الذي لا يأتي

حميد اليوسفي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حميد اليوسفي

بيوت من حجر وطين يشد بعضها بعضا بين جبال تكسوها أشجار الأرز. لا طريقا معبدة ولا مستشفى ولا إدارة. مدرسة صغيرة عبارة عن قاعة وغرفة مجاورة خصصت كسكن للمعلم، على هامش الدوار بالقرب من  حقول اللوز والتين والجوز التي تنعكس ظلالها على مياه الوادي، داخل مساحات صغيرة تفصل بينها حواجز على شكل خطوط رقيقة من حجر متراكم بجانب بعضه البعض. ينصع بالبياض كأن الماء صقله ونظفه من الأوساخ والأتربة.

بعد فرض الحجر الصحي وإغلاق الأسواق الأسبوعية تضررت حياة أهل القرية. لم يعد بإمكانهم بيع جدي أو خروف أو جوز أو بعض الدجاج البلدي لاقتناء لوازم البيت من سكر وشاي وزيت.

بدأت بعض المواد الغذائية تشح يوما بعد يوم في دكان سي علي. اقتناء حاجيات جديدة يحتاج إلى المال، والمال بدأ ينفذ. فَتَح بابَ الديون بحذر وبقدر أدنى من الشاي والسكر.

في اليوم الأول من شهر رمضان جمعهم المقدم. وقال إن القائد طلب منه أن يخبرهم بأن (سيدنا) قد خصص دعما للأسر التي فقدت موردها الاقتصادي بسبب جائحة كورونا. وأنه يكفي للحصول على هذا الدعم أن ترسل تصريحا للرقم 1212 الذي أحدثته لجنة اليقظة الاقتصادية.

لاح في الأفق أمل جديد. رغم أنهم لا يتوفرون على هواتف شخصية فقد استغلوا هواتف أبنائهم الذين عادوا من ثانويات الإقليم إلى بيوتهم.

نشط الأبناء في ملء تصريحات الأهل والجيران لإرسالها إلى الرقم 1212. عملية استغرقت الكثير من الوقت والجهد، ونالت إعجاب ودهشة الكبار. واقتضت اقتناء بطاقات تعبئة بخمسة دراهم أضيفت إلى ديونهم عند سي علي البقال.

الصعود إلى قمة الجبل عمل شاق ومضن خاصة في شهر رمضان والطريق موحش ومخيف ويحتاج إلى أكثر من ساعة مشيا على الأقدام. لكنه أقرب مكان إلى القرية يلتقط إشارة شبكة الاتصالات.

أخيرا تمكنوا من بعث التصريحات والعودة إلى الدوار. عم الناس فرح كبير. زغردت النسوة وصفق الأطفال وجروا يهتفون بين الأزقة بأن الرسائل طارت إلى العاصمة. فسر بعضهم بأنها ستصل إلى الملك وسيطلع عليها ويرسل إليهم الدعم. البعض تخيله قدرا من المال والبعض الآخر قال بأنه كميات كثيرة من المواد الغذائية ستكفيهم سنة بتمامها. قطعوا الكثير من الوعود للأطفال والنساء بأن يشتروا لهم أصناف متنوعة من الحلويات والقماش والعطور ومستلزمات التجميل التقليدية. لم يسبق لهم أن طلبوا شيئا من أحد. حتى المرشح الذي يرسل من يكذب عليهم مرة كل خمس سنوات لم يطلبوا منه شيئا. منذ أكثر من أربعين سنة وهو يعدهم بالطريق والمستشفى وتوسيع المدرسة وتوفير كل ما يحتاجونه من سلع. لكن شيئا من ذلك لم يحدث. وشكك البعض في أن يترك أصحاب الحسنات هذه الرسائل تصل إلى الملك.   

لا بد من صعود أحدهم كل يوم إلى قمة الجبل وانتظار أن تستقبل الهواتف جواب الرقم 1212.

