شروخ الصيف

شروخ الصيف
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد اللطيف النيلة

*الصهد:

.........

   أشعلت المذياع. وصلت رأس هوائيّه بطرف سلك نحاسي، وشددت الطرف الآخر إلى أحد قضبان النافذة. أدرت المؤشر قليلا إلى أن عثرت على إذاعة لندن. رحت أتابع تطورات أزمة الشرق الأوسط. يختفي صوت المذياع ثم يرتفع من جديد. موجة أخرى تشوش على موجة لندن. أدرت المؤشر مرة أخرى. ضيعت موجة لندن. عثرت عليها بعد قليل. الصوت مشوش يرتفع إلى حد الإزعاج ثم يصبح خفيضا إلى أن يختفي بالمرة. ضربت المذياع بقبضة يدي. تمددت فوق الفراش، شممت رائحة الصنان وتصببت ذقني عرقا. رفعت عيني إلى الساعة: كانت تشير إلى الثالثة وخمس وعشرين دقيقة. أغمضت عيني وحاولت أن أنام. كان صهد الغرفة خانقا. تقلبت في الفـراش، فلم أجد راحة.

قمت بعد لحظات إلى مجلة قديمة، تصفحتها واستوقفني  مقال يوضح موقف إسرائيل من أزمة الشرق الأوسط. قرأت في الشعر عن جدار كنا نتكىء عليه فصار يتكىء علينا. أغلقت المجلة وطرحتها جانبا.

   خرجت من الغرفة وعبرت صحن الدار في اتجاه المرحاض، تبولت ثم فتحت الثلاجة لأشرب. دخلت إلى الغرفة الأخرى  التي رتبت حشياتها واحدة فوق الأخرى. فرشت حصيرة وجلست أقرأ رواية.

   أزعجني الصهد فألقيت الرواية جانبا. تمددت من جديد، أغمضت عيني. ذهبت يدي تتحسس شعر عانتي. سمعت طرقا على الباب، لم أقم. بعد قليل دخلت ثلاث نسوة جئن للاطمئنان على معدتي. انتصبت واقفا، مشطت شعري بيدي معا وخرجت لأسلم عليهن. تركتهن يتبادلن الحديث مع أمي وصعدت إلى السطح. دخلت  إلى الغرفة اليتيمة فألفيتها ساخنة كحمام، تحولت إلى الجدار المطل على سطح جميلة. انتظرت قليلا فيما أنا منشغل بالنظر إلى حملين صغيرين. ظهرت جميلة فاستطعت أن أنتزع منها الموعد الذي أرقني لعدة ليال. حركت يدي إشارة وداع وعدت أدراجي إلى الدور السفلي. شربت نصف قنينة من الماء وجلست قبالة التلفزة.

 

*بعض ما رأيته في التلفزة:

……………………

    قريبا من المكان الذي وقع عليه اختياره، كان الأطفال مستغرقين في عالم رملي، يصوغون كهوفا وقلاعا وقصورا، يهدمونها، ثم يشكلونها مرة أخرى. كان المكان أضيق من أن يتسع لاستلقاءته،  فأراح يديه من ثقل الحقيبة والشمسية، وأشار إلى الأطفال أن يبتعدوا، وحين ترددوا في الاستجابة، أزاح نظارته، دنا من أحدهم مكررا أمره بالابتعاد، فيما امتدت يده لتمسك الطفل من أذنه، فانفلت هذا هاربا، ولحق به الآخرون محملقين في الوجه الممتلئ الصارم.

   نصب الشمسية، وأخرج من الحقيبة أشياءه، ثم استلقى متنفسا الصعداء. أمامه امتد البحر هائلا أزرق، يغسل بأمواجه الأجساد العارية، يحتضن قوارب تتوغـل فيه بعيدا، ويكسر أشعة الشمس اللاهبة. من حوله انتشر الناس فوق الشاطئ صاخبين متمددين، هادئين، حالمين.

   أشعل سيجارة، وراح يسحب الأنفاس وينفث الدخان. انهمكت نظراته في قراءة لوحة العراء الفاتن، وأمعن جسمه في الانتشاء برذاذ البحر المالح وملمس الرمل الناعم وخدر الأشعة المتسللة إليه من خلل الشمسية الفاخرة. صب في الكأس قهوة من «الترموس»، رشف بصوت مسموع، وأخذ بصره يمسح عناوين جريدة بحروف عربية، ثم ألقى الجريدة جانبا، وانتقل بسرعة إلى جريدة بحروف لاتينية، تفحصها وغرق في صفحاتها الداخلية. كان يرفع بصره من لحظة لأخرى، يحدق في ما حوله، وينظر إلى ساعة يده ذات السلسلة الذهبية. أقدام الأطفال تتقاذف كرة مطاطية، الأيادي تتراشق بالماء، أنخاب الشهوة تقرع، وهو منهمك في ملء خانات الكلمات المتقاطعة.

   في لحظة خاطفة قفزت الكرة المطاطية فوق الرمال، ارتفعت قليلا، ثم ارتطمت بالترموس. وفي قفزة ثانية ارتطمت بكأس القهوة، فانقلب فوق الجريدة، وتطاير رشاش على وجهه. انتفض ساخطا، رمى السيجارة إلى الأرض بعنف، نهض واقفا وهو يتحسس بشرته المبتلة بالقهوة، خطى خطوتين خارج الشمسية، وأمطر الأطفال بشتائم متوترة لاذعة محركا يديه في تهديد،  ففروا بعيدا وضحكاتهم تترقرق.

   التمس من مصطاف عجوز أن ينتبه لشمسيته وأشيائه. وفوق الرمال سار بجسمه المشرب بالحمرة. مضت عيناه تلتهمان الأشياء من خلف النظارة. ثلاث فتيات خرجن لتوهن من البحر، يتمددن بانتعاش. رمق ذات الوجه الأسمر، غمزها، لكنها أسبلت جفنيها مرخية رأسها على الرمل. شق طريقه منحرفا عن الأجساد. حط نظره على فتاة في «مايوه» أزرق تتخلله ورود حمراء، ابتسم لها فأشاحت عنه بوجهها. حركت يده المفاتيح فانبعث صوت معدني يومض بالإغراء. دنا من الصخرة التي كانت جالسة فوقها، ألقى إليها ببضع كلمات، التفتت إليه متفحصة إياه من رأسه إلى قدميه. أضاف كلمات أخرى ممتزجة بصوت المفاتيح. وبعد الصمت الحذر والنظرات المعاندة وتمطيط الشفتين بادلته الكلام، ابتسمت وسارا جنـبا إلى جنب. انبثق الضحك من الكلمات، وساقتهما الأقدام إلى البحر، غاصت في الرمل المبلول، تشابكت الأصابع، غطسا في الماء،  وداعبتهما الأمواج.

   من غمرة الموج انسحب، تقدم باتجاه الشاطئ، اقتفت الفتاة أثره والبلل يقطر من «المايوه» اللاصق بالجلد. توقف ملتفتا إليها، دنت منه بابتسامة واسعة، تمشيا متحاذيين والشمس تغمرهما بدفء لذيذ. كانت قطرات الماء تنحدر بطيئة فوق جسمه حتى إذا بلغت بطنه المتدلي انزلقت مسرعة، وكانت الفتاة تبدو نحيلة في رشاقة تتضح أكثر إزاء جسمه الممتلئ الأقصر قامة. تبادلا الكلمات وقهقـها ، وحين اختلست عيناه نظرة خاطفة إلى شمسيته البرتقالية، ألقى إلى الفتاة بكلمات أخرى، وقبل أن تهم بالكلام شد على يدها بحرارة مودعا. تركها جامدة في وقفتها والدهشة تعلو وجهها البرونزي، ومضى متمهلا نحو شمسيته الفاخرة.

   بجانب الشمسية كانت تقف فتاة بقميص صيفي وتنورة قصيرة ونظارة، تضغط بيدها على حافة حقيبتها الصغيرة، وتقرع الأرض بمقدمة حذائها. مد إليها يده مصافحا، ناولته يدا باردة بأظافر طويلة، وسحبتها بسرعة نافضة إياها من ماء البحر الذي علق بها، وحركت شفتيها بتوتر مزيحة النظارة عن عينيها الواسعتين. كانت فيهما نظرة تتراوح بين العتاب والغضب. تكلم مشيرا إلى ساعته فيما هو يمتص نبرتها المحتدة، كأنه يقول لها: «لم أنهض من مكاني إلا عندما تأخرت عن الميعاد المضروب». بدا عليها أنها لم تقتنع بما قاله، وتوهج وجهها بالغضب. لكن قبل أن تستدير إلى الجهة الأخرى لتنصرف، انقضت يداه على كتفيها، هزها برفق، فيما كلماته وتعبيرات وجهه تجهد في تذويب الجو المشحون. وفي تلك اللحظة ارتطمت كرة مطاطية بظهره على نحو مقصود، فندت من فمه صرخة صغيرة، وأطلق كتفي الفتاة. التقط الكرة المطاطية من الأرض، هرول لبضع خطوات خلف الأطفال شاتما ساخطا، واستدار عائدا إلى شمسيته والكرة بين يديه، فيما كانت ضحكات الأطفال تترقرق…

 

*بعض ما قرأته في الرواية:

…………………….

   يرفع الدكتور ريموند بساطا قاني الحمرة من حافته، يطويه قليلا حتى يبرز مربع خشبي في أرضية الغرفة. يضغط على زر صغير في قلب المربع، ينفتح المربع الخشبي منقسما إلى مصراعين يتراجعان إلى أن يختفيا. من فتحة المربع يبدو سلم خشبي صقيل مائل. يضع قدميه على أول درجة، وينزل.

          يضع الدكتور ريموند قدمه فوق أرضية المختبر. يعلق معطفه على المشجب ويرتدي وزرة بيضاء. يخرج من أحد أدراج الطاولة ملفا بلون فاتح الخضرة، يضعه أمامه، يعدل نظارته، ثم يفتح الملف ليتصفح أوراقا بيضاء عليها خطوط سوداء ورسومات رياضية دقيقة، يحك ذقنه مفكرا: لقد أمضى وقتا طويلا في البحث والدراسة، وقام بعدة تجارب على النبات والحيوان، خاصة القرود والدلافين، والآن ليس أمامه إلا أن يضع الخطاطة الأخيرة لاختبار مدى صحة ما توصل إليه، وتحديد مواقع القوة والضعف في النظرية التي شغلته طيلة عشر سنوات بأيامها ولياليها. يرن الهاتف، يحمل السماعة، يبتسم عندما يميز صوت امرأة، يقول بصوت معتدل الخشونة:

   – نعم سأحاول. لكن لا تقلقي، سأخبرك في الوقت المناسب.

   – ….

   – أظن ذلك. سأتركك الآن…

   يضع السماعة متمهلا. يظل شاردا: إلى أي حد هو يحب امرأته؟ ماذا بعد الشكليات؟ منذ فترة وهو مستغرق في اكتشافاته الجديدة، ينسى امرأته طوال الوقت، ولا يتذكرها إلا عندما يرن الهاتف أو في اللحظة التي يصطدم فيها بصره بالصورة المؤطرة الموضوعة فوق المكتب. ترى هل هذه المسافة ضرورية بينهما لاستعادة نبض الحب الذي كان في مراحله الأولى متوهجا مشتعلا مرفرفا كطائر ملون يزقزق؟ ألا يمكن أن تصادف في المدينة الأخرى، بين زميلاتها و زملائها، شخصا يثير اهتمامها بشكل تتسع معه الهوة بينهما؟

   قام واقفا كأنما ليتخلص من هواجسه ويعود إلى البرودة العلمية التي تحتم عليه أن يتعامل مع الأشياء بهدوء تام وموضوعية محايدة. سحب الكرسي إلى الخلف قليلا، نقل خطواته فوق أرضية المختبر متجها نحو الباب الذي يفضي إلى المطبخ، وحاول أن يكون مرتاح البال غير قلق على امرأته حتى يستطيع أن يتجاوز أصعب مرحلة في تأسيس نظرية «الحب المتجدد». وابتسم كأنه يسخر من نفسه، لكنه وهو  يتناول غداءه أحس بنوع من الثقة والفخر بذاته، إذ تصور أن نظريته هذه، في حال اكتمالها، يمكن أن تكون، إن لم تكن بالفعل، مفتاحا لدواء مادي وعملي لداء جمود العواطف. فإذا كان هناك دواء يمتص القلق والتوتر، فإنه لا بد أن يتوفر، في المستقبل القريب، دواء للحب: يبتلع الرجل حبة، وتبتلع المرأة حبة، فيغرقان في الحب

 

*ما روته جميلة:

……………

   جلست على الزربية. صبت جدتي الشاي وناولتني كأسا. رحت أرشف الشاي بصوت مسموع فيما كنت أبادل جدتي الحديث.

    ليتك جئت قبل الآن لتري كيف وضعت النعجة الحملين.

   – وضعت؟!

   – بالأمس جاءت القابلة وولّدتها.

   – يجب أن أراها.

   – لقد وضعت حملين جميلين.

   – حقا؟

   – اصعدي إلى السطح لتري بنفسك.

   ارتقيت الدرجات. السطح مرة أخرى. سطح يشبه الحظيرة. دجاجات وديوك. خرفان وأرانب. دائما تتسلق خياشمي رائحة أليفة محببة كرائحة البادية. تقدمت نحو الحملين الصغيرين الضامرين: حمل أبيض، حمل أسود بقوائم مشوبة بالبياض. مسحت على ظهر كل من الحملين. حدقت إلى أعلى: جدار عال مشيد بالآجور الأحمر. تطلعت إلى حافة الجدار وانتظرت.

   من هذه الناحية تشرق الشمس. ومن خلف هذا الجدار أطل عليّ لأول مرة. كان جدي جالسا يقطع الجزر والخيار والباذنجان  إلى قطع صغيرة، وكان يحكي لي عن أبي عندما كان طفلا مشاغبا، وكنت أضحك في فرح ودهشة. في إحدى اللحظات رأيت وجه الشاب يتطلع إليّ من حافة الجدار. كنت متكئة على الدرابزين الآجوري في مواجهة الجدار العالي، بينما كان جدي جالسا قبالتي بحيث لم يكن بإمكانه أن يضبط الشاب الذي يبتسم لي من حين لآخر. غمزني بإحدى عينيه، فخفق قلبي، إلا أني ظللت مترددة لا أجرؤ أن أبادله الابتسام. وبدأت أتردد على السطح من وقت لآخر متوقعة إطلاله من خلف الجدار. كان سحر اللعبة يشل حصانتي إلى درجة أني بادرت إلى الإجابة عندما سألني عن اسمي. صرنا نتبادل كلاما مهموسا مخافة أن نثير انتباه أحد. وشيئا فشيئا أصبحت أحترق بلهيب ألاعيبه المتعمدة: يطل ويختفي بعد دقائق دون كلمة واحدة، أو لا يطل لعدة أيام متوالية، أو يتجنب المواضيع التي أفترض أن يحادثني فيها. لم يكن حديثنا منسابا. كان ينطق بضع كلمات ليظل صامتا بضع دقائق كأنه يبحث عن كلمات أخرى، وأحيانا أراه يغالب خجله بوقاحة مصطنعة تتركز في نظراته، ومرة ضبطتنا إحدى الجارات نتبادل الحديث فصار يكثر من الالتفات خافضا من نبرات صوته.

   والآن ها أنذي فوق السطح مرة أخرى، أنظر إلى السطوح المجاورة وأترقب ظهوره. كان في لحظة الكلام المختلس شيء يفتنني. لم ألتذ باللعبة منذ زمن بعيد، إذ لم أعد أغادر البيت إلا بعد أن أراوغ أبي، والشاب لم يعد يصعد إلى السطح. ثم فجأة رأيته. أشرت له بيدي. صوب عينيه إليّ بوجه فرح مندهش. سألني:

   – أين اختفيت؟

   – في البيت..

   – هل أنت بخير؟

   – بخير وعلى خير.

   صمت ماسحا وجهي بنظراته. كانت اللعبة توحي إليّ أن أكتفي بالإجابة فقط، وهو وحده يجب أن يسأل ويبحث عن الكلمات.

   – لقد جعلك غيابك  أكثر جمالا.

   ابتسمت وأحسست بوجهي محمرا. سألني عن أحوالي في الخياطة وهل تعلمت شيئا جديدا. سألني عن أوقات خروجي ودخولي.

   – نلتقي؟

   – …….!

   – ما رأيك أن نلتقي قرب المحطة؟

   – والساعة؟

   – الرابعة أو الخامسة. الخامسة أحسن.

   فاجأني بسؤاله. لم أكن أتوقع أن تتطور اللعبة إلى لقاء في الشارع. تركته يسير اللعبة كما يشاء. لكن هل ألاقيه؟

 

*ما نصحت به نفسي:

…………………

   يجب أن تكون هادئا إذا شئت أن تجري الأمور كما تشتهي. هذه الرعشة المدمرة التي تركب عروق النصف الأعلى من جسدك، وهذه الرغبة في الركض إلى المرحاض، وهذه الحالة الغامضة من الفرح الخائف، كل هذه الأشياء ينبغي أن تحاول تفاديها. لابد من استعادة تلك الوقفة الأولى بجانب الجدار، تلك الوقفة المتلونة بزهو ذكوري يستعرض، ويختبر في آن، جرأة عينيك المتطلعتين إلى جسد جميلة. استعد حالة الانفتاح على احتمالات عديدة: قد تكشف  جميلة عن رغبتها في لقائك، مثلما حدث اليوم تماما، وقد  تكتفيان بالنظرات دون أدنى انفراج، وقد يتلاشى الأمل كفقاعة في الهواء.

   باستعادة تلك الحالة، حيث تكون الذات  طليقة تخطو منفلتة من الحدود، تستطيع أن تنتهي إلى الوضع الذي تخيلته كثيرا، في مواقف متباينة، الوضع الذي كان يمر مجللا بتلقائية عذبة تشعل التواصل الأول، عبر الكلام، وتقوده طوال مدة المشي الثنائي إلى نقط الانفجار الجميل.

   ستكون، بدون شك، هدفا للحظة ارتباك تجعل خطوك، في اتجاه جميلة، متعثرا مغلفا بإغراء التراجع إلى الخلف. وسيضيف مناخ الساعة الخامسة مساء، ساعة اللقاء، إلى هيئتك العامة طابعا من الرهبة الممتزجة بتضايق يوتر الأعصاب ويزيد الفم انغلاقا. فالجو الصاهد المنتشر في المدينة، الآن، لا يتعدل في الساعة الخامسة إلا قليلا، لأن الشمس النازلة عموديا من السماء، طيلة النهار، لن تنحرف ناحية الغرب إلا على النحو الذي يتيح لعابر أن يسير في الطريق متأففا من الحرارة، بحيث يكون عليه أن يتجنب الوقوف في مكان مشرع على السماء. لم تكن، إذن، موفقا في اختيار الساعة المناسبة للقاء، لكنك تدافع عن نفسك بكون الاختيار قد تم بطريقة تلقائية. فإذا كنت قد أمضيت وقتا طويلا قبل أن تجتذب جميلة إلى وقفتك الوقحة خلف جدار السطح وتدفعها إلى استعمال ملامحها سلاحا يتلون حسب نظراتك وحسب إيماءات الوجه وإشارات اليدين، وإذا كنت قد استطعت أن تصبر على ساعات من العناد الأنثوي، متمترسا خلف لا مبالاة تبحث عن شيء، أي شيء، تملأ به فراغات الوقت، وخلف رغبة شبقة تنكشف بلغة العراء.. فإنك حين أردت أن تنتزع منها موعدا وظلت صامتة وفي عينيها رغبة خجولة، وجدت نفسك فرحا بإنجاز لم تتوقعه، فاخترت الساعة الخامسة، فعلت ذلك بعفوية ومن غير تفكير مسبق.

 

*الألم:

……..

 كانت زخات المطر تنزل خطوطا مائلة، تسقط فوق «البيرية» الرمادية، تنساب على سطح المعطف الأملس، تمتزج بلون الحذاء البني الصقيل. وكان الرجل الأشقر يسرع في خطوه وقد التمع معطفه عند الكتفين لانعكاس أنوار الشارع عليه. انتبه إلى نظراتي المشدودة إليه، سلط على وجهي عينين مستكشفتين، تملكتني رغبة في العناد، لكنه حين رآني أطيل إليه النظر ابتسم، دنا مني وحياني، فحييته بدوري. قال إنه يدعى ريمون، واكتفيت بذكر اللقب الذي أطلقه عليّ أصحابي. مشينا جنبا إلى جنب نبدي دهشتنا إزاء هذه الليلة المطيرة التي كسرت أياما وأياما من الحر الخانق. مد إليّ علبة سجائر فاخرة، فتناولت واحدة وأشعلتها. وعندما انعطفت أقدامنا نحو بار شهرزاد، قال إنه لأول مرة يتشرف بمعرفة شاب يتكلم فرنسية فصيحة، فقلت له إني تخرجت منذ ثلاث سنوات مع وقف التنفيذ، فضحك مربتا على كتفي.

   سحبت كرسيا إلى الخلف لأجلس إلى طاولة خشبية. خلع ريمون معطفه وعلقه على مشجب في ضلع الجدار الموازي لطاولتنا. ولما اقتعد الكرسي الجلدي ابتسم لي مرة أخرى، ورفع «البيرية» عن رأسه، ووضعها فوق الطاولة قريبا من فانوس تقليدي ينشر نورا خافتا متراقصا. لبثت صامتا أحدق في الهالة المحيطة بشمعة الفانوس. وقف علينا النادل ببدلته الزرقاء، سألني ريمون ماذا أشرب، قلت له أن يطلب لي ما بدا له، ضحك حتى انتبهت إلى أن ذقنه حليقة تلتمع، وطلب البيرة.

   -هل أنت من هذه المدينة؟

    أومأت برأسي منعما.

   -مدينتكم جميلة!

   -طبعا..جميلة!

   نظرت إلى وجهه، كان سمينا مدورا وموردا، وكان لعينيه الزرقاوين بريق ضاحك وأسنانه ملتمعة البياض. كان هو الآخر جميلا تماما مثل مدينتنا. داريت ابتسامة أفلتت من فمي، وعدت إلى التحديق في نور الشمعة المتراقص، فيما كان صخب الشاربين يتناهى إليّ ممتزجا بأغنية غربية. مد يده إلى «البيرية» وأخذ يديرها فوق الطاولة، وقال إنه سعيد بتعرفه عليّ وإنه لم يكن يدري كيف سيمضي هذه الليلة بدوني. وقبل أن أهم بالكلام حمل إلينا النادل زجاجات صغيرة فوق صينيته. وعلق ريمون قائلا إنه يحرص دائما على تناول المشروبات الرخيصة والمأكولات المحلية كي يتذوق نكهة مدينتنا. لم أقل شيئا. قدم لي زجاجة وأخذ لنفسه  أخرى. وشربنا نخب الليلة المطيرة.

   راح يحدثني عن أسفاره وعن عشقه لمدينتنا الجميلة. كنت أشرب وأمتص أنفاس السجائر، أصغي إليه، أومىء برأسي، أعلق بكلمة أو بضع كلمات، وأحيانا أشرد بعيدا…لماذا لم تأت جميلة؟ ألم يكن جميلا أن نتصافح تحت سماء غائمة ونذرع شوارع المدينة مبللين بأول دفقة مطر تخمد لهيب الصهد؟ لماذا لم تأت؟ لو كنت أملك دواء الدكتور ريموند…

    أفقت من شرودي على صوت ريمون يقول إن شقته ستروقني كثيرا، إذ ليس فيها شيء لم يصطبغ بطابع مدينتنا: النافورة المصطنعة، الأبواب الخشبية الموشاة بمسامير مقببة، النوافذ ذات القضبان الملتوية على هيأة أزهار ساذجة، الزرابي والطاولات والكراسي القصبية و.إلخ. تلقيت من معدتي أول إنذار، فتركت البيرة جانبا وسحبت آخر نفس من السيجارة. امتدت يدي دون شعور مني إلى بطني. ولم أستطع أن أجاري ريمون في ضحكته الصاخبة.

   – ما بك؟

   – لاشيء.

   خفت من شبح الألم. ففي الأسبوع الماضي تغيرت ملامح وجهي، شابتها صفرة باهتة، وزممت شفتي حتى تغضنت جبهتي. وفي لحظة تالية خرجت الكلمات من بين شفتي بصعوبة، وأخدت أضغط على بطني بيدي معا، ثم أحنيت رأسي فوق الوسادة ومددت رجلي إلى الأمام. وحين اشتد الألم أكثر اتكأت بصدري على الوسادة عاضا عليها بأسناني، وغرزت يدي اليسرى في بطنـي. لهذا انتصبت واقفا، ومددت يدي إلى ريمون أريد أن أودعه، فنظر إليّ بدهشة وسألني مرة أخرى إن كنت أشكو من شيء، فقلت له: لا تقلق، إنه مجرد ألم بسيط. أبدى أسفه وقال إنه كان بوده أن نمضي هذه الليلة معا في شقته، وعلى أية حال لابد من لقاء قريب.

   – هل تزورني؟

   – سأحاول.

   ناولني بطاقة تحمل عنوانه ورقم هاتفه، صافحته مودعا، واندفعت مهرولا نحو الباب. كان الشارع خاليا والمطر قد كف عن الهطول، بينما كان ألمي يواصل طعناته. تفحصت البطاقة كأني أراها لأول مرة، ثم مزقتها بحركة سريعة، لكني ما إن خطوت خطوتين إلى الأمام حتى عدت إلى الوراء لأنحني على البطاقة الممزقة، التقطتها وأودعتها في جيب قميصي وأنا أهمس لنفسي كلمات لم يسمعها أحد.

……………………..

*نص من المجموعة القصصية الحائزة على جائزة الشارقة

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون