورين)؛ ليعكس هذا الطيف الخيال الواسع للطفل، فضلًا عن رغبته المكبوتة فى أن يُصاحِبه أبيه. يموت الطيف قبيل الذروة، ليحل محله الأب الحقيقى الذى يجيء فى اللحظة المناسبة كى ينقذ ابنه من الموت؛ لتندمج فى لحظة الصورتان، الطيف المغامر والأب، وينال الطفل الواقع الذى حَلُم به.

فى الفيلم الأمريكى Fight Club أو نادى القتال (1999)، إخراج ديفيد فينشر، يقاسى البطل (أداء إدورد نورتون) من الاحتقان تجاه المجتمع، والرغبة الدفينة فى تحويل غضبه المكظوم إلى عنف متفجر، إلى أن يقابل تايلور ديردن (أداء براد بيت) وهو شاب فى سنه يُناقضه تمامًا، ويعوِّض افتقاده لقيم الجرأة والعنف، ويتفقان على إقامة نوادى قتال سرية يفرِّغ فيها المواطنون غضبهم المكبوت فى صورة ملاكمات شرسة. يعترض البطل على تجنيد ديردن لأعضاء النوادى فى فرق تخريبية، لكنه يفاجأ بأن ديردن كان شخصية تخيّلية بالكامل، وأنه وديردن شخص واحد، وعليه لابد أن يتصارع معه، أو بالأحرى مع نفسه، كى يُوقِف عملية إرهابية كبرى من تخطيطه. أى أن البطل حرّر غضبه الحبيس فى هذا الصديق الوهمى، كحلم شرير ينفِّث عنه، ولما تحقّق هذا الحلم فى الواقع، سعى البطل – الطيّب بالمقارنة – لإنهائه؛ وبدلًا من أن يعرض الفيلم الأمر كحالة “انفصام فى الشخصية” أخرى، عرضها – على نحو مبتكر – من وجهه النظر المختلة لصاحبها.

مشاعر مختلفة:

يستطيع المؤلف تلفيق شخصية صديق للبطل، كى يتولى فقط الكلام معه، وتعرية ما يضطرم بداخله من مشاعر مختلفة، لكنه يستطيع أيضًا استخدام أطياف معينة كي تؤدي الوظيفة ذاتها، وإن بشكل أقل مباشرة وتقليدية، أكثر ذكاءً وفنيِّة.

فى الفيلم الأمريكى All That Jazz أو كل هذا الجاز (1979)، يستعرض مخرجه بوب فوسى تجربته مع المرض، من خلال قصة مخرج آخر (أداء روى شايدر) مصاب بمرض عضال، وتُلِّح عليه مشاعر الاحتضار، فيتراءى له ملاك الموت (أداء جيسكا لانج)، لكن على خلاف أى تصوّر معتاد القتامة للموت، نرى هذا الطيف فى صورة ملائكية تداعب البطل فى أحلام يقظته، كفتاة ترغبه، ويتهرّب منها دومًا. إنها صورة للموت فى مرآة هذا الفنان؛ تتلاءم مع خياله الذى يرى الجمال فى كل شيء، ومع نرجسيته الذكورية التى تمثّل له الموت كفتاة تطارده. فى مشهد الموت بالنهاية، يقترب البطل ببطء من لانج، التى تبتسم فى ثقة، وكأنها نالت المخرج – رغم أنفه – بحكم قدرى.

يعيد الفيلم الأمريكى The Truth about Charlie أو الحقيقة بخصوص تشارلى (2002) للمخرج چوناثان ديمى الفيلم الأمريكى الأقدم Charade أو اللغز (1963) للمخرج ستانلى دونين، وفى محاولة للتميز عن الأصل – الأفضل بكثير – عمد الفيلم إلى لعبة الأطياف فى إطار طريف؛ فعندما تعيش البطلة (أداء ساندى نيوتن) والبطل (أداء مارك والبرج) لحظة رومانسية حالمة، راقصين على أغنية Quand Tu M’aimes، يظهر مطربها الفرنسى شارل إزنافور – شخصيًا – مؤديًا أغنيته دون أن يلمحه البطلان، وكأنه روح عاطفتهما. فى المرة الثانية لظهوره، عند النهاية السعيدة أمام قسم للشرطة، يغنى النسخة الإنجليزية للأغنية السابقة When You Love Me، لتتضح صورته للكل، فى محاولة من الفيلم للسخرية من نفسه؛ خاصة عندما ينظر المارة لإزنافور، مستغربين سبب غنائه وسط الشارع!

الهــوس:

تنحرف بعض الشخصيات حين هوسها بأنفسها أو بفكرة معينة، وإذا ما كان الفيلم العادى قادرًا على عرض الانحرافات السلوكية بسهولة، فإن “أطياف الذات” تبرع فى عرض الانحرافات النفسية والفكرية عبر تحويلها إلى شخصيات أخرى نراها ونسمعها. 