وقع اختيارهم على محمد للقيام بهذه المهمة وهو رجل أربعيني بوجه نحيف وقوي البنية، يملك قطيعا صغيرا من الماعز، ويحظى باحترام جميع الأسر. الطريق المؤدية إلى قمة الجبل ضيقة ومحفوفة بالمخاطر. كم مرة دخل في صراع مع ذئب أو ثعلب اشتد عليه الجوع، فنزل خلسة لخطف جدي صغير وافتراسه. أخذ معه هرقل الكلب الأرقط ليؤنسه في وحشة الطريق. أطلق عليه هذا الاسم لأنه دخل مرة معركة مع أربعة من الذئاب الشرسة وخرج منتصرا مع جروح طفيفة في عنقه، وحافظ على سلامة القطيع حتى أدركه محمد. أحس بإرهاق شديد وهو يتسلق الأحجار ويصعد الجبل متكئا على عصاه. ويتوقف بين الحين والآخر لانتظار هرقل  والتقاط أنفاسه. الشمس هذه الأيام تبدو متوهجة وكأنها تحررت من رطوبة الجو وضباب الربيع. لم يصل إلى القمة حتى نشف حلقه رغم توزيعه لطاقته البدنية بشكل ذكي حتى لا يتعرض لعطش قاتل. أخرج الهواتف من حقيبة قماش صوفية مزركشة بالنوار، أعطتها له زوجته فطومة، ونشرها تحث ظل الشجرة واتكأ بجانبها وهو يفحص هل تعمل، وعليه التأكد من وجود إشارة الاتصال. بعض هذه الهواتف متهرئ وقديم، أغلفتها مكسورة وتظهر الشقوق من جوانبها بشكل جلي . لذلك عليه أن يتعامل معها بلطف وكياسة، ويبعد عنها هرقل، ويضعها في الظل حتى لا تزهق روحها بين يديه، ويدعي أصحابها بأنه كان السبب في تعطلها عن العمل. عندما انتهى من ذلك نظر إليها بعطف وتمنى ألا يصيبها مكروه، ورفع يديه إلى السماء، وطلب من الله والرقم 1212 أن يستجيبا لدعوات سكان القرية قبل أن يفتك بهم الجوع. أزال قطعة حجر حادة من تحت ذراعه. سرقته وسنة خفيفة، تخيل نفسه يرى الملك يمر واقفا في سيارته بالقرب منه، وهو يلوح مع الناس باليدين معا ويدعو له بالنصر والعيش الكريم، وخلف الموكب شاحنات مليئة بعلب السكر والشاي والزيت والخضر والفواكه وأكياس الدقيق. أيقظته رنة جرس الهاتف من غفوته. لم يجب عن المكالمة كما أوصاه أصحاب الهواتف بذلك. مهمته تنحصر في استقبال أجوبة الرقم 1212، والحفاظ على البطاريات حتى لا تنطفئ الأجهزة، وتضيع حقوق الناس. رأى نفسه أمام مسؤولية جسيمة. التقط قطعة حجر ملساء ونقية ورأى أنها تصلح للتيمم، مادام المكان لا يتوفر على ماء للوضوء. واعتقد أنه إذا صلى الظهر والعصر بخشوع وورع، فإن دعاءه قد يصل إلى السماء بسرعة لأنها تبدو قريبة مثل مظلة زرقاء صافية  على امتداد البصر تغطي الأرض فوق رأسه. وعليه أن ينتظر حتى يقترب آذان المغرب. ويبقى له من الوقت ما يكفي للوصول إلى الدوار، فالنزول من أعلى لن يكلفه جهدا كبيرا.

قبل الفطور أعاد الهواتف إلى أصحابها حتى تكون مشحونة وجاهزة في الصباح. ملامح وجهه تكشف لكل من تسلم جهازه بأنه لم يوفق بالحصول على جواب. 

مر أسبوع بدون أجوبة. في كل يوم يصعد محمد إلى الجبل صحبة هرقل في الصباح الباكر ويعودا خائبين في المساء. حتى شك البعض بأنه قد يكون وجه نحس يمنع الرسائل من أن تطير إلى الرباط.

بدأ الشك يتسرب إليهم. قال أحدهم :

ـ من يدري قد يعترض القائد أو المرشح أو الشيخ هذه الرسائل ولا يتركها تصل إلى الملك خوفا من أن يُفتضح أمرهم.

اختلف معه جاره وحذره من ربط القائد والشيخ والمرشح بهذا الموضوع، فإذا وصل ذلك إلى سمعهم فإنه قد يقضي على أي أمل في الحصول على الدعم.

قال ثالث :

ـ ربما كثرة الرسائل لم تسمح بعد بالاطلاع على رسائلنا.

وشكك رابع في قدرة شبكة الاتصال على نقل الرسائل. ووصفهم خامس بالمجانين وكأن الملك لا شغل له غير التفرغ لقراءة رسائلهم. واقترح أحدهم على محمد ألا يأخذ معه في المرة القادمة هرقل. فقد سمع مرة إماما في خطبة الجمعة ينهى الناس عن السماح للكلاب بدخول المنازل  فهي تطرد الملائكة منها.

في الأسبوع الثالث بدأت بعض الأجوبة تصل تباعا. وأخيرا اطمأنوا على أن رسائلهم وصلت إلى الرباط. الآن عليهم انتظار موعد آخر لصرف الدعم كما قالت الأخبار في المذياع. لكن الدوار لا يتوفر على وكالة بنكية أو إدارة بريد أو دكان تسهيلات. أقرب هذه المؤسسات تبعد عن القرية بحوالي عشرين كيلومترا أو أكثر.

كورونا لم يصل إلى القرية. كم ضحكوا يوم سلمهم المقدم مجموعة من الكمامات وطلب منهم لبسها هم وأبناؤهم. اعتقدوا بأنهم يجب أن يخفوها ويحتفظوا بها للأيام الصعبة القادمة.

كل مساء ينتظرون عودة محمد من الجبل. يمر على البيوت حزينا صحبة هرقل، يعيد إليها الهواتف لشحنها. كل صباح  يتجدد الأمل بحملها إلى قمة الجبل. قد يستجيب الرقم الملعون لتوسلاتهم وتلتقط الهواتف الأكواد ويذهبون إلى المركز لسحب الدعم، واقتناء كل ما يحتاجونه من مواد غذائية.

تأخرت الأجوبة أكثر من اللازم. أصبحوا يخافون من وباء الجوع أكثر من كورونا. قلوبهم معلقة مع قمة الجبل تنبض بين الرجاء واليأس. الرقم اللعين 1212 مثل جودو، قد يأتي أو لا يأتي. عليهم تحمل قساوة الانتظار. بعضهم هدد بأنه إذا لم يتلقوا الجواب في الأسبوع القادم حول متى سيصل الدعم إلى القرية فليس أمامهم سوى الذهاب رفقة أبنائهم ونسائهم إلى القيادة أو العمالة ولن يعودوا إلى القرية حتى يظهر جودو أو يخرج الرقم الملعون عن صمته.

……………

مراكش 20 / 05 / 2020

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون