د. محمد مصطفى الخياط
مرت قرابة أربعة عقود على آخر مرة نزل صاحبنا فيها شارع السكة الجديدة بمدينة المنصورة، كان وقتها طالب جامعي يتأبط أحلامه ويبحث عن مستقبله، ولا أُخفيك سرًا أنه على طول طريق العمر كان يتخلص من أحلامه واحدًا تلو الآخر، تمامًا مثلما تضطر المراكب للتخلص من بعض حمولتها الزائدة لمواجهة سوء الأحوال الجوية أو لرفع الغاطس قليلاً.. كانت أحلام صاحبنا أكبر من إمكاناته.. وما أصعب أن تعوق أحلامك حركتك!
تأمل الشارع الذي تغيرت ملامحه أيضًا.. صار أكبر سنًا مما توقع، أنهكته العشوائية والمخالفات، تجسد له شيخًا عجوزًا يقف متكئًا على عصا الزمن بعد أن أرهقته الأمراض..
بحث عن المكتبة التي ابتاع منها أول ديوان شعر لنزار قباني. لم يكن قد عرف نزار السياسي بعد، رآه عالـمًا رحبًا للحب والفراشات والعصافير. وقف صاحبنا يومها أمام البائعة التي لم تتجاوز العشرين من عمرها خَجِلاً كأنما على وشك ارتكاب حماقة. سارت بحذاء البنك الزجاجي المستطيل الشكل، الفاصل بينها وبين الزبائن، وتبعته قلقه بعض الشيء إلى أن وقف قبالة الفاترينة الزجاجية القائمة على مدخل المحل وأشار إلى الديوان الواقف بكل شموخ بين أقرانه من دواوين لا تقل جرأة في عناوينها وقصائدها، راوحت عينيها النجلاوين بينهما؛ الديوان وصاحبنا، وعلى وجهها نصف ابتسامة وأدركت سبب خجله عندما سألته عن عنوان الديوان، كان من الصعب عليه أن يقول لها “أحبك أحبك والبقية تأتي”، ولو كانت عنوانًا لديوان.
ابتسم صاحبنا للذكرى ووبخ نفسه على ضيق تفكيره، وقال في نفسه “ماذا لو قلت لها ديوان البقية تأتي؟، أو حتى عنوانه كاملاً؟!”.. ثم هز رأسه وزم شفتيه عندما تذكر أن خجله هذا لايزال يلازمه ويقطع عليه طرقًا عدة..
تغير شارع السكة الجديدة وتحولت المكتبة العريقة التاريخ والكبيرة المساحة، إلى محل لبيع الملابس الجاهزة.. يا لها من مأساة!!، مؤكد أن خلف هذا التحول الدرامي قصة حزينة لا تقل عن مشهد بيع ورشة نجارة الحاج سلطان في مزاد علني في فيلم “سواق الأتوبيس”، للمخرج عاطف الطيب.
الورشة التي أضاعها أحد أزواج بناته، فحجزت عليها الضرائب، وتهرب باقي أزواج بناته من مساعدته، انشغلوا بتجارتهم الخاصة فخرجت الورشة من دائرة اهتماماتهم، تحولت إلى مطمع.. الكل ينتظر نصيبه.. ووحده، وقف حسن، الابن الكبير للحاج، وحيدًا، بلا حول ولا قوة. حسن الذي لم يكن قد مضى على عودته –هو ورفاقه- من حرب أكتوبر الكثير، بدا غريبًا في مشهد غريب، ووسط صخب المزاد كان يتساءل؛ هل هذا ما كنا نحارب من أجله؟
ربما مر صاحب المكتبة بنفس التجربة.. انخفضت مبيعات الكتب وتراكمت الديون، ليجد أمامه ذات صباح شتوي غائم، رجلاً ضخم الجثة يرتدي ملابس فاقعة اللون يكاد يسد الباب المكتبة بجسده ويلقي السلام، فيرد عليه بصوت واهن حطمه الإحباط واليأس.
في خطوه الواثق داخل المكتبة، مسح الرجل بعينيه الأرفف الخاوية المكسوة بالتراب والعنكبوت، بينما تلمع حول رقبته ومعصمه أساور ذهبية وتتدلي من يده ميدالية مفاتيح ذهبية، خاطب الحاج وهو يمسح الكرسي القريب بمنديل زهري اللون؛ “تسمح لي أقعد يا حاج؟”، لم يحرك الأخير ساكنًا، بدا منزويًا محاصرًا، كفريسة تنتظر نهايتها المحتومة، وتعلم أن مقاومتها مسألة وقت، لا أكثر.
مسح الرجل المكتبة بعينيه ثانية، لكنه هذه المرة رآها تضوي بالنور الساطع، والسقف المعلق تطل منه عيون كشافات الإضاءة، وفتحات التكييف المركزي، رأى الأرفف المكتظة بالمعروضات من ملابس جاهزة من المنطقة الحرة ببورسعيد والمستوردة يأتي بها تجار الشنطة من بيروت والدول الأجنبية، غطت أصوات الزبائن المتزاحمين على ضجيج السماعات الموزعة على الأجناب، وتاهت أصواتهم.
أفاق الرجل من حلمه وعاد للواقع أكثر تفاؤلاً ونشاطًا، هز المسبحة الفضية في يده، ونظر للحاج وبعينين منفرجتين قليلاً، قال بصوت أشبه لفحيح قادم من جوف جحر عميق، “عشان خاطرك ها أزود 20 باكو”، ثم أردف كأنما يلاحق مُطَارَد قَعيد “سايق عليك النبي ما ترفض يا حاج حكيم..”، ثم رفع صوته مناديًا “واد يا سُمعه!!.. سُمعه!!..”، فهرول شاب عشريني نحوه، وقال بصوت متهدج “أوامرك يا حاج”، فرد بغيظ “حاج في عينك.. قلت لك ميت مرة باشمهندس”، ثم بنرفزة وهو يطوح ذراعه في الهواء “انجر هات الشنطة من تحت الكرسي”، فاختفى الشاب وعاد في لمح البصر، يحمل حقيبة بلاستيكية سوداء، مد بها ذراعه وهو يقول بصوت مرتبك “تحت أمرك يا باشمهندس..”، تناولها منه بغلظة دون أن ينظر في وجهه ووضعها أمام الحاج الجالس بلا حراك، كأنما لا أحد معه.
ارتفع صوت الرجل “آدي الفلوس، وفوقها العشرين باكو، كلها كاش وتحت أمرك.. نقرا الفاتحة” وراح يتخيل مراسم الافتتاح المبهرة، فيما كان الحاج قد شرد بذاكرته بعيدًا، في الاتجاه المعاكس، تتردد في أُذنيه أصوات المهنئين الذين راحت تتلون وجوههم بأضواء حبل نور بطول العمارة وتدور من حولهم صواني الشربات ابتهاجًا بافتتاح المكتبة..
وفي الوقت الذي مسح فيه الرجل وجهه بكفيه إيذانًا بانتهائه من قراءة الفاتحة، اخترق آذان الجميع صوت عدوية قادمًا من المحل المقابل للمكتبة، عابرًا الأسفلت الفاصل بإيقاعات راقصة يغني؛ “زحمة يا دنيا زحمة.. زحمه وتاهو الحبايب. زحمه ولا عادشى رحمه.. مولد وصاحبه غايب”…
ابتسم صاحبنا في مرارة وردد في نفسه “إنها السكة الجديدة التي نسير فيها منذ عقود، ولم تنته بعد !!”، ثم أكمل سيره خارجًا في اتجاه الميدان