الرائحة
الرائحة
إيهاب الحضري
ثمة ألم في معدتي لا يذهب إلا ويعاوِد المجيء سريعاً وكأنه يأبى إلا أن يتركني جثة هامدة. طرقتُ باب الطبيب مرات لا أستطيع حصرها، ونزف جيبي مالاً كثيراً ولا فائدة. لا زلت أستيقظ من نومي كل يوم، أذهب إلى الحمام، أسعلُ حتى أكاد أتقيأ معدتي وما فيها من عصارة.
كانت صحتي جيدة، آكل ما حلا لي طعمه ولا أشكو شيئاً. أنا لم أعتاد الشكوى أصلاً، لا من الأشياء ولا من فاعليها. أشكو عذاباتي إلى الله، أو أبوح بها إلى كراستي التي أودعها همومي وأسراري. هي وحدها تفهمني وتتقبل ما أقول دون أن تصرخ في وجهي مثل هذا الطبيب الذي لا يمل من تأنيبي وتوبيخي في كل مرة يطالع وجهي فيها : " الرائحة ستقتلك.. لا تذهب هناك أبداً " لا أعلم من أين أتى بهذا الاكتشاف العلمي الذي يستحق عليه جائزة نوبل. نسيت. نحن لا نأخذ نوبل إلا في السلام. أظن هذا الطبيب مبالغاً في دعواه، منذ متى والروائح تقتل وكيف لمثل تلك الرائحة الطيبة أن تقتلني؟! " تلك! " لماذا قلت " تلك " ولم أقل " هذه " هل صار الأمر بعيداً إلى هذا الحد أيها النذل؟! لقد أخطأت ولن أسامح نفسي. عليَّ أن أعيد كتابتها صحيحة : كيف لمثل تلك الرائحة الطيبة..... ها أنا أكررها! ماذا بك؟ أَفِق! إنها رائحة طيبة وقريبة مني تفوح من أنفي وأشمها في ملابسي ويطيب لي، إن أمكن، الاستحمام بها.
آه! بطني توجعني، الألم يعصرني عصراً.
يروق لي أن أذهب إلى هناك ولا تزعجني روائح كريهة بل أشم ريحاناً وياسميناً وفلاً، ولكن ما لهذا الطبيب، وهو المشهور بتشخيصاته الدقيقة وعلاجاته الحاسمة، يصر على عدم ذهابي إلى هناك زاعماً زاعقاً في كل مرة بأن رائحة المكان هناك هي السبب وراء اعتلال صحتي. إن كان يفعل هذا خوفاً على هذه الصحة فعليه أن يعلم أنها قد تذهب مع الريح إن مُنعتُ من الذهاب. يريد أن يعالج معدتي في مقابل أن أخسر حياتي!
آه!! كأن أحدهم يمسك منشاراً ويشق جدار معدتي. أكاد أن أموت.
كم ضعيف الإنسان. ألم في المعدة قد يرسل جواباً إلى عزرائيل يدعوه للحضور في أقرب وقت. أعلم أن المكان هناك قد يبدو موحشاً للناس، ولكن بالنسبة لي، فهو أحب إلى قلبي من هذا البيت الشاهق ذو الحديقة الغَنَّاء والطوابق الخمسة. من يأخذني من هنا لأقيم هناك، حيث أنتمي. وحده عزرائيل يستطيع ولكن بعد أن يحصل على إذن إلهي. مُرْهُ يا رب فإني أشتاق إليك. إني أكذب! أشتاق إلى حبيبتي، زوجتي وبذرتي التي زرعتها في أرضها الخصبة، وما إن دنا وقت قِطافُها حتى بارت الأرض وذهبت بعيداً وفيها البذرة. إنهما يرقدان هنا، حبيبتي وطفلي، وقد زاد شوقي إليهما. الرائحة عند المقابر كريهة خاصة هنا، هكذا يردد الناس، وأنا أمكث هنا طويلاً. تقريباً منذ العاشرة مساءً وحتى فجر كل يوم. أجلس إليهما لأحكي ما وقع لي خلال اليوم وأنا أتنفس الهواء الملوث ذو الرائحة التي يزعمون أنها كريهة، أتنفسها ولا أشمها فقط. سامحني يا دكتور فأنا أرهقتك، لكن لا معنى لأن تعالج معدتي وتفقدني روحي. هنا أشعر بروحي تسري في جسدي كإنسان طبيعي. هنا أقف على رُفات الذكريات وأبكي.
آه!!! الوجع يقتلني. أغثني يا عزرائيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاص مصري