الفيلم الأمريكى A Beautiful Mind أو عقل جميل (2001)، للمخرج رون هاورد، مأخوذ عن السيرة الذاتية لعالم الرياضيات چون ناش، الذى عانى من انفصال وعيه عن الواقع، ووقوعه فى أسر أوهام سمعية بصرية أعاقته عن الحياة بصورة طبيعية لسنوات، ويقدم لنا الفيلم ثلاث شخصيات تظهر للبطل (أداء راسيل كرو) خلال توهماته المرضية، إحداها ضابط فى المخابرات الأمريكية (أداء إد هاريس)، يطلب من البطل تحليل كلمات جميع الجرائد، لكشف شفرة تجسس يستخدمها جواسيس؛ وإن كنا نكتشف بعدها أن الأمر، الذى شغل العالِم عن أبحاثه العلمية وشوّه حياته الزوجية، لم يزد عن كونه فخرًا زائدًا بنفسه كعبقرى رياضيات تمثَّل فى وهمه أنه “أعظم مفكِّك شفرات فى العالم”! ترجمت هذه الأطياف نرجسية البطل، وعرضت هوسه الزائد بقدراته، ليعيش معها مُعذَّبًا؛ لكنه يحرز بطولته فى تمكّنه من تجاهل أصواتها وصورها لتحقيق أحلامه، والتى يكتشف أنها لن تتم إلا بالنزول عن خيلائه، والتحوّل لتلميذ عادى يجرّب ويخطئ.

فى الفيلم الأمريكى Mr. Brooks أو السيد بروكس (2007) للمخرج بروس. إيه. إيڤانز، يقاسى رجل الأعمال السيد بروكس (أداء كيڤين كوستنر) إدمانًا سريًا للقتل، وصراعه ليس مع الظروف التى قد تؤدى لانكشاف جرائمه، بقدر ما هى مع ذاته كى يتوقف عن إدمانه، الذى يؤججه صديقه مارشل (أداء جون هيرت)؛ وهو لعبة السيناريو لتحويل هوس البطل لشخصية / طيف لا يراها غيره. يظهر مارشل كشخص ذكى أنيق هادئ، يشبه البطل فى ثقافته وملابسه وحركاته، ويتحاور معه فى أسراره وأحاسيسه وخططه؛ فنشهده يدفع البطل لمعاودة القتل من بعد توقف، ويتصادم معه حينما يقرِّر الاعتزال، والاتجاه نحو حياة طبيعية مسالمة؛ وهو ما يعنى – بالتبعية – مفارقة صديق عمره هذا. ترقى هذه الحيلة بالعمل من مجرد فيلم جريمة وتشويق عابر، إلى دراما نفسية جذابة تدور بين إنسان وهَوَسه.

مراجعة النفس:

أحيانًا يعيش الإنسان لحظات محاكمة يقودها ضميره، لكن تلجأ السينما، ذلك الفن البصرى، لوسائط مبدعة وممتعة لعرض ذلك؛ منها أن يصطنع البطل شخصيات / أطيافا وهمية تستعرض رحلة حياته لتعرى تناقضاته، وتكشف أخطاءه، عبر حلم طويل يعيش فيه دراما من تأليف ضميره، وإخراج خياله.

فى الفيلم الأمريكى Vanilla Sky أو سماء بلون الفانيليا (2001) للمخرج كاميرون كرو، المقتَبس عن الفيلم الإسبانى Open Your Eyes أو إفتح عينيك (1997) للمخرج أليخاندرو أمينابار، يخضع ثرى مدلل (أداء توم كروز) لعملية تجميد غرضها إطالة العمر؛ ليعيش حلمًا يستغرق الفيلم كله، يتخيّل فيه ارتكابه لجريمة، وسجنه، وطبيب نفسى (أداء كيرت راسيلل) يعالجه، وهو ما يعادل لحظة محاسبة ضمير طويلة للبطل، يسترجع فيها ذكريات معينة كى يلوم نفسه عليها، مُستوحيًا الطبيب النفسى من شخصية محامى طيّب أداها الممثل جريجورى بيك فى فيلم To Kill a Mockingbird أو مقتل طائر برى (1962) للمخرج روبرت موليجان، فى تعويض لصورة الأب التى افتقدها مبكرًا. حلَّق هذا الفيلم بحبكته بعيدًا عن التقليدية، وأضاف جرعة خيال وغموض لتحقيق قدر من التجديد والتشويق فى عمل نفسى بالأساس.

أما فى الفيلم الأمريكى Stay أو تأجيل (2005) للمخرج مارك فورستر، فيبحث طبيب نفسى (أداء إيوان ماكجريجور) عن مريضه الشاب (أداء رايان جوسلينج)، منزلقًا فى دوامة مُرهِقة من الأحداث والشخصيات المبهمة، ثم نكتشف فى النهاية أن الشاب عاش تصورًا كابوسيًا لمشاكل حياته، خلال إصابته فى حادث طريق، مُسقِطًا نفسه على شخص طبيبه، وصانعًا من المارة الذين تجمعوا خلال إحتضاره شخصيات لها دور فى هذا التصوُّر؛ ليغرق، وإيانا، فى قائمة طويلة من الأطياف المختلفة، تتداخل فيها شخصيات حقيقية، مع متخيلة، مع شخصيات صامتة ذات وجوه متعددة تعضد غرائبية الجو الكابوسي. إنها محاسبة ضمير جديدة، لكن فى عمل لا يصنع إلا غموضًا، والبعد النفسى هو القشرة لهذا وليس العكس.

***

إجمالًا، تعكس أطياف الذات حقيقة الشخصية من خلال خيالها، وهى وسيلة درامية أكثر تجديدًا وجاذبية، وأشد التصاقا بالذات الإنسانية، وأظن أن أنواعها تتجاوز هذه القائمة التى وضعتها، لاسيما مع تقدم علم التحليل النفسي، وتطور ألعاب الدراما السينمائية، وتحقيق هذه الأطياف لشعبية واسعة تبعدها عن الالتباس لدى مشاهدي اليوم.

……………………………

*نُشرت بمجلة الإمارات الثقافية / العدد 42 / فبراير 2016.

مقالات من نفس القسم