الدرويشة: لعبة التلصص

الدرويشة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ممدوح رزق

كيف يمكن للذات أن تتلصص على وجودها؟.. هل يتخذ هذا التلصص طبيعة مستقرة، أم تتعدد أشكاله؟.. ما الذي يكوّن الوجود حين تمارس الذات تلصصها عليه؟

“انبهرت عندما سمعت كلمة “شغف”، انبهرت حتى إن نوبة من الضحك المتواصل المصحوب بدموع قد باغتتني. لم أستطع أن أجرح رومانسيتها وأصدمها بمعنى الشغف عند من يقتربون الخمسين: الشغف يا ابنتي يتسرسب منا طوال الثلاثينيات، وعندما نأخذ مقاعدنا ونتسلطن في الأربعينيات تصبح هذه الكلمة بلا معنى”.

ربما تلازم هذه الاستفهامات قارئ المجموعة القصصية “الدرويشة” لصفاء النجار، الصادرة عن منشورات بتانة .. لكن ثمة تساؤل آخر قد يكون من الضروري أن يسبق تلك الاستفهامات، كأنما تنجم عن بداهته: هل يخلق فقدان الشغف الحاجة إلى التلصص؟ .. أفكر في أن الفوضى العارمة التي تكابدها الذات، وعدم قدرتها على الانفصال عن العالم المحيط بها هي نفس الكلمات التي يُمكن أن تدفعنا لتصوّر ما يعنيه “فقدان الشغف”، ومن ثمّ ما تقصده “الحاجة إلى التلصص”.

“في أحد الاختبارات الشخصية .. كان هناك سؤال: هل تود الطيران أم أن تكون لديك طاقية الاختفاء؟ لا أريد الطيران، أنا ثقيلة جدًا، ولا أريد أن أقترب من الشمس الحارقة .. ربما أطير في يوم غائم، سأختار أن أكون مخفية .. لا أريد أن أتلصص على أحد .. سأغمض عينيّ وأجلس، ولن يقاطع اعتكافي أحد”.

لا تريد الذات أن تتلصص على أحد، ولكنها تريد توظيف اختفائها في التلصص على نفسها .. التلصص الذي لا يكشفه أكثر من “إغماض العينين” دون أن يخدش وحدتها أحد .. إذن تريد الذات أن تختفي عن وجودها أيضًا، وليس عن عيون الآخرين فحسب .. ألا تكون مرئية بالنسبة لهذا الوجود حتى تتمكن من التلصص عليه .. لكن بما أن الاختفاء رجاء لا يتحقق؛ كيف يمكن تعويضه؟ .. هذا يستدعي تدبير نوع من التواطؤ بين الذات ووجودها .. الذات المتلصصة، والوجود الذي يدعي عدم الانتباه لها، كأنه اتفاق على ما يشبه لعبة غميضة يعرف كل من طرفيها مكان الآخر.

“فجأة ظهرت شجرة في وسط الطريق، وقد وقفنا، أو تجمّد كادر الحلم قبل أن نصطدم بالشجرة التي انبثقت قبل سنتيمتر واحد من مقدمة السيارة، لم يكن زوجي غاضبًا، لكنه لم يكن راضيًا، وشعرت في الحلم بأن وجودي لا فائدة منه، بالعكس بدا وكأن إمساكي بالمقود هو الذي استدعى الشجرة كأنني ضغطت على زر النداء الآلي لها، أو أنني أستدعي كل المعوقات في طريق زوجي”.

مع هذا التواطؤ لن تبصر الذات وجودًا قائمًا بالفعل، يواصل مساره منعزلًا عن مراقبتها الخفية له، وإنما ستبصر وجودًا يتشكّل وفقًا لهذا التلصص: الأشباح الكامنة داخل الواقع .. المشاعر السرية تجاه الآخرين .. الفقد .. التورط مع شركاء الحياة .. حصار الذكريات .. ندبات التجارب غير المتوقعة .. انتهاك الجسد .. الهروب من الكوابيس .. الهوية المرتعشة .. الجنازات المتشابكة .. هلاوس الفناء.

“رأيتهم يتحركون في طابور، بين كل واحد منهم مسافة قصيرة، يرتدون ملابس تشبه ملابس الرهبان الفرنسيسكان، وظهورهم محنية، يسيرون في طريق نصف دائري في صمت ومهابة، وعلامات لشواهد قبور على يسارهم، ويبدو أن الطريق نصف الدائري الذي يسيرون فيه كانت نهايته تخلو من تأثير الجاذبية الأرضية، إذ كانوا يسقطون من فوق سطح الأرض ويتوهون في فضاء الكون”.

سيكون وجودًا غير كاشف، ولكنه يتسم بالحدة الرمزية الناصعة، التي ترسم ما يشبه صورة مجسّمة للظلام المهيمن وراء ظواهره المألوفة .. كأنه حلم متسلل خارج الماضي والفهم والتنبؤ، ومع ذلك يجسّد مشاهد نقية للغموض القابض على الزمن والوعي والحدس .. ينتج التلصص وجودًا في حالة اختباء مجازي من العالم، يماثل اختفاء الذات التي تراقبه، ولكنه اختباء يستحضر العالم نفسه كخلاصة من الظلال القاتمة لحقيقته المحتملة.

“ومن الأصل لا تتذكرها صديقة، أو حتى زميلة، أو معرفة تحمل اسم “ريهام محمد حسن” .. ترسل لها أسماء صديقاتها المقربات تقسمهن لرفيقات الابتدائية .. والإعدادية .. والثانوية .. علّها تعلّق على اسم واحدة، فتركز جهودها للتذكر في مرحلة ما، مجرد مثير يدفع بالذاكرة النائمة في سبات عميق من الاستغناء، وعدم الحاجة .. من هذه “الريهام” التي لا تبعث في داخلي فرحًا أو حزنًا أو أسى أو ندمًا .. وتسخر من حيلي بردود محايدة؟”.

هل هذا ما يحدث حقًا، أم أنه من الوارد أن يكون الأمر مختلفًا، وربما مناقضًا لما يبدو عليه؟ .. إن الدافع وراء أمنية اختفاء الذات قد لا يكون الرغبة في التلصص على وجودها، بل أن يؤدي الوجود هذا التلصص على الذات .. أن يكتشف إبهامه تلك الذات التي لا تستطيع أن تبصر ملامحها .. أن يتمكن أصله الغيبي المعتم من إعادة تشكيلها خارج التيه وفقًا لنواياه العارية، وبالتالي يمكن لهذه الذات ـ على الأقل ـ حين تخاطب نفسها أن تدرك من الذي تتحدث معه.

 

مقالات من نفس القسم