السقوط

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

"أخاف هبوط السلالم جدًا، فلا أنزل سلمًا وأنا أرتدى حذاء بكعب مرتفع.

تتحسس قدمى السلالم الرخامية الملساء الزلقة لسلمنا، يشتد بى الخوف وأنا أحمل وليد شقيقتى، كى أذهب به إلى الوحدة الصحية لتطعيمه وأخذ عينة من دمه لإجراء فحص اليود، أضم الرضيع إلى وأنا أتخيل انزلاقى كل لحظة، وماذا سأفعل إذا حدث ذلك؟.

وقد كان ما توقعت، فقدت اتزانى وانزلقت، كان الطفل نائما بين ذراعى، ضممته أكثر لصدرى كى لا أفلته، استسلمت لسقوطى حتى تلاشى أثر التعثر، ونفدت دفعة الطاقة، وانتهت كتلة جسدى لمستقرها، ظللت فى سكونى فترة حتى استجمعت نفسى واستطعت النهوض، كان الوقت باكرًا، وكانت وقعة أنيقة، كأنها زحلقة أرجوحة دون شقلبة، تلقت عضلات فخذى الخلفية كل الاحتكاك، وقامت مقعدتى بدور السنادة الداعمة، فلم أصب بأذى.

سقطت تسع درجات من السلمة الأولى بعد البسطة إلى البسطة التالية.

فى السلمة الأولى: كنت أميرة، سقط عرشها، هل سقط لأنى تحركت بطريقة خاطئة؟ أم لأنى لم أتحرك، وقفت، تجمدت، فتحولت لصنم، لحجر، يسّر على الجاذبية أن تأخذنى معها لأسفل.

فى الثانية: كنت امرأة مغدورة، فقدت اتزانها من المفاجأة التى كانت تتوقعها.

فى الثالثة: سقط فى الجب.

فى الرابعة: صدمة.

فى الخامسة: هوّة.

فى السادسة: بدأت أفهم اللعبة، وأتحكم فى سقوطى بزيادة احتكاكى برخام السلم والضغط عليه.

فى السابعة: سقطت الأقنعة، وتبدى أن الحكمة ماهى إلا لعب ولهو، فعدت فتاة صغيرة تركب الزحاليق وتسقط فى الرمل.

فى الثامنة: عدت لمنبت جذورى، وأدركت أنى سأستقر، فارتكزت وترست قدمى على البسطة التالية.

فى التاسعة: سقطت خصومتى مع ما حدث، سقط حزنى وغضبى، وأكملت هبوطى بثقة أن الأمر لن يحدث ثانية.

وجلست على البسطة، كأنما سحرتنى السلالم الرخامية الرمادية فانجذبت إليها.

لم يكن سقوطا قاسيًا صلدًا، لكنه كان انزلاقًا تردد صداه المكتوم فقط فى داخلى، وعبرت عنه بصرخة مباغتة سريعة خافتة، ربما تعوّد سكان العمارة سماعها من الصاعدات كلما رأت إحداهن قطة من القطط الأربع التى تتناثر على سلالم العمارة.

ليس كل سقوط بهذه الخفة، بهذه الاستقامة.. هناك سقوط لولبى، أفعوانى، ينحدر بك فى أحراش وغابات كثيفة، يبدأ من نقطة محددة، لكنه لا يلقى بك على استقامتها، بل يحيلك للدائرة الجهنمية حيث لا بداية ولا نهاية.. بل تواطؤ مستمر.

متى بدأ سقوطى؟ متى بدأ التواطؤ؟ عندما أخبرنى أنه كان متزوجًا قبل ذلك، قالها كجملة اعتراضية لا محل لها فى نفسه ولا وقع لها أو تأثير علىّ، كأنما يخبرنى أنه اشترى قميصًا أو بنطلونًا ولم يعجبه، بدا الأمر وكأنه لا شىء، حتى إننى تساءلت: لماذا أخبرنى؟.

هل كان علىّ أن أسأل متى تزوج؟ لماذا انفصل؟ هل لديه أطفال ؟ لا شىء من هذا ورد ببالى، من هنا، من تلك اللحظة بدأ تخديرى، وقعت فى التنويم المغناطيسى، فى دائرة اللا وعى.. ماذا لو كانت هذه العبارة فخًا امتحانًا كى يعرف مدى تمسكى به، ماذا لو أنى سمعت صياغة العبارة بطريقة خطأ، لو أنه كان يقول هل تقبليننى لو كنت متزوجًا قبل ذلك؟ لو أننى رفضت الفكرة سيقول إننى لا أحبه، وأريد الارتباط به لأن ظروفه مناسبة وليس لشخصه أيًا كان، سأجيبه بما يحب الرجال أن تكون المرأة لطيفة متفهمة، تأخذهم على علاّتهم، لقد استفدت من تجاربى السابقة..

قررت أن أحب هذا الرجل، أخذت تفاصيله تنغرس فى روحى.. طوله الفاره كأشجار النخيل الملكى السامقة الواصلة لقرص الشمس، كان كملك فرعونى وجهه منحوت ولونه أشقر فى ضربة لمفهومى عن الرجولة المرتبطة بالسمرة، شعره المكتمل ينبئ بسلالة من أطفال وسيمين أقوياء، لم يكن بليغًا كانت هناك تهتهة خفيفة أو لجلجة فى كلماته، لكن بطلبه الزواج منى حفرته فى روحى، وبسؤاله الصريح أزاح من قلبى كل من دخلوه، وفى الليلة التى وافقت فيها على لقائه بأبى، غسلت قلبى من آلامه وأفراحه وأحزانه وأفرغته من كل شىء كى يستقر به. لم يقل لى إنه يحبنى قال يريد أن يتزوجنى، وهذا ما كنت أحتاجه”.

…………………..

مقطع من رواية “شجرة العنكبوت”

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون