تمام الاحتفال ودرته عرض يعيد تمثيل المعركة التي انتصر فيها….
فقراء المدينة ومقطوعي الأرجل ومبتوري الأذرع والعميان والصم البكم ومشوهي الخلقة والبائسين وأطفال الشوارع والمجذوبين والبلهاء ومجدوعي الأنوف والسجناء واللصوص وفتيات الليل وبائعي الخمور وتجار المخدرات والمتبطلين والمرضى والمجذومين والمصابين بالزهري والبثور والسود وقصار القامة والضعفاء والأرامل والأيتام ومجهولي الأنساب والنحاف والمتسولين وسيئي السمعة، جميعهم ومن كان على شكلهم سيلعبون دور أولئك المدحورين الذين بدد شملهم الكبير الحاكم….
الكبير الحاكم سيرتدي حلته ويتزين بسيفه وغدارته ويمر بحاشيته وجيشه، كبار التجار والأثرياء والصالحين وفقيه المدينة وعلمائها ومحمودي السيرة وأصحاب الأنساب والوجهاء، يتأكد من جيشه ويستعد لدحر الخصوم…
لعشرة أعوام أعادوا تمثيل المعركة في ذكراها…
في آخر الليل يعتلي الحاكم العرش منتصرا ويعفو ويوزع النفحات والمنح….
الشيخ الضرير تقدم جيش السفلاء، يتحسس الطريق بعصاه ويتعثر، ساروا من خلفه في صمت وهدوء، زاحفين، في تؤدة، تسللوا إلى دار الحاكم والحكم….
الشيخ دفع الباب واقتحم الدار، فور دخوله انحنى وألقى بنفسه على الأرض وقد أخفى رأسه بين صدره ويديه، جميعهم تبعوه في فعله..
يعلم ويعلمون أنهم وفور دخولهم ستضاء الأنوار ثم ستعلوا صرخات المعركة والقتال، سينهالون عليهم ضربا بالعصي والأيدي وستئز الرصاصات فوق رؤوسهم ونصول السيوف والخناجر ستمر بين عيونهم وأمامها وربما تمزق الملبس وتجرح الجلد…
مرت دقائق ثقيلة دون أن يحدث شيء، المجذوب أول من تمرد على الاستلقاء أرضا ونهض يرقص ويضربهم، حاولوا الدوران بعيونهم في أنحاء المكان من الوضع رقودا، لا أحد هناك لكنهم ربما يختفون، يضمرون مفاجئتهم، لا يكادوا ينهضون حتى يهجموا عليهم وينالوا منهم.
زكية الراقصة نهضت بجذعها فقط، تبعها علي اللص، أكملوا القيام في حذر ثم تبعهم الجميع…
لا أحد في الدار، جلسوا في وجوم وقلق، أين ذهب الجميع؟!
أضاعوا ثلث الليل في البحث عنهم، لا أثر لهم في كل البلدة، فتشوا حتى سطح الترعة والمصرف، ربما قتلوا وألقيت جثثهم هناك، ذهبوا تماما، تلاشوا بلا علامة أو أثر…
محسن المبطون أول من آمن في ذهابهم، اعتلى المئذنة وكبر وحمد ثم هتف: إني داع فأمنوا…. اللهم اشف محسن…. اللهم اشف محسن ووسع رزقنا…..
زوجة علاء الإسكافي جذبته من يده واقتحمت به منزل يونس كبير التجار، تسللت من خلفه لغرفة النوم الفاخرة والسرير ذي المرتبة الوثيرة والفرش الحريري، تعريا أمام المرآة الضخمة ذات الإطار المذهب، استلقت على السرير واستلقى عليها..
سعدون الحشاش ومنصور صاحب الكاس لمع الخاطر في ذهنيهما، سيشعلان اللفافات ويتبادلان الكؤؤوس في منزل كبير الفقهاء وعلى كنبة الضيافة خاصته، كانت ضحكاتهم مجلجلة ونشوانة والدخان في كل مكان، انتفضوا لطرقات على الباب ثم عاودوا الابتهاج، الواد سعيد الأفندي ابن محمود الفران هو الطارق، سمحوا له بالدخول وتندروا عليه وهو ينقل الكتب، بعضها يحتاجه لدراسته وبعضها سيزكي به نار الفرن..
حسين الهجام اصطحب زوجته وعياله وكسر قفل منزل خليل شيخ البلد، ترك العيال يقفزون على الأثاث ويلهون بأوان خزفية ويستعملون جلود حيوانات -علقت من أجل الزينة- للتنكر.
الصبية قصدوا المدافع التي أعدت للاحتفال، تحايلوا عليها وحشوها بالبارود وأطلقوا وسط صرخات وتهليل..
اقتحموا كل البيوت ولهوا بكل شيء قدروا على الوصول إليه بلا نوم وحتى الفجر.
كان علاء وزوجته في خضم نشوتهما الثالثة عندما دس يونس كبير التجار رأسه بينهما قبل أن يملأ الحجرة بضحكات غليظة هائجة…
علاء وزوجته حاولا التوسل، ستر جسديهما بالملاءات، اقتادهما غفيران لساحة دار الكبير….
الكبير كان منتشيا وجيش الأسافل كله ملقى على الأرض في الساحة في انتظار العقاب….
أراد وجيشه دفع ملل تكرار المشهد فاختفوا في سراديب سرية وخرجوا في لحظة حاسمة، خرجوا متسللين ثم صاحوا بهتاف النصر، ضجوا بالضحك وهم يتأملون الوجوه الدهشة المصفرة والعيون وهي تنطفئ والألسنة جمدت ثم تعثرت في الحروف والكلمات…
الخفراء ينهالون عليهم ضربا وزجرا، يقيدون الأيدي والأرجل، ينهرون ويدفعون ويلكزون…
الكبير بين رجاله منتش بالنصر، يضحك متندرا بما حدث، بإشارة من يده يأمر أن يفكوا قيد الأسافل…..
كان سعيدا فأجزل في العطايا للجميع والمنح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحمد سمير سعد روائي وقاص مصري،
صدر له “سفر الأراجوز” ـ رواية عن دار فكرة ـ 2008
و”الضئيل صاحب غيّة الحمام” عن دار أكتب ـ 2014