عن السيد “لا أعرف” الذي يربي حجراً في بيته

تصبحين على خير .. التقاط الشاعرية من الموت!
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إبراهيم عادل

لا أزعم أنني أقدم هنا “قراءة نقدية” وافية لرواية “الطاهر شرقاوي” (عن الذي يربي حجرًا في بيته)، وإنما هي قراءة وملاحظات عابرة، أضعها أمامي وأمام القارئ ربما لاستعادة المتعة مع هذه الرواية.

في روايته الثانية، يسير “الطاهر شرقاوي” على نفس الخطى التي رسَّخها لنفسه في الكتابة الأدبية، بلغته الشاعرية الخاصة جدًا، التي تميز كل كتابته السردية (قصة أو رواية) .. ليحكي لنا هذه المرة (عن الذي يربي حجرًا في بيته) ..

كيف يعيش الذي لا يعرف؟!

مبدئيًا لأقل أن عنوان الرواية يبدو لي مضللاً، ويبدو الاسم الآخر الوارد بين ثنايا الرواية وفي إطار الحوار مع محبوبة افتراضية “سيرين” (التي يرتبط اسمها بعالم الأحلام أيضًا ) وهو (السيد لايعرف) الأكثر انطباقًا على الرواية وشخصيتها الفريدة الحالمة، التي تتعامل بحيادية بالغة مع الأحياء وتحرص كل الحرص على تأمل “الأشياء” بل وصداقة “الغرباء” غير الموجودين … حد الجلوس مع “مصاص دماء”

الناس بالنسبة للسيد لا يعرف مجهولين، وهو لا يشغل باله بعدم معرفتهم، بل يسمهم بالرمز المميز (س) وهم في ذلك وإن اختلفت أدوارهم في الحياة إلا أنهم بالنسبة إليه ـ في النهاية يحملون الرمز نفسه!

في المقابل تقترب كل “الأشياء” من “السيد لا يعرف” فيصادقها ويتحدث معها، وهو موقن أنها تسمعه، يبدو الأمر مع “الأحجار” لأول مرة ملفتًا، فهو يقسم الأحجار تبعًا لشكلها بل ورائحتها والأثر النفسي الذي تتركه فيه، ثم يبدو الأمر مع “الستائر” والمقعد الوحيد في الحديقة .. ويتأمل “القطط” و”الكلاب”.

كل ذلك لا يعني أن السيد “لايعرف” غير مهتم بالناس، بل هو يلاحظهم بل ويراقب أفعالهم أحيانًا لما ينطوي عليها من أثر على “حواسه” لاسيما “الصوت”

لذلك هو يذكر جاره (س) الذي يفزعه بصوته وهو يشتم الحكومة بصوت عالٍ  .. ويذكر جارته (س) التي تصرخ صراخًا عاليًا بعد منتصف الليل ولا يجيبها أحد!

وهو يجلس مع “مصاص الدماء” على القهوة ولكنه لا يهابه! هو فقط “يتأمله” ويحكي طريقة حياته وكيف يتعامل مع “ضحاياه” ببساطة ثم يتركه ..

السيد لا يعرف: ( لا أعرف كيف أبكي؟! …….

بداخلي تكمن الرغبة في البكاء، لكن كيف أفعل ذلك؟ هذا هو السؤال، لم يعلمني أحد كيف أبكى، لا توجد إرشادات في الكتب، أو أماكن تمنح دورات متخصصة في تنمية القدرات الذاتية على تعلم البكاء وبين الفينة والأخرى تنشر إعلانًا في الصحف، يقول: “هل ترغب في البكاء.. نحن سنساعدك.. انضم إلينا.. بادر بحجز مكانك.. العدد محدود”. الوسائل التقليدية التي اعتقدت أنها ربما تفلح معي، فشلت تمامًا، فلا تقطيع البصل أفاد، ولا القطرات استطاعت أن تذرف ولو حتى نصف دمعة. أخيرًا توقف الرضيع عن البكاء، هل تبكى القطط؟ لا أعرف، سأبحث في هذا الموضوع على الإنترنت، تساءلت: أيهما أفضل رسمها بدموع أم من غير دموع؟ ربما أرسم واحدة منهن وهى تذرف دمعة، سيكون ذلك مؤثرًا)   

هنا عالم من الأشياء التي تبدو غريبة وغير مألوفة أبدًا، ولكنه يتعامل معها بطريقة اعتيادية، يجعل كل الأمور بسيطة أو عابرة، حتى الظلام!  (مثل الأعمى كنت أتحرك بخفة في الظلام، أنتقل ما بين الصالة والمطبخ والحمام وحجرة النوم، بمرور الوقت تعلمت كيف أخطو دون الاصطدام بشيء، لدرجة أنني أعرف مكان الكرسي، قطعة الموكيت الصغيرة، الحجر الموجود في منتصف الصالة، سلك المروحة النقالي، كل ذلك أعرفه في الظلام وأتفاداه بسهولة) …( في الظلام تتحفز حواسي الأخرى للعمل، وينشط عقلي، هذا ما اكتشفته بمرور الوقت، أجرب الاعتماد عليها في ممارسة حياتي العادية، اللمس والسمع هما عيناي للرؤية في ظلام يحوطني).

يعترف السيد “لا يعرف” بأن هناك عدد من “الأمور الغريبة” التي تحدث له، فهناك “أخوته” الذين يحضرون بشكل لم يفصح عنه تمامًا ولكنه يبدو كما لو أنهم “أرواح طيبة” يأخذون منه أقلاما أو”يستعيرون” كتبه ويعيدونها بعد ذلك! وهناك أمور أخرى، كالفتاة التي يراها على القمر، و”النمر” على ظهر جارته “س” الذي يتأهب للانقضاض عليه، و”الكلاب” التي منعت الناس من المرور إلى بيوتهم، ولكنها لما رأته ابتعدت وفتحت له ممرًا آمنًا بعد أن طلب منهم ذلك.

هكذا يتشكل العالم حول (الذي يربي حجرًا في بيته) وتتداخل عوالم الرواية بين الأحلام والحقائق تداخلاً متقنًا يبدو واعيًا أيضًا إلى حدٍ كبير، فهو يفضل أن تكون حياته ـ كما ذكرت له “سيرين” ذات مرة ـ أحلاما متصلة ببعضها .. تدله على الطريقة تقول

(تخيل كل شيء أفعله أو يحدث من حولي شفته من قبل في الحلم.. في الأول كنت أنزعج بشدة وأرفض الخروج من البيت، قلت إنها لعنة أصابتني.. بعد ذلك علَّمت نفسي كيف أتحكم في أحلامي، الأمر سهل: أفكر في الشيء الذي أود أن أحلم به، وببساطة يتحقق ذلك.. أختار أحلامًا على مزاجي، بدلاً من أن تأتى الأحلام وأنا وحظي) 

ولكن من هي “سيرين”:

(البنت التي زارتني في حلمي والتي بدورها شافتني في أحلامها….

تمتلك روحًا حلوة، وحضورًا أجبرني على الوقوع في غرامها إلى الأبد.. قالت: “شفتك في الحلم وجئتك في الحلم.. بُص، إنه القدر”.. قلت: “أنا مسكين، أحلامي قليلة”. ابتسمت وهى تقول: “سأطرق الباب ثلاث مرات، فقط ثلاث مرات، عندها أفتحه على مصراعيه”.. ضحكنا.. مشينا.. جلسنا.. تكلمنا.. صمتنا.. تثاءبنا.. ابتسمنا.. غنينا.. افترقنا..)

يحدث أن تحضر “سيرين” بقوة، ويدور الحديث معها، فهي تقترح عليه أن يزرع “صبارًا” لديه وهو يريد أن يخبرها أنه ليس لديه شرفة ولا يمكنه الاعتناء “بالصبار”، ولكنه يعتني بأشياء أخرى محببة إلى نفسه، كالأحجار الصغيرة تلك مثلاً !

يحدث أن تتحول “سيرين” إلى شيءٍ بين الحلم والخيال، فلا يتأكد إذا كان قد قابلها وافترقا، أم أن ذلك كله كان في خياله، وهو المشهد الذي يفتتح الرواية ثم يختتمها به!

كان موفقًا جدًا في تقسيم الرواية إلى فصول قصيرة تتصل ببعضها حينًا وتنفصل عن بعضها أحيانًا أخرى، لكي يحكي حلمًا خاصًا مثلاً، أو “حكاية” من حكايات طفولة ذلك الكاتب/البطل، أو يتعرض لتفاصيل عمله ككاتب قصص مصورة للأطفال ..

بعد أن انتهيت من قراءة الرواية تذكرت ما كتبه د.شاكر عبد الحميد عن (الغرابة):

(الغرابة ضد الألفة .. نوع من القلق المقيم، حالة بين الحياة والموت، التباس بين الوعي وغياب الوعي، حضورٌ خاص للماضي في الحاضر، وحضور خاصٌ للآخر في الذات، قلقٌ غير مستقر بين الزمان والمكان، إقامة عند التخوم، تخوم الوعي والوجدان، إقامة غير كاملة حالة حدودية أو بينية تقع بين انفعالات الخوف والرهبة والتشويق وحب الاستطلاع والمتعة والطمأنينة والتذكر والرعب والتخيل والوحشة)

وأفكِّر هل يمكن أن تندرج رواية “طاهر الشرقاوي” وذلك العالم الذي خلقه تحت عنوان جديد هو “الغرابة الأليفة”؟!!

* حينما تنتهي من قراءة هذه الرواية .. مباشرة .. عد إلى قراءتها مرة أخرى .. ستمتعك بطريقة مختلفة!

* النص/الرواية يفتح أبواب التأويل على وسعها، وذلك كله ليس عن طريق الغموض أو الأحداث الغريبة، ولكن من خلال حكايات متفرقة متجمعة وسرد سلس يجذبك لمعرفة المزيد عن السيد سواء كان يربي حجرًا في بيته، أو ينتظر شيئًا ما، أو هو ـ مثلنا جميعًا ـ مجرد شخص لا يعرف!.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم