“السلفى”.. رواية تستعيد التدين المصري الذي غيبه المتشددون

السلفي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سعيد نصر

تحكى رواية عمار علي حسن “السلفى”، ذات البنية الفنية االمختلفة واللافتة، عن أب مكلوم حتى النخاع لسببين، أولهما: فراق ابنه له وذهابه للجهاد المقدس ضد الروس، بسبب أفكار خاطئة ونوازع سلطوية للتيار السلفى وسياسات غير متزنة للرئيس الراحل أنور السادات، دون أن يدرى الابن أنه ارتدى عباءة التطرف، الخارجة عن إطار الإسلام الوسطى،وعن سياق الهوية المصرية وطابعها الدينى المعتدل، وثانيهما، شعور الأب بأن السلفيين المتطرفين انتصروا عليه بتجنيدهم لفلذة كبده، بعد أن هزمهم كثيرا فى أروقة المحاكم بحصوله على مئات البراءات لشعراء وأدباء ومفكرين اتهموهم بالكفر والإلحاد، حيث يكشف الأب عن ذلك فى العتبة العشرين، بقوله: “واصطادوك ليقولون لى: وصلنا إلى عقر دارك، ونضربك من حيث لا تحتسب”.
وتحت وطأة هذين السببين وبدافع الأمل فى إنقاذ كل الأجيال القادمة، من خلال رمزية ابنه، من براثن الإرهاب والمتطرفين، يهيم الأب على وجهه متخيلا ابنه معه،ويلف به على واحد و عشرين بيتا فى القرية، يسترجع مع ابنه على عتباتها حكايات لشخصيات متباينة، أكثرها فيه المثل والعبرة للمصرى المبتسم الطيب الصادق المحب للناس والخير، مسلمين ومسيحين،أمثال مفيدة وسونا وفكرى وحيدر وإسطاسى وروزالين، وآخرين، وقليلها فيه المثل والعبرة للسلفى المتجهم الشرير الكاذب الكاره للناس وللخير، أمثال ذكرى ومطيع عبدالسميع،وآخرين، ويستغل الأب هذا وذاك فى تعرية الفكر السلفى المتطرف، ويكشف من خلال طريقته السردية، والتى تغنى عن آلاف الكتب الأكاديمية والخطب الوعظية، النوايا والأهداف الخبيثة للسلفيين المتطرفين وسطحيتهم فى فهم الدين،قرءان وسنة وتراث، ونسخهم الكذوب لكل آيات التسامح فى القرءان الكريم بآية واحدة، وهى مايسمونه بآية السيف.
وتجسد الرواية المجتمع المصرى بكل طوائفه وتناقش، من خلال لوحة أدبية وفنية راقية رسمها الكاتب بريشة أدبية بارعة، قضايا خلافية حساسة كالناسخ والمنسوخ والتقليد الدينى الأعمى، والحلال والحرام بالنسبة للشعر والموسيقى والفلسفة والأدب، وترصد محاولات السلفيين المؤدلجين لتأميم الفكر المصرى والعربى والإسلامى والعالمى فى مفهوم واحد ضيق يرفض الأخر ويضخم الذات ويقسم الناس ويدعو للكراهية،و تحمل فى سردياتها وحواراتها حجج أدبية وأسانيد علمية قوية لدحض هذا الفكر المتطرف، بأساليب منطقية ومقنعة، يستبين منها أن الافعال والخصال الحميدة مثل فعل الخير وحب الناس وصلة الرحم، هى الجهاد الحقيقى والمقدس فى الحياة، وليس تكفير الناس كذبا وقتلهم سفكا باسم الدين،وهو ما يؤكد عليه الراوى من خلال عتبات الرواية الـ 21، شخصيات وأماكن، حيث تتضمن كل شخصية، ومن خلال تفاعلها مع المكان الذى عاشت فيه، والبيئة الثقافية التى أثرت عليها، خصلة طيبة أو ميزة إنسانية أو قيمة جميلة،استقاها صاحبها من الحياة فى القرية العتيقة، ولكن افتقدها الابن الضال تحت وطأة خطف السلفيين له.
وما يضفى على الرواية طابع الإثارة والروعة، بحسب قراءتى لها، أنها تقوم بكاملها ومن أولها إلى آخرها، وعلى مدار الـ 19 عتبة المتبقية، على “ثالوث روائى”، أشبه بالثالوث المقدس عند الأقباط، يمكن تسميته بثالوث “الأب الابن النبؤة”، وهو ثالوث متماشى مع ثالوث أخر “الجدار الصهريج الماء”، وكلاهما يرمزان إلى الخير الذى خطفه السلفيون المتأسلمون بشرهم وأفكارهم الإرهابية، ويوجد بالرواية شواهد عديدة تشى بأن هذا الثالوث موجود بالفعل، منها، قول الأب :”لكنهم تخيلوه، ثم ألقوه على جسدى وأنا أدب أمامهم فى شوارع التراب. وطالنى الوعى على هذه الحالة، فأدركت منذ سنوات بعيدة أننى أنت، وأنك أنا.”، ومنها أيضا موت الشيخة زينب فى نفس يوم مولد الابن، كدلالة على مولد التطرف بموت الوسطية ومولد التعصب بموت التسامح، حيث يقول الراوى ” يوم ولدت أنت رحلت هى، كانت مصادفة غريبة”.
وتكمن أهمية هذا الثالثوث فى أنه الإطار المتحكم فى كل أحداث الرواية وشخصياتها وعتباتها، خاصة أن الشيخة زينب التى نبأت الجدة بأن حفيدها سيكون إرهابيا، عادت بعد وفاتها للأب وهو جالس مع زوجته،وأعطته بشارة الأمل، بأن الابن سيعود إلى الطريق الصحيح، وهو طريق التوبة بعد الخطيئة، حتى ولو كانت خطيئة كبرى باستثناء الشرك بالله، و يوحى ذلك فى النهاية لذهنية المتلقى بأن الابن عاد بالفعل، لحضن أفكار أبيه، سواء كان المقصود به هو الابن فى الرواية، أو الأجيال القادمة فى القرية باعتبارها رمزا لمصر كلها،وهذا ما يضفى على الثالوث المشار إليه طابع المصداقية، ويؤكد أنه ثالوث روائى متكامل يمكن تسميته، بحسب رؤيتى له، “باسم الأب الابن النبؤة الطريق الواحد”، وما يعزز من هذا وذاك،هو أن الشيخة زينب تبدو كما لوكانت روح الله فى القرية، كما أن لها تأثيرا قويا على مجمل الأحداث والشخصيات،بدليل تحويلها لحيدر العمدة من شرير كاره للأخرين إلى طيب متسامح مع الجميع،وكأنها الروح القدس فى العالم الخاص برواية السلفى.
ويسير الكاتب فى العتبات من الأولى إلى الأخيرة، أى من جدار وصهريج الشيخة زينب إلى بيت الجد “1” و “21”،وتنقسم العتبات الـ 19 المتبقية إلى أربعة أنماط من الشخصيات، يؤدى كل نمط منها دوره المحدد له لتحقيق الهدف العام للرواية وتوصيل رسالتها للقارىء، فهناك عتبات وشخصيات لكشف أفكار السلفيين الخاطئة عن أمور جدلية فى مجتمعنا كالرقص والموسيقى والشعر والفكر اليسارى، كعتبات سنية “16”، وصفوان”13″، وعاطف الزنط”8″ وفكرى أفندى”15″، وهناك عتبات لشخصيات تافهة بمنظور العقل، ولكن لها تأثير على الناس بما فيهم المثقفين،مثل غندور مدعى السحر والشعوزة “14” وسرحان الرجل البصاص طول الوقت لروزالين الجميلة”12″، وهناك عتبات لشخصيات أشبه بالشياطين فى أفكارهم وأعمالهم ويستغلهم الكاتب فى دحض أفكار السلفيين المتطرفين مثل، مطيع عبدالسميع “19”، وزكرى”17″، بالإضافة إلى الشيخ إسماعيل إمام المسجد المعتدل الذى يفند أفكار السلفيين المتطرفة بالحجة والبرهان وبالأدب الجم”20″.
