أكرم محمد
موت:
“لم يكن يعرف، حقًّا، كيف لشخص حقيقي، من لحمٍ ودم، له عيون كتلك التي يراها في الصور المعلقة للمشاهير، أن يفقد عضواً مهمًّا: حياته.
اعتاد فراق الأعضاء، وفي صغره قالوا: ذراعاه سبقتاه إلى الجنة. لم يكن المقربون، لبساطتهم، يعلمون أن ذراعيه لا تزالان في رحم أمه العجوز، تنموان، كشخص يعي تمامًا أنه عضوٌ مفقود لرجل شبه كامل.
أمَّا حين فقد خصلات شعره، قالوا: كل شباب المدينة هكذا، يرثون الصلع ورائحة السجائر الرخيصة من آبائهم.
لكن فقد حياته لم يتوقعه.
حين ماتت أمه، لم يعلم أن ذراعيه في القبر، تبحثان عن إنسان، لتودّعا منزلهما، الرحم، قائلتين: الأم لم تكن سمينة، هي فقط، حملت أعضاء رجل ميت.”
دهشة:
١
كنت أتعجب صغيرًا في أثناء مشاهدة الأفلام مع أمي،
حين ينطق شخوص الفيلم أغنياتهم الخاصة،
وبينما أحاول ترديدها بمحاكاة أصواتهم التي تليق بأبطال السينما،
تقول إنها أصوات مستعارة لمطربين آخرين!
أتعجب كيف لأحدهم سرقة صوت رجل ما، بمكان ما، ووضعه على وجهه! وللعجب، يصبح الصوت ملائما له، كأنه نطق به في رحم أمه العجوز، ذلك البيت الرحب حد أنه يتسع لتدحرج عاشقين، أو بقبر أبيه، ذلك المنزل الضيق حد أنه لا يتسع لشفة ذابلة.
٢
عمراً بأسره،
كنت أظن هذه رائحة أبي،
رائحة تخصه لا تلمس أنفي إلا برؤية وجهه،
حتى التهمتني السجائر الرخيصة التي يشربها،
لأشتم الرائحة نفسها،
وأعلم أنها، في الأصل، الرائحة التي تتركها السجائر بملابس أبناء روادها
٣
في كل مرة يصفعني وجهٌ نحيفٌ بالمدينة،
أقول: هذا وجهي المسروق!
وجه ابتلعته السجائر الرخيصة،
التقطه العابرون محاولين سرقة ملامحي،
ونسيت أمي أن تلفظ بقيته من الرحم،
حتى الآن تنمو بقايا وجهي في رحمها، ككائن آخر يعي تمامًا أنه بقايا وجهي، أنه ابن آخر لأم لن تلفظه، معتبرةً انتفاخه الملحوظ سمنة طبيعية، وتحاول تقليل طعامها، غير مدركة أن بقايا وجهي تتخمها.
وكما يفعل الأطباء دائمًا، تركوا رحمها بجسدها، بكل تلك الوجوه داخله، وجوه لم تولد لرجل تصفعه الوجوه النحيفة.
سأقف يومًا أمام بوابة الأعضاء المسروقة،
أتساءل عن كل ما فقدته من وجهي،
وأقول، بصدق لم أجربه بحياتي:
لماذا لم أملك ملامحي؟
لماذا لم يترك لي العابرون بعض اللحم في رأسي؟”
حياة:
يومًا ما،
بصق طفل على وجهي بينما يركض هاربًا من عربة نقل الموتى،
حتى الآن لا أحصي الأطفال الذين ولدوا على وجهي مشكلين تجاعيد عديدة تبتسم في وجه السماء، أبناء لا يعلمون، بعددهم اللانهائي، أنهم ولدوا من بصقة طفل هارب.
المهنة:
“النشالون أيضاً لديهم الشاعرية الكافية، لحفظ مدينة بأكملها بجيوبهم.
في عيون كل نشال بالمدينة يوجد فقد، شيء ما يريده، ولا يقدر على مواراة الفقد في عينيه، كبحث أخير عن ظل يهوى الخلود، ظلٍ لشيء مفقود، لن يعود المفقود كما كان، بعد أن بات ليالٍ في جيب شخص آخر، مرآة للمالك الأول”
قصة الحب المعطلة:
تلك بقايا هدية ابتاعتها لك من فم رجل عجوز يزور قبره المستقبلي، قبر أبيه ذي الجسد المحلل، لم تأخذيها، أخذتِ فقط، نصفها، يا للعجب، تحولت مع الوقت لقبر طفل، لم يستق الطبيب دموعه، ليتأكد، كما يفعل الجميع مع لحظات الميلاد، أنه حي، يملك عينًا تذرف دموعًا، ليستحق ذلك اللقب المعتاد لأبناء الأرحام المُوَدعَة: مولود.
سأتركها هنا، بجانبي، لا لأتذكرك، كما يليق لعشاق الحكاية المبتورة، بل لأدفن نفسي بها في لحظة ما، يعلمها الجميع، بمن فيهم الرب ذاته، إلا أنا، حين أعلم أن الرضيع بداخلها ترك لي مكانًا، قال: هذه بالأساس ملكك، نام بجانبي للأبد، حتى أتأكد أنني حي ويستمع الطبيب لدموعي
وقائع الموت الكامل لهدية:
١
هكذا سأنهار أمامك،
سأضع كل لحظات الانتظار في كفك،
لن تبقيها بيدك،
ستعطيها للسماء،
لتعطيني سُحُبًا عوضًا عن تلك اللحظات،
سُحُبًا أنام عليها وأنا أحلم بك،
أتذكر دقائق قليلة جمعتنا كمحبين، دقائق، يا للعجب، لم تكن كافية لأن تكون عمرًا..
سأختصر حكايتي معك في جنيهات جلبت بها هدايا بسيطة، جلبت عينًا، وطريقًا، وساعة..
قلت لك انتظريني عند بداية الشارع، أنت انتظرتني، لكنني علمت، برؤية ذلك الرجل العجوز الذي يقترب من الموت، أن الطريق لن يتسع لكلينا..
قررت أن أضع نفسي فوق السحب، وعوضًا عن انتظارك، أراقبك وأنت تنتظريني..
وبدورك كنت تعلمين أنني الشخص الذي راقبك كثيرًا، ثم تركك، لأن السحب لن تعوضّك عن طول انتظاره..
٢
يومًا ما،
سأحمل كل الأفلام التي أحبَّتها عيناك..
سأصبغ عينيك النادرتين بلون عينيَّ الأسود، وأعطيك رؤيتي للأفلام، علك تتذكرين أنني غيَّرت شيئًا قبل غيابك
الحب كما عهدته كان الثواني، اللحظات، الدقائق، التي لا تكفي لتكون عمرًا..
لكنها تكفي لتتذكر المدينة أن أحدًا مر من هنا، ونظر في أعين لن تبقى كثيرًا.. أعين لن يقتلعها بنفسه، بل المدن التي لم يزوراها معًا..
ستتذكر المدينة أيضًا كل الحيل التي مارستها، كأن أمد الطريق، أزيد من حجمه، كأن أقتل كل سائقي الأجرة، الذين يختصروا المسافة، بدلًا من أن تسيري معي في الطريق الذي مددته بشعر أمي المقتَلع، الذي سرقته منها كلما قبلتها.
٣
بينما أراقبك من السحب التي أهديتها لي، علمت حكاية أخرى للكون، حكاية لن يعلمها إلا العشاق المعطلون:
حاول طفل التقاط سحابة وتذوق سكرها، قبل أن تفقد مذاقها الحلو بالتقاط بائع غزل البنات لها، ذلك الطفل كان الابن الأول للكون، ذلك الذي حاول النفخ بالكون؛ ليصبح له زملاء بالكون، إلا أنه، لمأساة إضافية للكون، سيفقد كل السحب التي لامسها، لن تصبح حلوى كحلوى بائع غزل البنات، ولن يصبح له زملاء بالكون، سيظل يركض من شرق الكون لغربه، سيقول بصوت مرتفع أريد جسدًا إضافيا أركض به، جسد ككل الكائنات يمكن وصفه بدقة.
يشبهني ذلك الطفل كثيرًا، يملك قصة لخلق الكون، قصة سأعترف بها عمرًا بأسره، متغاضيًا عن النتيجة النهائية للإيمان بقصة خلق موازية، متغاضيًا عن العذاب الذي سألاقيه بالعمر الآخر، عمر العجائز الذين ودعوا أرواحهم بعربات نقل موتى.