الخنزيرة التي تأكل صغارها

دانيلو كيش
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

دانيلو كيش

ت: منصورة عز الدين

إلى بوريسلاف بيكيتش

أرض الأبدية

تبدأ  أول حركة في التراجيديا، أو الكوميديا (بالمعنى المدرسي للكلمة)، التي يلعب جولد فيرشويل دور شخصيتها الأساسية، مثلما تبدأ  كل المآسي الدنيوية: بالميلاد. يمكن تطبيق المعادلة الوضعية المرفوضة عن البيئة والعِرق على البشر، بنفس الدرجة التي يمكن تطبيقها بها على الفن الفلمنكي.

هكذا تبدأ الحركة الأولى من التراجيديا في أيرلندا، “أقصى الشمال، الأرض الواقعة على الجانب الآخر من المعرفة”، كما يطلق عليها أحد قرناء ديدالوس؛ في أيرلندا، “أرض الحزن والجوع واليأس والعنف”، وفقًا لمستكشف آخر، أقل ميلًا للأسطورة وأكثر ميلًا إلى النثر العملي المرهِق. مع هذا، يتسم أيضًا بسِمة غنائية واثقة لا تنسجم مع قسوة الإقليم. “الخطوة الأخيرة للغروب، أيرلندا آخر أرض ترى تلاشي النهار. يكون الليل قد أرخى سدوله بالفعل على أوروبا، بينما لا تزال أشعة الشمس المائلة تصبغ المضايق والقفار في الغرب باللون البنفسجي.

لكن دع الغيوم الداكنة تتشكَّل، دع نجمًا يهوي، وفجأة تصبح الجزيرة مجددًا كما في أسطورة، ذلك المكان النائي المغطى بالضباب والعتمة، الذي مثَّل تخوم العالم المعروف للملاحين. وعلى الجانب الآخر ثمة فجوة: بحر الظلمات الذي وجد فيه الموتى يومًا أرض أبديتهم. سفنهم السوداء على سواحل بأسماء غريبة، تشهد على عصر  كان السفر فيه موسومًا بمسحة ميتافيزيقية: يستدعون أحلامًا بلا ضفاف، بلا عودة”.

 

الغرائب

دبلن مدينة تلد معرض وحوش من الغرائب، هو الأسوأ سمعة في كل العالم الغربي: خائبي الأمل بنبل، بوهيميين عدوانيين، أساتذة يرتدون الردنجوت، عاهرات فائضات عن الحاجة، سكارى سيئي السمعة، أنبياء رثين، ثوريين متطرفين، قوميين سقيمين، أناركيين مشبوبي العاطفة، آرامل متزينات بأمشاط ومجوهرات، وقساوسة في أردية ذات قلنسوات. على مدار اليوم يتبختر هذا الفوج الكرنفالي في موكب بمحاذاة نهر ليفي. في غياب مصادر أكثر موثوقية، يُمكِّننا وصف بورنيكيل[2] لدبلن من تكوين فكرة عن الخبرة التي اصطحبها فيرشويل معه، لا محالة، من الجزيرة، خبرة مرسومة في الروح، تمامًا مثلما أن الرائحة الكريهة لوجبة سمك من مصنع المعلبات القريب من الميناء مرسومة في الرئتين. مع بعض الحدس المتهور، سوف نميل لاعتبار أن هذا الحشد الكرنفالي آخر صورة رآها بطلنا ضمن تتابع سريع من الصور: ينحدر معرض الوحوش النبيل للغرائب الأيرلندية (الذي ينتمي إليه هو الآخر بطريقة من الطرق) بمحاذاة نهر ليفي بامتداد الطريق إلى المرفأ، ويختفي في الجحيم.

 

المستنقع الأسود

وُلِد جولد فيرشويل في واحدة من ضواحي دبلن القريبة من المرفأ، حيث اعتاد سماع السفن تصفر، هذا العواء الثاقب الذي يخبر القلب الغض الصالح بوجود عوالم وأقوام خارج “دبلن”؛ هذا المستنقع الأسود حيث النتانة والجور أغشم منهما في أي مكان آخر. مقتديًا بمثال أبيه، الذي ارتقى من كونه موظفَ جماركِ مرتشيًا إلى أن يكون بيروقراطيًا أحقر حتى (بالمعنى الأخلاقي للكلمة)، ومن كونه شغوفًا بالحزب القومي إلى لاعق أحذية ومتزمت، اكتسب جولد فيرشويل بغضًا لموطنه، ويعد هذا فقط أحد أقنعة وطنية منحرفة ومازوخية. “المرآة المتصدعة لخادم، الخنزيرة التي تأكل صغارها”، في سن التاسعة عشرة كتب فيرشويل هذه العبارة القاسية، التي تشير إلى أيرلندا أكثر مما تشير لأبويه.

متعبًا من الثرثرة العقيمة في الحانات الأيرلندية المظلمة، حيث تحاك المؤامرات والاغتيالات من جانب قساوسة مزيفين وشعراء وخونة، كتب جولد فيرشويل في مذكراته جملة منطوقة من طالب ما طويل وقصير النظر، دون توقع العواقب التراجيدية لهذه الكلمات؛ “أي شخص لديه أي احترام للذات لا يمكنه تحمل البقاء في أيرلندا، وعليه الذهاب للمنفى، فرارًا من بلد مضروب باليد الغاضبة لجوبيتر”.

كُتِب هذا في يومية 19 مايو 1935.

في أغسطس من العام نفسه، ركب سفينة تجارية، اسمها رينجزيند، كانت في طريقها للمغرب. بعد توقف في مارسيليا لمدة ثلاثة أيام، أبحرت رينجزيند بدون واحد من طاقمها؛ أو، للدقة، شغل قادمٌ جديدٌ مكانَ فيرشويل كعامل لاسلكي. في فبراير 1936 نجد جولد فيرشويل بالقرب من جوادلاخارا في الفرقة الأنجلو-أمريكية الخامسة عشرة، التي تحمل اسم لينكون الأسطوري. كان فيرشويل في الثامنة والعشرين من عمره حينئذ.

 

صور فوتوغرافية باهتة

هنا تتعطل، للحظة، موثوقية الوثائق الشبيهة بالرقوق الممسوحة. تمتزج حياة جولد فيرشويل وتندمج مع حياة وموت الجمهورية الإسبانية الشابة، لدينا فقط لقطتان. واحدة  مع جندي مجهول بجوار  بقايا ضريح. مكتوب على الظهر، بخط فيرشويل: “القصر. تحيا الجمهورية”، جبهته العالية نصف مغطاة بـ”بيريه باسكي[3]“،  تحوم حول شفتيه ابتسامة، يمكننا أن نستقرئ فيها (من منظور اليوم) ظفر المنتصر ومرارة المهزوم: الانعكاسات المتناقضة التي، مثل خط على الجبين،  تتنبأ بالموت الحتمي. ثمة أيضًا، لقطة جماعية بتاريخ 5 نوفمبر 1936. الصورة مهزوزة. فيرشويل في الصف الثاني، بالبيريه الباسكي لا يزال مسحوبًا على جبهته. أمام المجموعة المصطفة تمتد المناظر الطبيعية، ولن يكون من الصعب تصديق أننا في مقبرة.

أَهذا هو حارس الشرف الذي أطلق طلقات نارية في السماء أم على اللحم الحي؟  يحرس وجه جولد فيرشويل  هذا السر بغيرة.  فوق رأس صفوف الجنود، في الأزرق البعيد، تحلق طائرة مثل صليب.

 

تخمينات حذرة

أرى فيرشويل منسحبًا من ملقة سيرًا على الأقدام، مرتديًا معطفًا جلديًا أخذه من كتائبي ميت (تحت المعطف كان هناك فقط جسد نحيف عارٍ وصليب فضي معلق في خيط جلدي)؛ أراه يلقِّم سلاحًا، محمولَا على صيحة الحرب الخاصة به كما لو على أجنحة ملاك مهلِك؛ أراه في مسابقة صراخ مع الأناركيين، المرفوع علمهم الأسود على نتوءات صخرية جرداء قرب جوادالاخارا، والمستعدين للموت ميتة نبيلة وبلا معنى؛ أراه تحت السماء الحمراء الحارة بجوار مقبرة قريبة من بلباو، منصتًا إلى محاضرات فيها، كما في خلق الكون، الحياة والموت، الجنة والأرض، الحرية والطغيان كلها ثابتة داخل حدود نهائية؛ أراه يفرِغ مشط طلقات في الهواء على الطائرات، واهنًا، سقط بعدها مباشرة بالنار، والأرض والشظايا؛ أراه يهز جثة الطالب أرماند جوفروي، الذي مات بين ذراعيه في مكان ما على مقربة من سانتاندير؛ أراه ورأسه ملفوف بضمادات قذرة، راقدًا في مستشفى مرتجل بالقرب من جيخون، مستمعًا إلى هذيان الجرحى، واحد منهم ينادي الرب باللغة الأيرلندية؛ أراه يتحدث مع ممرضة شابة تهدهده، مثل طفلٍ، كي ينام، وتغني بلغة غير معروفة له، ولاحقًا، وهو نصف نائم وممتلئ بالمورفين، يراها تتسلق فراش بولندي بُترِت إحدى ساقيه، وسرعان ما يسمع بعد ذلك، كما في كابوس، الحشرجة المتألمة لحبها؛ أراه في مكان ما بكتالونيا، في مركز قيادة الكتيبة المرتجل، جالسًا أمام التلغراف، مكررًا اتصالات يائسة طلبًا للمساعدة، بينما يذيع الراديو الأغاني المرحة والانتحارية للأناركيين؛ أراه يعاني من التهاب الملتحمة والإسهال، وأراه عاريًا حتى الخاصرة، يحلق بجوار بئر مياهها مسممة.

 

بين الحركات

في آخر مايو 1937، بمكان ما في ضواحي برشلونة، طلب فيرشويل لقاء قائد الكتيبة. بدا القائد، الذي تجاوز الأربعين بقليل، مثل عجوز معتنٍ بنفسه. منحنيًا على مكتبه، كان يوقع أحكامًا بالموت. بجواره وقف مساعده، مرتديًا بزة مزررة حتى عنقه وحذاء صيد عالي العنق لامعًا، وراح يضغط ورقة نشّاف عقب كل توقيع. كانت الغرفة خانقة. مسح القائد وجهه بمنديل من قماش الباتيتسا. وسُمِع دوي انفجارات إيقاعية لقنابل يدوية ثقيلة في البعيد. أشار القائد لفيرشويل كي يتحدث.

“رسائل مشفرة تصل إلى الأيدي الخطأ”، قال فيرشويل.

“أيادي من؟” سأل القائد شارد الذهن نوعًا ما. تردد الأيرلندي، ناظرًا إلى المساعد بارتياب. حينئذ تبنى القائد معجم فردان[4]: “تكلم يا بني. في أيدي من؟”

كان الأيرلندي صامتًا للحظة، ثم انحنى على المكتب وهمس شيئًا في أذن القائد. نهض القائد، تقدم نحو فيرشويل، ورافقه نحو الباب، مربتًا كتفه، طوال الوقت، بالطريقة التي يُربَّت بها المجندون والحالمون. كان هذا كل شيء.

 

استدعاء للسفر

قضى فيرشويل ليلة جهنمية بين 31 مايو و1 يونيو أمام تلغراف مورس، مرسلًا رسائل للمواقع الأمامية باتجاه جبال ألميريا. كانت الليلة رطبة وتنيرها الصواريخ، التي جعلت المنطقة تبدو غير واقعية. قبل الفجر مباشرة سلَّم فيرشويل التلغراف لشاب باسكي. سار الأيرلندي عشر خطوات داخل الغابة، ومنهكًا، رقد ووجهه لأسفل على العشب المبلل.

أيقظه رسول من القيادة، نظر فيرشويل أولًا إلى السماء، ثم إلى ساعته؛ لم ينم سوى لواحد وأربعين دقيقة. أمره الرسول بنبرة لا تلائم رتبته العسكرية: هناك سفينة في الميناء، جهاز اللاسلكي فيها لا يعمل، ينبغي إصلاحه؛ حين تُنجَز المهمة، يجب رفع تقرير إلى الرجل الثاني في القيادة؛ تحيا الجمهورية! اندفع فيرشويل إلى الخيمة، التقط الحقيبة الجلدية التي تحتوي على أدواته، وانطلق مع الرسول إلى الميناء. أثناء الليل، كتب أحدهم شعارًا انتصاريًا بطلاء أبيض لا يزال ينقط، على باب مكتب الجمارك: يحيا الموت، في  عرض البحر، بعيدًا عن رصيف الميناء، كان ثمة خيال سفينة، حدوده مرسومة عبر ضباب الصباح. تبادل الرسول والبحارة في زورق التجذيف كلمات سر غير ضرورية. ركب فيرشويل زورق التجذيف دون النظر إلى الخلف.

 

الباب المطلي بالنحاس

طفا الخشب المتفحم في كل مكان، بقايا سفينة نُسِفت خلال الليل، شاهد فيرشويل البحر الرمادي المغبر، وذكره هذا بأيرلندا المحتقَرة والمستحِقة للاحتقار. (مع أننا، لا يمكننا تصديق عدم وجود لمسة من النوستالجيا في احتقاره هذا.)

كان زملاؤه المسافرون صامتين، مشغولين بمجاذيفهم. سرعان ما بلغوا السفينة، ولاحظ فيرشويل أنهم مراقَبون من السطح العلوي لها؛ سلّم قائد الدفة منظارًا ثنائي العدسات للقبطان.

هنا فيما يلي بعض التفاصيل التقنية، غير المهمة للقصة ربما. كانت السفينة باخرة خشبية قديمة تزن خمسمائة طن وتنقل، بشكلٍ رسمي، فحم الإنثراسيت[5] إلى منطقة روان الفرنسية الجافة. كانت أجزاؤها النحاسية؛ المقابض، المزاليج، الأقفال وإطارات النوافذ، ملطخة بالأخضر تقريبًا. وكان من الصعب التعرف على عَلَمها المغطى بالسُّخَام.

تسلق فيرشويل سلم السفينة ذا الحبال الزلقة، مصحوبًا بالبحارين من زورق التجذيف (أراحه أحدهما من حقيبته الجلدية، كي يسهِّل على الضيف التسلق)، لم يكن هناك أحد على السطح. أخذه البحاران إلى كابينة بالأسفل. كانت الكابينة فارغة، وكان الباب مطليًا بالنحاس الملطخ نفسه، سمع فيرشويل صوت إدارة المفتاح في القِفل. لاحظ في الوقت نفسه، بغضبٍ أكثر منه برعبٍ، أنه وقع في فخٍ بسذاجة، مثل أحمق.

دامت الرحلة لثمانية أيام. قضى فيرشويل هذه الأيام والليالي الثماني أسفل السطح، في كابينة ضيقة مجاورة لغرفة المحرك، حيث حطمت ضجة المحركات، المُصِمّة للآذان، تيارَ أفكارِه ونومَه مثل حجر الرحى.

في تصالحٍ غريبٍ مع قدره (مخادع جدًا، كما سيُرَى)، لم يدق على الباب، لم يستغث. بدا أنه لم يفكر حتى في الهرب، وهو ما كان غير ذي جدوى على أية حال. في الصباح يغتسل في الحوض الصفيح، ثم يلقي نظرة على الطعام (رنجة، سلمون، خبز أسود، يمنحونه إياه ثلاث مرات في اليوم من خلال الفتحة الدائرية في الباب)، ودون لمس أي شيء باستثناء الماء، يرقد مجددًا على سرير البحار الصلب. قد يحدق عبر الكوة في الأمواج الرتيبة للبحر . في اليوم الثالث، أفاق فيرشويل من كابوس: على المقعد الضيق المقابل لسريره، جلس رجلان يراقبانه بصمت. فجأة وقف فيرشويل.

 

رفيقا السفر

بعيون زرقاء وأسنان صحية بيضاء، ابتسم الزئران لفيرشويل وديًا. بتهذيب غير طبيعي (غير طبيعي بالنظر إلى الوقت والمكان)، نهضا في الحال، وقدما نفسيهما، وهما يهزان رأسيهما قليلًا. بالنسبة لفيرشويل، الذي قدَّم نفسه، بدت مقاطع اسمه فجأة غريبة وأجنبية تمامًا.

قضى الرجال الثلاثة الأيام الخمسة التالية في الكابينة الحارة الضيقة خلف الباب المطلي بالنحاس في لعبة حظ مروعة، أشبه بلعبة بوكر بثلاث أيدٍ، يدفع الخاسر فيها حياته ثمنًا لخسارته.

يقاطعون نقاشهم فقط لخطف قطعة رنجة مجففة (في اليوم الرابع بدأ فيرشويل يأكل هو الآخر) أو لينعشوا حلوقهم الجافة ويأخذوا استراحة من صياحهم (وحينئذ أصبحت ضجة المحركات المُصِمّة للآذان مضاد الصمت فقط)، تحدث الرجال الثلاثة عن العدالة، عن الحرية، عن البروليتاريا، عن أهداف الثورة، محاولين بحدة البرهنة على معتقداتهم، كما لو أنهم قد اختاروا عن عمد، هذه الكابينة شبه المعتمة في سفينة مبحرة في المياه الدولية، باعتبارها الأرض الموضوعية والمحايدة، الوحيدة الممكنة، للعبة الجدل والشغف والإقناع والتعصب الفظيعة هذه.

بأكمام مرفوعة، عرقانين وغير حليقين، منهكين من شبه الصوم، أوقفوا النقاش تمامًا مرة واحدة: في اليوم الخامس، ترك الزائران (إضافة لاسميهما، كل ما كان معروفًا عنهما أنهما في حوالي العشرين من عمريهما وليسا من طاقم السفينة) فيرشويل وحده لعدة ساعات. خلال هذا الوقت، سمع الأيرلندي، عبر ضجيج المحركات المُصِمّ للآذان، معزوفة “فوكستروت” مألوفة آتية من سطح السفينة. قبل منتصف الليل تلاشت الموسيقى فجأة، وعاد الزائران، مخمورين. أخبرا فيرشويل أنه كان هناك احتفال على متن السفينة: اُستلِمت برقية بعد الظهر من جانب عامل اللاسلكي، أخبرتهم أن سفينتهم، فيتبِسك[6]، غيرت اسمها إلى أوردزونيكيدز[7]. عرضا عليه بعض الفودكا. رفض خوفًا من التسميم. فهم الرجلان وأنهيا الفودكا، وهما يسخران من سوء ظن الأيرلندي. قاطع التوقف المفاجئ وغير المتوقع لضجة المحرك المحادثة في الكابينة على نحو مباغت، كما لو كان هذا الإيقاع المهلِك هو الطقس المرافق الذي منح، حتى هذه اللحظة، الزخم والإلهام لأفكارهم وحججهم. كانوا الآن صامتين، ساكتين كليًا، يستمعون إلى صوت تناثُر الأمواج على جانبي السفينة، وإلى الوقع المكتوم للخطوات على السطح، والاحتكاك المطول للسلاسل الثقيلة. كان الوقت بعد منتصف الليل حين فُتِح باب الكابينة، وترك الرجال الثلاثة أماكنهم مغمورة بأعقاب السجائر وعظام السمك.

 

الأصفاد

ألقت فيتبِسك – أوردزونيكيدز مرساتها في عرض البحر على بعد تسعة أميال من لينينجراد. من جماع الأضواء البعيدة على الساحل، سرعان ما انفصل ضوء واحد واتسع، فيما حملت الريح، مثل حارس متقدم، ضوضاء القارب الذي كان يقترب من السفينة. ثلاثة رجال في زي رسمي، أحدهم برتبة نقيب، والآخران بلا شارات، تقدموا صوب فيرشويل ووجهوا بنادقهم إليه، رفع فيرشويل ذراعيه. فَتَّشوه، ثم ربطوا حبلًا حول وسطه. هبط فيرشويل بامتثال سلم الحبال إلى الزورق الآلي، حيث قيدوه في المقعد. راقب الظل الشبحي للسفينة مضاءً بالكشافات. رأى رفيقيه يهبطان أيضًا السلم بحبلين مربوطين حول خاصرة كل منهما. سرعان ما جلس الثلاثة جنبًا إلى جنب مقيدين إلى المقعد.

 

الحكم العادل

في الغالب سوف تبقى الحصيلة الحقيقية لمعركة الأيام الستة الكلامية، التي خاضها الأيرلندي جولد فيرشويل ورفيقاه المسافران، سرًا أمام الباحث المعاصر. سيظل أيضًا سرًا نفسيًا، وقانونيًا على نحو مثير للاهتمام أكثر،  إن كان ممكنًا لرجلٍ محاصرٍ بالخوف واليأس أن يشحذ حججه وخبرته حد القدرة بلا ضغط خارجي وبلا استخدام للقوة أو للتعذيب، أن يثير الشك في كل ما تم تطويره على مدار سنوات من التنشئة والمحاضرات والعادة والتدريب، في وعي رجلين آخرين، إذن، ربما، لا يبدو قرار المحكمة العليا، التي، وفقًا لعدالة أسمى، نطقت بالحكم نفسه (ثمانية أعوام سجنًا) لكل واحد من الثلاثة المشاركين في لعبة الإقناع الطويلة تلك، اعتباطيًا بالكامل.

لأنه حتى إذا كان يُعتقَد أن الرجلين قد نجحا، عبر الجدل الأيديولوجي الكثيف والمجهِد، في تبديد شكوك معينة كانت قد ظهرت في رأس الجمهوري فيرشويل (شكوك بعواقب محتملة بعيدة المدى)، كان ثمة شك مبرر تمامًا مفاده أن الرجلين الآخرين شعرا أيضًا بالتأثير المميت لبعض الحجج المضادة: في المعركة عديمة الرحمة بين خصمين متكافئين، مثلما في مصارعة ديوك دموية، لا أحد يخرج غير متضرر، بغض النظر عن أي طرف يسير مبتعدًا بصحبة المجد الفارغ للانتصار*.

 

خاتمة

نفقد أثر رفيقَي فيرشويل في مورمانسك[8]، على ضفاف بحر البلطيق، حيث رقدا لفترة خلال الشتاء الفظيع لعام 1942 في نفس القسم بجناح العيادة الخارجية لمعسكر السجن، نصف كفيفَين ومهزولين بداء الإسقربوط: كل أسنانهما سقطت، وبدوَا مثل رجلين مسنين. اغتيل جولد فيرشويل في نوفمبر 1945، في كاراجاندا[9]، عقب محاولة فرار فاشلة. عُرِضت جثته المجمدة العارية مقيدة بسلك ومعلقة بالمقلوب، أمام مدخل المعسكر كتحذير لكل من يحلمون بالمستحيل.

 

حاشية

في المجلد التذكاري “أيرلندا إلى أسبانيا”، الذي أصدره اتحاد قدامى محاربي دبلن، ورد اسم جولد فيرشويل بالخطأ ضمن قرابة مائة جمهوري أيرلندي قُتلوا في معركة برونيت[10]. هكذا تمتَّع فيرشويل بالمجد المُر المتمثل في إعلان وفاته قبل موته الفعلي بقرابة ثمانية أعوام. معركة برونيت الشهيرة، التي شنتها كتيبة لينكون بشجاعة وقعت في 8 و9 يوليو من عام 1938.[11]

*خلال الاستجوابات، أنكر فيرشويل بعناد، أنه في ذاك اليوم المشؤوم، قد همس في أذن القائد بأن الرسائل المشفرة تصل إلى موسكو، لم يكن بمقدوره أن يعلم أن المحقق كان أمامه تقرير من الرجل الثاني في القيادة، وفيه كانت كلمات فيرشويل، التي تعبر عن الشكوك الخطيرة والمدنسة بأن “عملاء السوفييت السريين يحاولون انتزاع مواقع القيادة في الجيش الجمهوري”، مكررة حرفيًا. كشف لقاء قصير مع الرجل الثاني في القيادة، تشِليوستنيكوف، في محطة “ترانزيت” بكاراجاندا، هذا السر له: أخبر القائدُ مساعدَه ببلاغ فيرشويل السري كما لو كان نكتة مضحكة*.

 ……………………………….

  • (1) العنوان حرفيًا يعني الخنزيرة التي تلتهم خنانيصها (صغار الخنزير) المولودة في بطن واحد، وفضلنا العنوان المختار لأنه أسلس ويفي بالمعنى المراد في آن.
  • القصة من مجموعة “قبر لبوريس ديفيدوفيتش”، والترجمة نقلًا عن ترجمة دوشكا ميكيتش ميتشيل للعمل إلى الإنجليزية.
  • دانيلو كيش (1935:1989)، أحد أهم الكتاب اليوغسلاف، ومن أهم كُتَّاب القرن العشرين، من أعماله: “ساعة رملية”، “قبر لبوريس ديفيدوفيتش”، “العود والندوب” و”موسوعة الموتى”.

[2] الإشارة إلى الشاعر والكاتب الفرنسي كامي بورنيكيل؛ مؤلف كتاب “أيرلندا”.

[3] نسبة إلى إقليم الباسك.

[4] الإشارة إلى واحدة من أعنف معارك الحرب العالمية الأولى وأكثرها دموية.

[5] يُعرَف أيضًا بالفحم الصلب وهو من أجود أنواع الفحم.

[6] مدينة وإقليم في روسيا البيضاء.

[7]  مدينة روسية تسمى حاليًا فلاديكافكاز أو فلاديقوقاز.

[8] مدينة روسية.

[9] في كازاخستان.

[10] من معارك الحرب الأهلية الإسبانية بين القوميين والجمهوريين.

[11] هكذا ورد في الأصل، والصحيح أنها دارت في الفترة من 6 إلى 25 يوليو من عام 1937.

 

مقالات من نفس القسم