ويتمثل النمط الرابع من العتبات فى شخصيات طيبة وخيرة ومتسامحة مع الأخرين، كان بعضها على غير ذلك فى شبابهم وهداهم الله، ويستغل الكاتب بعض هذه الشخصيات فى توصيل رسالة إيمانية مفادها عدم التعجل فى الحكم على الناس بالإيمان والكفر، ويستغل بعضها الأخر فى التأكيد على حقيقية دينية مفادها أن الطيبة وعمل الخير والعيش بالحلال المصحوب بالإيمان بالله هى الجهاد الحقيقى ومفتاح دخول الجنة،وتضم هذه العتبات تسع عتبات من الثانية إلى الحادية عشرة، باستثناء العتبة الثامنة، فهذا سالم السويركى يسقى الناس من الزير ويهديه لله للصلاة فى أخر حياته”2″،وهذه مفيدة الطيبة الراضية، تحملت زوجها القاسى،وزرعت شجرتين وبنت مصطبة لإراحة الناس الأغراب”3″،وهذا يوسف إسطاسى قبطى، متأمل مبتسم،لايضرب الغنم بقسوة ولا يوقد نارا على عشب أخضر، حتى لايؤذى روح النبات”4″،وهذا حيدر متغطرس ومتكبر ولكن حياته تغيرت تماما بكرامة من الشيخة زينب بعد وفاتها، وتزوج امرأة فقيرة وانتظم فى الصلاة ووزع غلال أرضه على الفقراء وصار يوزع عليهم الشاى بنفسه”5″، وهذه سلوى امرأة طيبة تزوجت رجل عاش عالة عليها وتركها وعيالها وسافر للخارج،وظلت هى راضية ومخلصة له محافظة على شرفه “6”، وهذا أبوسعيد الملقب بكبير العبيد على سبيل السخرية، جاهد خصومه بالكلمة الطيبة وتسامح مع كارهيه وأماط الأذى عن الطريق”7″، وهذا عطاالله شخص فقير أنقذه العمدة من الضياع فتفانى فى خدمته وربى ابنه وابنته وعلمهما من الحلال، حتى تخرجا من الجامعة “9”، وهذا عمران رجل صوفى طيب زار بيتا كان أهله يضجون من الجوع،وكان ذلك فأل خير كبير على زوجة أبوسريع وأولاده الصغار “10”، وهذه روزالين قبطية توحد الرب فى الأسواق وتصلى على النبى عند الفصال فى البيع والشراء، وتمشى راضية فلا تؤذى تراب الأرض”11″.
ويعرى الكاتب من فوق عتبات الرواية، الواحدة تلو الأخرى، أفكار السلفيين المتطرفين ويهدمها على روؤسهم، وذلك من خلال سرديات وحوارات عميقة الدلالات و المعانى، حيث يقول الراوى لابنه فى العتبة الثانية:” سامحك الله، تركت الجوهر وأمسكت فى المظاهر الفارغة”، ويقول له عن سليم السويركى، القنوع الراضى بما قسمه الله له،و الذى لم يتزوج إلا واحدة ولم ينجب منها إلا بنتا واحدة،:”لم يفعل الرجل مثل شيخك الذى يمتلك أربع فيلات فاخرة متجاورة، يضع فى كل واحدة زوجة، ويجلس بينهن، وذهنه غير مشغول إلا بالوصفات الطبية التى تمكنه من إشباعهن. يشتريها من حصيلة ببيع اسطواناته التى تتزاحم فى درج مكتبك.”
وفى حديثه عن “سونا الرقاصة” فى العتبة الـ 16، يشرح الأب لابنه أنها هزت وسطها لآلاف الناس، ولكن جسدها لم يهتز إلا تحت زوجها فى الحلال، ويؤكد له أنه حاول معها فى شبابه ورفضت، وتأكد بنفسه أنها سيدة شريفة وطاهرة، ويسأل الأب ابنه “ما يدريك أنها قد تكون عند الله أعلى منك وأقرب؟ وربما أعلى من شيخك الذى تكاد أن تعبده؟”، ويستدل على ذلك بسردية عميقة المعنى، يقول فيها لانبه”، بعد أن برهن له على أن القتل فى الإسلام أبشع من الزنا، ” وهنا أقول لك: كم مرة تسبب بعض شيوخك بتخرصاتهم وتحريضهم فى إزهاق أنفس الكثيرين والكثيرين. أما الغازية فلم ترتكب حتى الزنا.”
ويؤكد الكاتب فى العتبة الـ 18 أن السلفيين المتطرفين يتسمون بطابع الخيانة والغدر،ويستدل على ذلك بقيامهم بسرقة بندقية متولى شيخ الخفر بالقرية،على الرغم من أنه رجل طيب ومتسامح ويؤدى واجبه فى حراسة الناس وممتلكاتهم على أكمل وجه،كطبيعة كل المصريين، حيث يقول الراوى:” اقتربوا منه، وسلموا عليه، فأعطوه الأمان، لكنهم فجأة خانوه، وغدروا به. لم يفعلوا سوى ما يعرفونه، الخيانة والغدر. وكل شىء مبرر لديهم، فالكتب الصفراء مملوءة بكلام يرطب نفوسهم، ويوهمهم أن ما فعلوه حقا، وثوابه الجنة”، ويكشف الكاتب فى العتبة الـ 19، من خلال شخصية مطيع عبد السميع، والدكتور راضى عبد الجبار، ومن خلال علاقة الأسماء بسمات أصحابها، النقاب عن حقائق الشخصية الإخوانية وآلاعيبها، فى سبيل تحقيق مصالحها الذاتية، وتجنيد الفقراء وأنصاف العقول للعمل لمصلحة الجماعة، حيث يقول الراوى عن مطيع عبد السميع بعد أن نجح راضى عبد الجبار فى تجنيده: ” : “كانوا يسلمونه مبلغًا كبيرًا من المال، يوزعه على “المؤلفة جيوبهم” من الطلاب الفقراء الذين يقطنون المدينة الجامعية، لاسيما طلبة الطب والهندسة، لكنه يبدأ دوما بذوى القربى من طلاب دار العلوم”.
ويؤكد الكاتب فى العتبة التاسعة من خلال شخصية عطالله، على العلاقة الوطيدة بين الإنسان المصرى ووطنه مصر، ويكشف الموقف الحقيقى للمتأسلمين من الوطنية والوطن، حيث يقول الأب لابنه السلفى، فى سياق المقارنة بينه وبين عطا الله،: “فوطنك هو ما فى رأسك من أفكار، وأينما كانت فكرتك كانت دولتك، وإن شئت أن تحدد لك خريطة قلت: “من غانا إلى فرغانة” وقسمت العالم إلى فسطاطين: دار إسلام فيه إخوانك، حاملو السلاح والأفكار القديمة، ودار حرب، وهو بقية العالم.”
ويضع الكاتب لوحة فنية دقيقية لشخصية السلفى المتطرف، فهو فى عتبة يوسف اسطاسى يشبه الخروف الضال، متمثلا فى شخصية أسعد وحكايته المثيرة منذ طفولته وحتى شبابه، وإطلاقه للحيته وتملقه للعمدة واختلاق المبررات الدينية لكل أفعاله السيئة والمشينة من الكتب الصفراء والخضراء، وهو فى عتبة ذكرى شخصيبة لاهم لها سوى الجنس، ودائما ما يفكر بنصفه السفلى، ويحرض رفاقة على القتل وسفك الدماء مقابل الحور العين فى الجنة، والفتيات الروس الحسان فى الدنيا، وهو فى عتبة مطيع عبد السميع شخصية إخوانية انتهازية،تبحث عن المال والجاه تحت شعار الغاية تبرر الوسيلة، وميال بطبيعته للسمع والطاعة، وكلهم صور دموية خالية من الإنسانية،صار ابنه “الغائب الحاضر” على شاكلتهم، وهو ما يؤرق الأب” الحاضر الغائب” ويدفعه إلى تلك الرحلة الطويلة والشاقة بالمنظور النفسى لاستعادته من فك الإرهاب والإرهابيين.
وفى عتبة روزالين، يكشف الأب كيف سيطرت الأفكار الماضوية على عقول السلفيين،حيث يحكى الأب قصة حب جده لفتاة مسيحية تدعى روزالين كانت أجمل بناة الدنيا، فى وقتها، و أحبها جده بصدق وأنشد فيها الأناشيد، بعد يقينه التام باستحالة زواجه منها، وهنا يوجه الأب سؤالا لابنه يكشف جانبا من فكر السلفيين الماضوى وسلوكهم العنيف:”أترى يا ولدى، لو كنت بينهما فى هذا الزمن بما فى رأسك تلك، ألم يك رصاص قد فرقع، ودماء قد سالت؟ أم كنت ستقول لجد أبيك: اخطفها ولتكن من سباياك.”
