كان أسرع شهيق وزفير خبره في حياته. كان يحسدها على هدأة روحها، واستكانة جسمها. التصق بفخذها العارية الدفيئة ـ عبر شق جانبي طويل في جوبتها ـ خوفًا وإغواءً وإيلامًا وعصيانًا ووصالا وألفة. أخذ يعبث بأصابعه في الخيوط المُتَخَلِّفة عن ذلك القطع. كانت أصابعه تلمس فخذها لماما: جسمها مدفأةٌ بشرية، ووجهها جليدٌ تحت كتلة من الشعر المهوَّش.
‘إمرأة مُرْبِكة’، حدّث نفسه.
‘إمرأة مُنْتَصِرة’، حدّثت نفسها.
كانا يفترشان الأرض وظهراهما إلى حافة السرير الضخم الوحيد بالغرفة. اختلطت كل المشاعر التي داهمته في حياته بعضها ببعض في هذه اللحظة. لا مفر من التريّث إذن، وقليل من الإرجاء لن يضير أحدا. شعر بشيء ينقر عظم مؤخرته، فمدَّ يمناه يتحسسه. سحب فَرْدَ حذاءٍ نسائيٍّ ذي كعب زجاجي مدبّبٍ من تحت إليته اليمنى. نظر إليه لثوانٍ، ثم زفر بضيق، وقذف بفرد الحذاء نحو فرجة ضيقة عبر الشباك المفتوح بالكاد. بسرعة وبدقَّة ومهارة، تجاوز فرد الحذاء الستارة أثناء تلاعب الهواء بها، ثم عَبَرَ الفرجةَ الضيِّقةَ بين درفتي الشباك، وطار نحو حتفه. شعر بفخر تافه. توقّع سماع صوت مكتوم لسقوط الحذاء على أسفلت الشارع أو سقف سيارة تنام بجانب الرصيف. سمع صوتا يعلن: ’آي!‘ فابتسم لأول مرة منذ ساعات، وشعر بذات الفخر التافه. نظرتْ إليه مليا حتى خجل من شعوره المؤقت بالإنجاز، وقالت بهدوء: ’هذا حذائي أنا يا عبيط. حذاؤها هي تحت السرير.‘
بينما كان يبحث بعينيه تحت السرير، تأملته مسائلة نفسها أي غبي هو؟! كم امرأة بدينة أو في مثل بدانة تلك المرأة الراقدة أمامهما ـ رآها في حياته ـ يمكنها التوازن فوق كعب حذاء كهذا؟ كم امرأة عرفها لها مثل هذا الذوق الراقي في الأحذية؟ في الوقت الراهن، لا يعرف امرأة لها مثل هذا الذوق الراقي في الأحذية. مرآهُ لحذاءٍ بمثل هذه الأناقة ينطوي بداهةً على كون هذا الحذاء ملكا لها!
’غبيّ‘ حدثت نفسها بتمتمة هامسة. التفت إليها مستفهما عما قالته. هزت رأسها نفيا. صمت تماما وبدا أنه قد صدقها. فكرت كيف يُصَدِّق صوتها وشفتيها بهذه البساطة، ويُكَذِّب أذنيْه!
‘غبي فعلا’، تمتمت بها ثانية نكايةً في عَبَطِهِ. زرعت فكرة اتسامه بالغباء وانعدام البديهة القلق في نفسها؛ أما هو فما زرع القلق في نفسه هو إدراكه المُفاجيء لانفراج الشباك. أشار نحو الشباك وسألها: ‘هل رآنا أحد؟’
‘لا أظن.’
قالتها بثبات يشبه الصدق إلا قليلا، ومع ذلك اندفعت نحو الشباك تستكشف الأمر وهي تزمّ مِزَقَ بلوزتها الحريرية على صدرها. حركت رأسها في الاتجاهات الأربعة: أبراجٌ سكنية متجاورة تعيث فيها الأشباح الطيبة مرحا، ولم تترك سوى مساحة صغيرة لأناس ودعاء نعست عيونهم بعد فيلم السهرة، كُمُونٌ، وسكونٌ إلى حين. فكرت في أنه من البديهيّ ألا يراهما أحد، وألا يسمع تأوهاتهم أحد. دلّت رأسها للأسفل. رأت فقط ثلاثة مراهقين غرقوا في نشوة المخدر، وعبث الصراصير بأدمغتهم. لن يصدق أحد شيئا مما قد يتفوّهون به. الأمر بسيط، وليس ثمة ما يدعو للقلق. وهناك بين سيارتين متجاورتين استغاث بها فرد حذاء كوكو شانيل الوديع، فتنفست الصعداء، وقالت: ‘لا أرى أحدا يستيقظ غير بادرات الفجر الأولى.’
رفع رأسه نحو الجزء المحبوس من الظلام بين دفتي الشباك متسائلا: ‘السماء فقط؟’
‘نعم. السماء فقط.’