ويستطرد الكاتب فى كشف نوايا السلفيين،خاصة الإخوان فى خطف واغتصاب المواطن والوطن، ويتجلى ذلك بوضوح شديد فى حكاية الشيخ حسن وماريا القبطية وتحرشه بها وحشره لها فى ركن الحجرة المظلمة، وكأنه يسقط بذلك على حسن البنا المرشد العام لجماعة المسلمين، وكأنه يريد أن يقول بالإيحاء والتورية أن الدجاجة هى مصر، وأن ماريا هى كنوزها ومواردها الكثيرة، وهو ما يوجد له شواهد على أرض الواقع القريب، منها فتح عضوية الجماعة لبعض المسيحيين، ويوجد لها شاهد عميق الدلالة فى ذات الحكاية، يتمثل فى أن ماريا زجرت حسن وقالت له عيب ياشيخ حسن، فقال لها ” حين تقوم دولتنا ستصبحين جاريتى. سأسبيك وتكونين ملك يمينى. الدولة قادمة لا ريب فيها، فما الداعى للانتظار.”
ويستميل الأب فى عتبة عاطف الزنط قلب ابنه السلفى إليه، ويفند أفكاره الخاطئة عن الشعر والغناء والموسيقى، بسبب سطحية أفكاره وضحالة الكتب التى قرأها، والتى جعلته يقول لأبيه “ـ لو اختفى الشعر من الحياة، وخرس الغناء، وغارت الموسيقى، فلن ينقصها شىء”، حيث يقول الأب للابن:” كنت تختلى لتستمع إلى شرائط كاسيت معبأة بقذائف من كلام، تطلقه حنجرة معطوبة، عن عذاب القبر، والناس الذين عادوا إلى الكفر، ونواقض الوضوء، وفريضة الجهاد، التى اختزلها فى حمل السلاح والولاء والبراء، الذى صنع جدارًا خشنا عزلك عن بقية الناس.”، ويقول له فى عتبة صفوان والربابة، “هل تعرف أن الفقيه الكبير “أبو نصر الفارابى” هو مخترع آلة القانون؟، ألم يذكر أمامك أى من شيوخك أن “أبو حامد الغزالى”، الذى يصفونه بأنه “حجة الإسلام” قد قال: “ﻤن ﻟم يحرﻛﻪ اﻟرﺒﻴﻊ وأزﻫﺎرﻩ، واﻟﻌود وأوﺘﺎرﻩ، ﻓﻬو ﻓﺎﺴد اﻟﻤزاج ﻟﻴس ﻟﻪ ﻋﻼج”؟ أم أنهم ينتقون ما يفسدون به عقولكم؟”، وزاد الأب على ذلك فى ذات العتبه بأن قال لابنه:”وحين غرقت أنت فى أمواج السلفية المتلاطمة كم تمنيت أن يأخذ الله منك كل ما درسته فى الجامعة، وكذلك ما حشى به الشيوخ رأسك، ويمنحك رأس “صفوان” وربابته.”
وتتسم اللغة الحوارية فى الرواية بأنها منطقية وجاذبة للمتلقى، خاصة أنها تناقش أفكار لها أهميتها القصوى لدى التيار الدينى المتأسلم، وعلى احتكار تفسير وتأويل النص الدينى، وتحريم الموسيقى، ففى الأولى، يتحدث الكاتب بسردية حوارية لها دلالة كبرى، حيث يقول الراوى فى حديثه إلى ابنه:”(ـــ ألم ينته الوحى بعد محمد؟
. وجاءنى صوتك زاعفا:
ـــ بلى.
ـ هل معك أو مع أحد من شيوخك توكيل من السماء؟
وجاء صوتك واهنا:
ـــ لا.
فقمت، وفردت جسدى، وأمسكت السور بكلتا يديَّ، وصرخت بكل ما أوتيت من قوة:
ـــ إذن، فليكمل العقل المسيرة مع الوحى.”)
ويتحدث الكاتب بسردية حوارية أخرى لكشف خطأ السلفيين فى تحريم الموسيقى، يسأل فيها ابنه أسئلة منطقية ويتركه فى النهاية يجيب عليها بنفسه، حيث يقول الأب لابنه :
(“ونظرت إليك طويلًا، وسألتك:
ـ على أساس تُحرم الموسيقى؟
ـ المعازف صوت الشيطان، ومن يسمعها سيُصب الآنك فى أذنيه يوم القيامة.