استدارت نحوه ووضعت يديْها في خصرها سامحةً لحرير البلوزة الممزقّة بأن يهفهف على صدرها. حدّث نفسه بأن صدرها ليس ممتلئا بوفرة سوقية، وإنما هو رشيق وأنيق بشكل مترف ورهيف. قالت والدلال الغنّاج يُؤَنِّث كل حروف الكلام عندها: ‘كنتَ وَحْشًا”.
ركعت على ركبتيْها أمامه. حينها، تأكّد حقًّا من كوْن صدرها رشيق وأنيق بشكل مترف ورهيف. قناعة بسيطة لم يدر لماذا ثَبَّطَتْ اضطراب مشاعره، ومنحته قليلا من الزهو. رمى لها ابتسامة. غمزت بعينها اليسرى، وأومأت برأسها نحو السرير ذي الشرشف المكرمش بخبث، وأكملت والدلال الغنَّاج يؤنث كل حروف الكلام عندها: ‘وهي أيضا.’
قال بوجوم: ‘أتعلمين؟ ربما لم تكن على تلك الدرجة من السوء.’
‘دعك من هذا.’
قالتها وهي تشيح بيمناها بغضب مطمور، ثم فكرت قليلا. أحمق إذن هذا الرجل. يتفوه الآن بمثل هذا الهراء! لقد كانت تنفجر في وجهه مثل لغم أرضي إذا لمسها، أو بمجرد أن يفكر ـ مجرد تفكير ـ في دهس قدميها. تمتمت: ‘ … قدميها الكبيرتين البدينتين!’
تطلّع إلى عينيها مستفسرا، فداعبت شعر صدره العاري، وقالت بجذل: ‘ما من احتفال؟’
أخذ شفتيها في قبلة عميقة طفت منها بسرعة، وقامت تبحث في أدراج خزانة الملابس عن شيء ما. رفعت أمام عينيه بَكَرَة خيط أبيض وإبرة، وهتفت: ‘وجدتها!’
‘كم امرأة عرفتها وامتلكت نصف مواهبي؟’ سألته عيناها الوادعتان، ولم تنتظرا من عينيه ردا. رمته بنظرة مُفَاخِرَةٍ. قطب جبينه بعجب، فسارعت بالقول: ’لا تتوقَّع مني أن أرتدي شيئا من ملابسها القبيحة.‘
’ربما لم تكن بمثل ذاك السوء.‘ قالها بصوت خافت، فنظرت إلى وجهه بغضب وقالت: ‘هي إمرأة خارج نطاق الموضة على أية حالٍ.’
خلعت بلوزتها، وعاودت الجلوس بجانبه. بسرعة وبدقة ومهارة، مررت الخيط الأبيض عبر ثقب الإبرة وعقدت طرف الخيط بخفة، وأخذت تداوي آثار جموح اللحظات الماضية على ملابسها. جسمها مازال مدفأة بشرية، ووجهها المثابر خلف الغرز البيضاء البسيطة مازال جليدا توَارَى بعضٌ منه خلف شعرها المُهَوَّش. انتهت سريعا كالعادة. مشطت شعرها بأناملها، ثم ارتدت البلوزة، وسألته عن رأيه دون انتظار لرأيه. خلعت الجوبة وكأنها على عجلة من أمرها. ‘فخذاها رشيقان وأنيقان بشكل مترف، وهذه قناعة لا تقبل الشك. مترفان ورهيفان جدا!‘ حدّث نفسه. جلست مرة أخرى تصحِّح شق الجوبة. ابتسمت فجأة في أَمَارات الوجوم على وجهه، وقالت: ‘لا داع للإجادة، سأستعير سيارتك على أية حال.’
سأل نفسه عما ينبغي لأي رجل أن يفعله بامرأة يحوي جسمها كل هذا الترف، وعما ينبغي لأي رجل أن يفعله من أجل امرأة تدلِّل كل هذا الترف في جسمها. لم يُحِط عقله بتصوُّر مبدئي لإجابات، أية إجابات! ارتدت جوبتها، وانتزعت مفاتيحه من جيب قميصه الملقى على الأرض. بحثت في الحمام المُلْحَق بالغرفة عن شبشب الحمام. ‘أرتدي شبشبه هو وليس شبشبها القبيح. شبشبه أيضا قبيح وضخم. لا يهم، سأستعير سيارته على أية حال.’ حدثت نفسها. اندفعت نحو باب الغرفة. سبقها إليه معترضا طريقها، ومنعها من فتحه قائلا: ’ليس الآن.‘
عيناها في مواجهة صدره تماما. ‘ثدياه مربعان ورشيقان وأنيقان ورجوليان بصورة مترفة كعارضي الإعلانات؛ لكني بحاجة إلى حمامي الساخن، وملابسي الجميلة، واحتفال شخصي بانتصاري على الظروف. ‘لا بد أن أمشي’، حسمت أمرها وهي تدير مقبض الباب قائلة: ‘أراك في المساء. على تليفون.’
‘قلت لك ليس الآن.’
صرخ فيها، فتطلّعت في وجهه بغضب، فسارع بقوله، وهو يومئ برأسه نحو السرير: ‘ليس قبل أن نفكر معا فيما يمكن أن نفعله بهذه الجثة.’