ـ من أين أتيت بهذا الكلام؟
ـ نقله شيخنا من كتاب “المغنى” لـ “ابن قدامة المقدسى”.
ـ وهل ابن قدامة إله؟
ــــ لا.
ـ نبى؟
ـ لا.
ـ معه توكيل من السماء؟
ـ لا.”)
ويستخدم الكاتب المنطق فى إقناع ابنه بأن فكرى أفندى اليسارى ليس كافرا، ويذكره بأنه كان حافظ للقرءان ويوزع التوت على أطفال القرية لإسعادهم، ويستخدمه أيضا فى إقناعه بأن الراقصة “سنية” ليست كافرة، على أساس أنها لم تزنى أبدا ولم تخون زوجها أبدا، ويكشف من خلال عتبتها أن السلفيين لايؤمنون بما يقولون للناس من أحاديث تؤكد أن العبرة بالخواتيم، وأن الله قد يهب الإنسان الهداية فى آخر أيامه، فيكون من أهل النعيم، حيث يقول الأب لابنه بهذا الخصوص:” ألا تؤمن أنت بهذا، وتردده ليل نهار؟ لماذا تتنكر إذن لإيمانك؟”.
ويلجأ الكات إلى نفس المنطق فى عتبة أبوسعيد الموصوف بقصد السخرية بأبوالعبيد، فالرجل كان يتعرض للإساءة من سلفيين سطحيين فيسامحهم من باب إذا خاطبكم الجاهلون قولوا سلاما، ويكشف الكاتب من خلال عتبته أن السلفيين يقولون مالا يفعلون، حيث يقولون للناس لافرق بين عربى وأعجمى إلا بالتقوى، ويرفضون فى الوقت نفسه إمامة أبوسعيد للمصلين بسبب بشرته السوداء، ويتحاكون عن بلال بن رباح ومآثره بالليل ويسيئون لأبى سعيد بالنهار، ويتباهى الأب بقدرة أبوسعيد على مجاهدة كارهيه بالكلمة الطيبة، ويتأسى ويشعر بالحسرة لأنه ابنه افتقد هذه الأسلوب التسامحى لهداية الناس، حيث يقول لابنه:” كان يمكنك أن تأتى لتدور على بيوت هذه القرية وتقول لناسها: “أبو سعيد” مثلكم، بل أفضل منكم، لأنه أحسنكم أخلاقا.”
هذا ولم تخلو الرواية من المضامنين السياسية والصوفية، ويظهر ذلك فى مواطن عديدة منها ربط الجد بين فعلة السادات ومشهد استشهاده على أيدى الجماعة الإسلامية، ومنها، قول الأب لابنه “وحين رحلت أنت إلى “أفغانستان” وجئت أنا إلى قريتنا لأزور جدتك، كان هو لا يزال على قيد الحياة، وحين حكيت له ما أقدمت عليه، ابتسم في مرارة وقال:”أنور السادات” يسلم أولادنا للمخابرات الأمريكية لتستعملهم رصاصا تطلقه على الروس في الكهوف الباردة، وفوق قمم جبال تكنس الريح كل ما عليها.”، ومنها كذلك كشف الكاتب بدور الإخوان فى الجهاد المقدس ضد الروس لحساب الأمريكيين وبإيعاز من وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية الـ”سى آى إيه”، وذلك بقول الأب لمطيع عبد السميع” مطيع عبدالسميع:”ـ أنتم من صنعتم الجحر الذي انجذب إليه النمل من شتى أنحاء الأرض.”
ويتجلى المضمون الصوفى بالرواية بطريقتين، السلوكى واللفظى، حيث يغلب على سلوكيات كثير من الشخصيات والعتبات طابع الصوفية، وفى القلب منها الشيخة زينب، ويظهر الجانب اللفظى المصحوب بإطار فلسفى لهذا المضمون فى كلام الشيخ إسماعيل، فعندما سأله الراوى عن سر طقوسه، صمت برهة، ثم قال:”ـيذهب بعضنا إلى النهر ليغسل جسده، لكن أغلبنا ينسى أن يغسل روحه.”، وعندما سأله أين نغسل أرواحنا؟، أشار له إلى الغروب والشمس، وأخبر الأب بأن الروح يغسلها الشجن.

مقالات من نفس القسم